الإنصات هو الاستماع بانتباه للآخر حين تضع نفسك مكانه لتفهمه بعمق. لم تبرز مقولة الإنصات بمنأى عن تحولات سوسيولوجية عميقة عرفتها المجتمعات الرأسمالية، أولاها القيمة التي أصبحت للفرد والتي أعطتنا الفردانية كذهنية وكتجربة وكحزمة من الاشتراطات التي من أبرزها رغبة الأفراد في أن يقع الإنصات لمشاغلهم، لتطلعاتهم ولكل ما يتصل بحياتهم. وثانيها تدارك المنظومة الرأسمالية لأمرها وتجاوزا لصعوباتها حين بدأت تتنازع مع النقابات العمالية خصلة الإنصات لمواردها البشرية. عليك بالبحث عن من ينصت إليك، تلك هي الوصفة السحرية التي تستطيع أن تحلّ كل مشاكلك. وحده الإنصات، كفيل بأن يعفيك من نصف المشكل. الإنصات في كل مكان تقريبا، على شاشات التلفزة، على أريكة المحلل النفسي، على أمواج الأثير وعلى الخطوط الهاتفية الخضراء وعند العرافين. الإنصات إليك طريق إلى الاعتراف بك.
أين مدرستنا من هذا الإنصات؟ هل هو جزء من ثقافتها ومن رؤيتها لمهامها؟
من الصعب أن يكون الإنصات جزءا من ثقافة المدرسة. لم تكن المدرسة وهي المصدر الوحيد للمعرفة قادرة على الإنصات لتلاميذها، هي صاحبة السلطة المطلقة في المجتمع، هي التي تعطي فرص الصعود الاجتماعي وهي التي تبني القيم وتنشرها وهي التي تتولى التنشئة الاجتماعية لمرتاديها من التلاميذ. في كل دول العالم تهيمن المدرسة على كل شيء تقريبا وهي أيضا مطالبة بكل شيء. الآخرون هم المطالبون بالإنصات إليها وليس العكس.
المدرسة مع هذا كله مؤسسة محافظة لأنها نشأت من رحم الكنيسة في أوروبا ونشأت أيضا من رحم المساجد في المجتمعات العربية والإسلامية، كاد المعلم أن يكون رسولا. ولهذا تتصرف المدرسة إلى الآن وكأنها مؤسسة دينية من الصعب اقتحامها وإصلاحها وفتح مجالاتها نحو آفاق أوسع. الخطاب حول المدرسة كما يصوغه الفاعلون الذين لهم علاقة بها، خطاب مقدس، خطاب ديني في عمقه وحتى الخطاب النقابي غير بعيد عن ذلك بالمرّة. الكلمة المفتاح في خطابهم دون استثناء هي المدرسة كحرم، كحرم مكّي تقريبا لا يجوز في كل الأحوال انتهاكه تحت أي مسمّى. مقولة الشيخ والمريد هي أيضا المقولة المهيمنة على المدرسة وهي المقولة التي تتحكم تقريبا في صناعة المعرفة داخلها.
أتت الحاجة إلى الإنصات لأن المدرسة لم تعرف من قبل هذا الحجم من المشكلات الاجتماعية التي ورد عليها. لم يكن ذلك مطروحا على المدرسة التونسية في السبعينيات والثمانينيات مثلا. دخلت المراهقة إلى المدرسة وأصبحت معطى جديد، وعلى هذه المدرسة أن تتعامل مع هذا الوافد عليها. واقترح عليها الإنصات لهؤلاء المراهقين وأن تجد لهم حلولا. دخلت المخدرات أيضا إلى المدرسة وهي موجودة في محيطها، وبلغ العنف تجاه المدرسين والإطار التربوي نسبا غير معهودة. ودخلت الرقصات وطقوس الباك سبور ساحات المعاهد، والمدرسة تجاه كل هذا حائرة كيف تتصرف. هي في مفترق طرق بين تكريس القيم التي أنشأت من أجلها وبين التحولات السوسيولوجية الجديدة. وهنا تكمن أزمتها الكبيرة.
هل تنصت المدرسة بما فيه الكفاية إلى الذكاءات المتعددة لتلاميذها مثلا؟
ليس من الوارد أن تفعل المدرسة ذلك. هي أسيرة ذكاءات محددة متصلة بالعلوم وباللغات لا غير، فهي لا تبدي اهتماما بذكاءات مثل ذكاءات الفنون والبيئة والتصرف في المجال وفي تطوير القدرات الاتصالية. ونتيجة ذلك مغادرة عدد كبير من التلاميذ لمدرستهم لأنهم فشلوا في أن يكونوا أذكياء فيما قالت المدرسة أنها الذكاءات التي تحقق النجاح دون غيرها.
لا تنصت المدرسة إلى احتياجات تلاميذها، الأولياء هم الذين يقومون بذلك وبكل حرص، إنهم ينصتون فقط إلى أعداد أبنائهم...