إلى مسكويه الذي أجاب عنها في ما سماه التوحيدي نفسه: «الشوامل». ذهب بعضهم في تأويله إلى أن التوحيدي أراد بأسئلته أن يحرج مسكويه في ضرب من امتحان معرفته الفلسفية، تلك المعرفة التي سيقول عنها في الليلة الثانية من الإمتاع والمؤانسة إنها معرفة متأخرة لكون صاحبها انشغل عنها طويلا بالكيمياء، فلما جاء إلى الفلسفة لم يكن إلا شاديا (محاكيا ومقلّدا وآخذا بالأطراف)، وذهب البعض الآخر (أركون مثلا) إلى أنّ الكتاب قد جمع بين أسئلة الوجدان الثائرة والملحّة والمعاندة، وبين برود الحكمة و»موضوعيتها» ومدرسيتها. لقد كان التوحيدي مفكر الاستنكار والإحراج والتحدّي واستهجان كل البداهات، كان مفكر مأساة اليومي الذي يطاول العبثي دونما خجل ولا توقير، ولا يتخلف عن أي فرصة تتيحها له الأسئلة ليفضح سكوت العقل البارد عن مظالم الحياة، وقيام العلم على ضرب من تهميش العيان وإعلاء العبرة المجردة.
ليس هذا مجالا للتوسع في تأويل لقاء التوحيدي بمسكويه، ولا في رسم ملامح شخصية كل منهما. وقد كنت كتبت عن هذا الكتاب ما سينشر قريبا في مناقشة مفهوم الـ» Humanisme arabe» الذي ترجمه هاشم صالح، في 1997، ترجمة ركيكة، غير فاهمة أصلا، بعبارة «الأنسنة العربية»، لأنه، قبل ذلك، قام على تمثل أركوني مبتور وفضفاض للمفهوم الغربي.
إن حدسنا الرئيسي ضمن هذا المقال «المضغوط» هو أننا مع جدل التوحيدي ومسكويه، هذا الجدل الذي ذهب أركون إلى حد التلميح، ولكنه تلميح لا يقوم على حجة، بأنه قد يكون محاكاة للمحاورة الأفلاطونية، أننا بمحضر جدل بين تقليد سقراطي ضمن الثقافة العربية، وتقليد أفلاطوني أرسطي: سنكتفي هنا بأن نخصص التقليد السقراطي بكونه تقليدا غير نسقي، لا ينتمي بعد إلى تقاليد الفلسفة النسقية، بل هو أقرب إلى ضرب من «الإيثيقا الجدلية» كما سيقول غادامير، في حين نخصص التقليد الأفلاطوني الأرسطي بكونه تقليد الفلسفة النسقية التي تتحدد كل أجزائها بحسب مبدإ يتحكم فيها وتكون هي مستنتجة منه. وحدسُنا أن التوحيدي هو الذي يمثل هذا التقليد السقراطي الذي تنخرط ضمنه وجوه فلسفية سنأتي إلى الكشف عنها لاحقا، وأنّ مسكويه هو الذي يمثل التقليد الأفلاطوني الأرسطي، أعني تقليد الرفع (sublimation) الفلسفي لليومي ضمن المفهوم.
أن أسئلة التوحيدي صادرة عن نفس ثائرة لا تتردد في رفع التناقضات وفضحها وكشف تفاصيلها، وفي تسمية الشر شرا من غير مداورة، فليس ذلك في حد ذاته حرج أمام الفلسفة. فمهمة الفلسفة قد تحددت دوما في عدم التهرب من الأسئلة. ولكن الحرج يكون حقيقيا عندما يعمد الناطقون باسمها إلى التخفي وراء
ضرب من «الإلغازية» العامة التي تعمد كما قال ميرلوبونتي، محيلا في التقريظ على برغسون، إلى إعلاء «الحكمة الإلهية التي تجعل من الشر خيرا أدنى». إننا هاهنا أمام إشكالية مركزية في الفلسفة: هي إشكالية العدل، الذي ليس فقط عدل مجازاة الأفعال على قدر الإذاية، وليس إنصاف الناس بحقوقهم، وإنما هو الصورة النموذجية للعدل، أعني العدل الإلهي، أعني عدالة الإعطاء مقابلا للفضيلة، والحرمان مقابلا للنقص.
نحن نعرف جيدا أن هذا المبحث مبحث تقليدي، وأن هذا السؤال لم يثر فقط بين التوحيدي ومسكويه، ولكن يراد لنا اليوم أن نقتنع بنظرية العدل لدى فيلسوف لم يقبل حتى أن يستمع إلى صرخة محاوره التي لا تخفى وجاهتها على أي عقل.
قال التوحيدي في المسألة 88 من الهوامل والشّوامل مخاطبا صديقه مسكويه الفيلسوفK ما نختصره في هذا المقطع:
«حدثني عن مسألة هي ملكة المسائل والجواب عنها أمير الأجوبة، وهي الشّجا في الحَلق، والقَذى في العين، والغُصّة في الصَّدر، والوقْر على الظَّهْر، والسُّلُّ في الجسم، والحسرةُ في النفس ... (وهذه المسألة) هي حرمانُ الفاضل و إدراكُ الناقص؛ ولهذا المعنى خَلع ابن الراوندي رِبْقة الدّين وقال أبو سعيد
الحصيري بالشّك، وأَلْحَد «فلان» في الإسلام، وفلان في الحكمة...»
ويضرب التوحيدي مثال أبي عيسى الوراق، منتهيا إلى أن «البحث في هذا السرّ واجب، فإنه باب إلى روْح القلب وسلامة الصدر، وصحّة العقل ..»
ويعلّق محمد أركون على هذا المقطع تحديدا بأنه يحمل جرأة التوحيدي، وبحثه اللامحدود عن فائض روح وفائض حقيقة. ولكن جرأة التوحيدي في رأينا لا تقف عند هذا الحد: إنها تتمثل خاصة في تأهيل الموضوعات اليومية لتكون موضوعات تأمل فلسفي: لذلك لا يمكن أن نهمل سؤاله مثلا عن استنكار بعضهم انتقال الإنسان من مذهب إلى مذهب، بل واستقراره في حال من عموم عدم الحقيقة واليقين، ولا يمكن أن نهمل سؤاله (في المسألة 82) عن الحكمة من اعتبار الناس من جهة متساوين في الشرف مع أنهم من جهة ثانية متباينون: أليس يلجئنا هذا التباين إلى الاعتراف بأنهم إما مقهورون أو جهلة؟ ولا يمكن أن نتغافل عن سؤاله (المسألة 142): لم صار الحظر يثقل على الإنسان؟ أو عن سؤاله (المسألة 65) عما يدفع الإنسان إلى قتل نفسه بسبب الإخفاق أو الحاجة والعجز أو عدم مؤاتاة ما يجد لما يطلب ..
كل تلك أسئلة لا تنطلق من كتب الفلاسفة، وليس من عادتهم الخوض فيها. إن ما يجدّ مع أبي حيان هو دخول الوعي اليومي إلى أسئلة الفلسفة على نحو محرج، مستنكِر: هي أسئلة محرجة للملّة، وللأخلاق، ولكنها خاصة محرجة للفلسفة، لأنها غير تقليدية فيها. لقد ترسّخت الفلسفة على أن تجيب عن أسئلتها؛
وهي لم تتعود بعد أن تجيب عن أسئلة لا هي تستطيع أن تنكر إمكانها، ولا هي تستطيع أن تجيب عنها إلا بمداورات كبرى. إنّ هذه المداورات هي التي نريد أن نجرّبها على المسألة 88 التي تطرح قضية العدل كإنصاف، تفترض أنه مطلوب بحسب معيار استحقاق هو الفضيلة: كيف يمكن أن يكون الفاضل محروما ؟ والناقص مدركا مبسوطا؟
إن الاضطلاع الفلسفي الذي ننتظر أن يكون من شأن مسكويه اضطلاع مخيب للانتظار: فهو أولا يحيل على «الكلال» و»السآمة» من كل خوض فيها. وهو ثانيا يعتذر بأنه لا يعرف في هذه المسألة «كلاما مبسوطا» لمن سبق من المتقدمين. وعندما يمر مسكويه إلى جواب المسألة فإنه يحيل على ما تشترك فيه الموجودات من ترتيب كل منها وفق غاية وكمال، لينتهي إلى الإنسان ليست غاية وجوده «الاستكثار من القنية والتمتع بالمآكل والمشارب»، وإنما غايته تحصيل العلوم والمعارف، وإعمال الرّويّة والفكر واختيار الأفضل، أي ما تكمل به صورة الإنسانية لبلوغ المنازل الشريفة التي لا يباح بها لغير أهلها. مما يجعل القنيات التي شخّص التوحيدي حالة الحرمان في عدم تحصيلها لا تكون من جوهر الغاية التي لأجلها كون الإنسان.
إن إجابة مسكويه تبرر إذن حرمان الفاضل بكون ما يطلبه ليس من شأنه، وإدراك الناقص بكون ما يحصله هو من طبيعته وجوهره المخصوص. لا حاجة بي إلى أن أستقرئ مدى اقتناع التوحيدي بجواب مسكويه. هل العدالة أن لا ينال الإنسان بحسب ما يستحق؟ وإذا كان الاستكثار من القنيات والتمتع بالمآكل
والمشارب خارجا عن جوهر الإنسان فلم جعل الله جزاء الآخرة يكاد ينحصر فيها. تلك أسئلة لا يطرحها التوحيدي لأن الهوامل والشّوامل كتاب أسئلة وأجوبة وليس، كما ظن أركون، شبيها بحوار من الحوارات السقراطية التي تقفز فيها الأسئلة ضد الأجوبة وضد أجوبة الأجوبة. إننا هاهنا داخل بنية فلسفة تقوم على الإجابة المبكّتة لا على استئناف السؤال.
رب عدالة يراد لنا أن نستأنف بها أنفسنا، جوهرُ رسالتها أن الذين يملكون إنما شأنهم أن يملكوا، وأن الذين لا يملكون إنما أجرهم على الله. لا أعرف إن كانت هذه الأجوبة ترضي الجموع المحرومة والشباب الهادر يوميا، هذا الشباب الذي بات يومه حارقا فأجبناه بفلسفة محروقة. سأعود إلى مسكويه: لقد اجتهد أركون في أن يستنبت في الهوامل والشوامل تياري منزع إنساني عربي يمكن الرجوع إليه استئنافا لأنفسنا: لم ير أركون أن المنزع الإنساني لم يكن منزعا يتقاسمه مسكويه والتوحيدي. فقد كان التوحيدي يمثل اليوم المفعم بالأسئلة، والوعي المعترض على كل ما لا ينضبط إلى العقل السليم. أما مسكويه فلم يكن يرى أبعد من حكمة الخير الكلي التي لا شيء يمنعها من أن تتجاوز مشهد شر الحيثيات الصغيرة باسم ذلك الخير الكلي: تلك الحيثيات الصغيرة التي تحمل فاقد الأمل على أن ينتحر، والفاضل على أن يتحمل «الكسيْرة اليابسة والبقيْلة الذاوية، والقميص المرقع، وباقليّ درب الحاجب، وسذاب درب الروّاسين» (الإمتاع، الليلة 40).
وبعد فما هو المنزع الإنساني؟ لنفهم مرة واحدة أنه ليس فقط منزع السؤال عن الإنسان (وحتى هذا فقد برع فيه التوحيدي ولم يبرع فيه مسكويه: الهوامل والشوامل، 68 )، وإنما هو القرار الفلسفي الحاسم بأن الإنسان هو الذي يتمثل العالم ويريده و يحدد القيم فيه، لأنه هو مركزه. لن نذهب إلى أية حداثة حضارية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا ثقافية، لن نذهب إلى كل ذلك بفلسفة تبرر ما يوجد باسم عدالة عليا، وخير كلي، وطبيعة مرسومة في الأشياء والموجودات. سنذهب إلى تلك الحداثة وإلى تلك المركزية الإنسانية بإحراج تلك العدالة العليا، وإقلاق ذلك الخير الكلي، وزحزحة ذلك المعنى الجاثم، أعني باستنباتها في الإنسان بعد أن طال مقامها خارجه. مثل تلك الأسئلة هي التي طرحها أبو حيان ولم يطرحها مسكويه الذي كان مشغولا فقط بإطفاء الحرائق.