سبيل أولى يمكننا أن نسميها سبيل التمهية وهي سبيل تقوم على الإحصاء الميداني لمختلف الملامح : بياع/ كاذب/ مخادع/ متحيل على الشبان / رقيع (لأنه لا يخجل من قول الشيء ضده لنفس الشخص )... وسبيل ثانية تقوم على محاصرته بمحاصرة الشيء الوحيد الذي لا يشترك فيه مع غيره : أنه يقول في الوجود. ولكنّ الفيلسوف أيضا يقول في الوجود. المشكل إذن قائم في طبيعة القول نفسه ولذلك لا يمكن صيد السفسطائي إلا بكشف علاقة القول بالوجود . إنّ سبيل التّمهية سبيل الملامح. وسبيل الملامح سبيل الشبهة والاشتباه. ولكن سبيل التعريف، والحد، سبيل الهوية. لا يُدرك الفيلسوف والمثقف إلا ضمن قول ماهوي، في حين لا تأخذنا سبيل التمهية [من هو ؟ من يكون ؟] إلا إلى كثرة «أنماط المثقفين» وتعدّد «رهوطهم».
نواجه اليوم مشكلا من هذا القبيل .. ولست من الذين يفرحون بالحلول التوفيقية التي تجعل كل واحد من هذين الوجين ينهل من الآخر أو ينضح به .. وإنما أريد التمييز .. التمييز الذي لا يعني التّرجيح ولا التّفضيل.
فوجوه المثقّف المشتبهة بالفيلسوف كثيرة : الفيلسوف والمربي / الفيلسوف والفنان / الفيلسوف والعالم / الفيلسوف والسياسي /
وموضوع الفيلسوف ورهانه كثير الشبهة والتشابه بينه وبين هذا النمط الآخر الذي هو المثقف : من هو المسؤول عن المستقبل، أعني عن الممكن ؟ الفيلسوف أم المثقف ؟ لن أتحدّث عن التّمييز بين المقاربة المفهومية المستوعِبة والمقاربة الانفعالية التي تقع تحت موضوعها وقوعا .. ولكني اعتقدت دائما أن ما يفكر فيه آحاد الفلاسفة يصبح بمجرد أن يفكروا فيه «مأمولا» للزمان، وممكنا للعقول. من يكتب في أفق من ؟ هل يكتب الشعراء في أفق الفلاسفة أم العكس ؟ هل يبدع الفنانون في أفق الفلاسفة أم العكس ؟ طبعا لا أطرح السؤال التعيس للأسبقية .. ولكني أطرح سؤال ترتيب الإمكان.
ثمة طبعا نماذج للعلاقة : ثمة مثلا أنموذج الفيلسوف الذي تجتمع فيه جميع الصنائع ويحذقها أحسن مما يحذقها كل أصحابها .. وثمة أنموذج الفيلسوف السياسي الذي قد لا يعرف جميع الصنائع ولكنه يعين لها مكانا في المدينة .. ربما كان ذلك ما يفسر تردد أرسطو المعروف بين وضعي العلم الرئيس بين المتافيزيقا والأخلاق إلى نيقوماخوس...
لا شك أنّ الكثيرين لا يسايرونني في إرادة التمييز، وسرعان ما يقفز إلى أذهانهم أنموذج سارتر وفوكو وفلاسفة ماي 68 : كأني أراهم يخفّون إلى الإقرار رغم كل شيء بأنّ الفيلسوف هو المثقّف، وإلى أن الفيلسوف عليه أن يتمسك قدر الإمكان بدور المثقف الذي يرفع الشعارات في المظاهرات، ويصوغ صرخة الفقراء والمحرومين صياغة سياسية. لا يمكنني أن أناقش في ذلك، فهذا كلام مبكّت. ولكنني مضطر إلى التذكير بموضوعي : الفيلسوف والمثقف : هل هما واحد هو هو ؟ ولا يمكنني أن أرضى بجواب يقبل تماهيهما حينا ولا يقبله حينا آخر .. وثمة نماذج أخرى أشد جلبا للحيرة والحرج : هل كان الخميني فيلسوفا أم مثقفا ؟ بعبارة أخرى : هل نقبل تماهي الفيلسوف والفقيه المثقف ؟ أم ترانا نقبله في حالات ونرفضه في حالات ؟
ولكن وراء ما أقول حرج آخر : هو حرج اختلاط الخطابات نتيجة فراغ الخطاب الفلسفي .. ما هو اليوم مضمون الخطاب «الفلسفي» العربي ؟ أليس هو خطابا ملغوما بالحضاريات ؟ كيف تفسرون أن الكثيرين من الذين يعدون فلاسفة عندنا هم «مثقفون» قدموا إلينا من آفاق «التاريخ» أو «الثيولوجيا» واستقروا فلاسفة على قلوبنا ؟ لا شك أن الفيلسوف مطالب، في حدود ما تسمح به أخلاقه المؤقتة، بأن ينطق عن الشعب .. ولكن هل يمكن، هل يجوز، هل يتعين، هل يستقيم، أن يذهب في «نطقه عن « الشعب إلى حد نزع جلدته والتخلص منها، ثم استبدال دمه «المتجمّد» [على حد عبارة مقتلعة لنيتشه الشاب] بدم يحترق غليانا ؟ ماذا يبقى من الفيلسوف إذا زالت الحاجة الاجتماعية إليه ؟ يبدو أنه يتعين علينا إما أن نستبدل نموذج الفيلسوف أو أن نقر نهائيا بأنه هو والمثقف ،كما على حد عبارة أفلاطون، «جنسان» عاليان قد تخالطهما الغيرية أحيانا دون أن تطالبهما بأن يعوض أحدُهما عن الآخر.
هذه الهموم حدس بها صديقنا الراحل موسى وهبه منذ أكثر من عقد من الزمان، ضمن فاتحة مجلة أسسناها معا في بيروت، مجلة فلسفة المأسوف عليها، فصاغها كما رأى في صيغة بسيطة .. قال : «فلسفة .. لا ثقافة».