وتعذرا لاستمرار وحدة الذات وانسجام الوعي مع نفسه، وعرضا مرضيا نفسيا يتركّز كل الجهد التحليلي على استعادته برتق انخرامات الوعي المكلوم. لا حدّ لألاعيب الذّاكرة، ولإحراجاتها لنا.
ينبغي لنا أن نقدر على تصور النسيان حيلة للابتداء من جديد. ينبغي لنا أن نضيف في خانات تحليل اللغة، خانة يسمح الرجوع إليها في كل مرة بإعادة التركيب والبناء. عندما نستعرض روايات الأحداث فإننا نرفق تسلسلها في كل مرة بضارب استكشافي يسمح بإعادة تركيبها، ونرجع ذلك في أغلب الأحيان إلى طروء معرفة لم تكن حاصلة: كم حملَنا اكتشاف حدث ما، أو وثيقة، أو أثر معماري، على إعادة ترتيب تسلسل التاريخ: تاريخ علم ما، تاريخ معتقد ما، تاريخ حضارة ما ... غير أن ظهور هذه المعطيات الجديدة وإدراجها ضمن الذاكرة ليس إصلاحا لنسيان بقدر ما هو تصحيح لتصور وبناء لسردية جديدة. ولكن تجديد السردية ليس في هذه الحال ترميما للذاكرة.
ولقد طوّرت الفرويدية فكرةَ اللاوعي، ومفهومَ النسيان، كهامش من المتروكات - كخزانٍ لا محدود، ولا منطق فيه، ولا ترتيب للقبل والبعد - من المحفوظات التي يجري في كل مرة التخلص منها، بتخليص الوعي، المُبالي بالفعل في الواقع، من تشويش الخيالات والأشواق والهُيامات المختلفة. ولئن كان هذا التخلُّص لا ينجح في كل مرة في رَكْن منسياته رَكنًا يريح به الوعي نهائيا ويخلّصه إلى مواجهة متطلّبات المباشر، فإن استعادة انتظام الذاكرة، باستحضار المنسي «المقلق»، ليس استئنافا لها بقدر ما هو استعادة لاشتغالها العادي. إن منشود «التحليل» (النفسي) ليس تحرير الوعي، ولا تتفيه الممنوع، وإنما استعادة سيطرته على منسياته باعتبارها منسيات «معقولة»، ونزع طابع «الهجانة» المنفّرة عنها: هي رغبات تتعارض مع «المقبول» وليس في الكشف عنها أي إباحة لها وإنما فيها فقط «تطبيع» مع منعها: لسان حال المريض الذي «يسترجع» نفسه هو تقريبا: لقد رغبتُ وكبتُّ رغبتي حتى نسيتُ أني رَغبتُ وأني كَبتُّ، والآن ( !!) أكتشف (أتذكّر) أني رغبتُ، وأني كبتُّ وأنّ ذلك الكبت أمر عادي لا موجب لأن يكون «مقلقا» لي: إنّ الكشف عن آلية النسيان التي مثّلها الكبتُ لا تهدف إلى خرق المكبوت وإنما إلى التطبيع معه باستعادة استمرار الذاكرة وتواصلها، واستعادة وحدتها، مع نفسها.
إن الذاكرة هنا ذاكرة مخرومة استعادت ديمومتها واسترسالها. ولذلك هي ليست استئنافا، أعني أنها لا ترتب نفسها على ابتداء جديد: بل مطلوبها، من التحليل، أن تستعيد رضاها بنفسها كانسياب لا يثير أي قلق، ولكنه لا يَعد بأيّ جديد.
في الاستئناف منطق آخر. إنه الرواية الأخرى، لا الرواية «المرتوقة». ليس الاستئناف تطعيما للذاكرة ببعض ما غاب عنها، وإنما هو قرار بأننا ننتمي إلى بداية أخرى وأن تلك البداية الأخرى تعني تاريخا آخر: أعني عزما على تاريخ آخر: ما الجوهري في الاستئناف؟ النسيان أم التذكر؟ ربما ينبغي علينا أن نتمثل كل سردياتنا – وأعني كذلك كل نصوص السرد التي تتداول بيننا كلَّ يوم منذ أن أخذت الذاكرة نفسها بالحكْي - احتفاءً بالنسيان، وحفرا في ما لم يُقل. إنّ كل رواياتنا إمّا أن تأخذ نفسها بأنها مضمون نسيان (على معنى المضمون الصفر) هو الذي يبرر أنها تعيد بناء الكون وتحكيه، بفنتازيتها الجامحة، أو أن تعترف بأنها مجرّد ترديد له يحاكيه.
ما معنى أني نسيت؟ هل فينومينولوجيا النسيان ممكنة؟ هل يمكننا أن نتحدث عن النسيان خارج تذكره؟ هل يمكن أن ننجز فينومينولوجيا نسيانٍ من عنصر النسيان؟ تبدو فينومينولوجيا النسيان مستحيلة لأنها واقعةٌ بين طرفين: طرفٍ أول هو أنّ كل فينومينولوجيا تفترض الوعي، وطرف ثانٍ هو أن عمل الوعي الفينومينولوجي للنسيان هو أولا نفيُ نفسه: فكأنما يطلب إليه أن يعي نفسه من موقع نفي الوعي. أليس أول شروط مثل هذه الفينومينولوجيا مغادرة الذاكرة (بما هي منطقة من مناطق الوعي) حتى يكون الكلام عن النسيان من عنصر النسيان؟ كيف يمكن أن ننجز فينومينولوجيا نسيان ، أعني علم ظهور للنسيان، خارج دائرة الإدراك الحسي (perception)، أو الاستحضار (représentation) أو التجريد المقارن (abstraction comparative)؟ أترانا نكون بمحضر فينومينولوجيا سالبة ؟ وهل تعني هذه الاستحالات أنه لا يمكننا أن نتحدث عن النسيان؟
يبدو لي ريكور منهِكا بحرصه «التكتيكي» على تجنّب الشطط في الذاكرة من جهة وتجنب الشّطط في النسيان من جهة أخرى. لا شك أنّ الشّطط في التذكر يحبِسنا داخل تبعيةٍ مفرِطة إلى الماضي، وتمسكٍ مرَضي بالأثر، ولكن النسيان ليس فقط لعبة من ألاعيب ذاكرة ماكرة، بل يمكنه أيضا أن يكون قرارا محررا، وفي هذه الحال يمكننا أن نتحدث عن «فينومينولوجيا نسيان» ترافق وصفيا ولادة «قرار» بإعادة الكتابة، واستئناف النفس: ثمة منطقة في ذاكرتي سأكتب فوقها كتابة طروسية، تقتضي الفسخ، المحو، واستئناف النفس بابتداء آخر. ماذا في ذلك الاسئناف؟ فيه خفّةُ من يبتدئ وقد تخلّص من أثقال ذاكرة مكبِّلة، أعني تحويل مضمونها من القدَر المحتوم على شعب أو أمة أو فرد، ومن الحِمل الذي يئن تحت ثقله «الجمَل»، إلى معرفة تاريخية قد تخلصت من ثقلها الدرامي، وأعني نقلَها من التاريخي المحدِّد الذي تجنّدت له كل فلسفات الحتمية التاريخية، إلى التحوّل، إلى الميتامورفوز (métamorphose/ Verwandlung): لو كانت في ذاكرة «الطفل» أثقال ذكريات «الجَمَل» لما غادر إلى نفسه، ولما تحول إلى براءة تلك العجلة التي تطوي نفسها طيا : تلك البراءة يسميها نيتشه «نسيانا»، ويسميها «حركة أولى»، ويسميها «إنعاما مقدَّسا». . سنسميها استئنافا. ينبغي أن نصبح قادرين على تمثل استئناف النفس نسيانا.
هل كل ليلة من ليالي شهرزاد إلا استئنافا، هل شهرزاد زوجة مملة، ماكرة، تستديم القص لتبقى؟ أليست كل ليلة من لياليها هي الليلة الأولى: أمانًا جديدا وخطرا جديدا وخوفا جديدا ووشْكا جديدا وسيرا جديدا على الأحراف؟ هل كل ليلة إلا استئنافا للشوق: اسئنافُ الشوق ليس استئنافا للحنين، فلولا الشوق الذي ينسف كل ذكرى معروفة، لما رغبنا في الحياة ؟ أليست تلك هي البراءة التي تباشر الكيان من دون مسبقات؟ في كل ليلة يبوح فيها شهريار بأنه يحبّها، يمتدّ النهار «مدًى» للاستئناف الذي تمّحي فيه ذاكرةُ الليلة التي مرّت لتفسح لخيال الليلة التي تأتي، أعني خيال ما لا نعرف، لأننا نحيا في «ظلّ الليل».
سألني صديق لي – وكان يريد اختبار مدى إيماني بالآخرة: «متى تنتهي حياة المرء؟ أتُراه فهم جوابي: «يوم يكفُّ المرء عن القصّ، وعن إعادة القصّ. إن الآخرة هي دائما سرديتنا المؤجَّلة، المستأنَفة، أبدا. أما الآخرة التي يريدونها فكًّا لحبل الحياة المعقود، فليس فيها أيّ مفاجأة».
أشياء فلسفية: «نَسِيتُ» في فينومينولوجيا الاستئناف
- بقلم محمد أبو هاشم محجوب
- 12:03 29/12/2021
- 1199 عدد المشاهدات
تعودنا طويلا أن نتعامل مع النسيان باعتباره سلبا: سلبا للذاكرة، وعيبا في ترتيب الأحداث، وإخلافا للمواعيد، وإخلالا بتواصل الحاضر،