فقد نُخفي حياء أو ترفُّعا، وقد نُضمر صدقا ورغبة في عدم التظاهر. لا بد إذن من شرط آخر يمكننا إذا توفّر أن نقرّ قولا ما أو خطابا ما على أنه كذب : وهذا الشّرط هو الإخفاء بنية المغالطة. الكذب هو إذن إعلان غير ما نضمر بنيّة المغالطة.
ولكنّه يمكننا في سياق آخر أن نقول عن قول ما، أو عن حكم ما أو عن إقرار ما إنه «كاذب». وفي مقابله يمكننا أن نُقرَّ قولا ما على أنّه «صادق». فالصّدق والكذب هاهنا ليسا منزلتين أخلاقيتين، ولا تصطبغان بأي صبغة تحبّب أحدهما إلى النّفس وتنفّر من الثاني. إنّ هذا السياق يجعل من الكذب والصّدق صفتين للقول مقطوعتين عن كلّ إحالة على النّية أو القصد. ما الذي يحيلان عليه إذن ؟ إنهما يحيلان على معيار المطابقة : كاذب هو كل ما لا يستقيم في معيار ولا يتطابق معه. فجداول الصدق التي تقدمها لنا التركيبات المنطقية المختلفة تحتسب إمكانين اثنين لا يخرج عنهما القول : الصدق بما هو مطابقة القضية [Proposition] أو الحكم [Jugement] لقاعدة الاستنتاج أو لواقع الشيء الذي نتكلم عليه، أو لمعرفة قائمة ... والكذب بما هو مخالفة ذلك.
إنّ الصّدق والكذب في هذا الاعتبار الثّاني لا يصطبغان بأيّة صبغة خلقية ولا يقترنان بأيّ انفعال من انفعالات الاستحسان أو الاستهجان. ما الذي يربطهما إذن بمعنيي الصدق والكذب الأخلاقيين ؟
إنّ المقاربة الفلسفية التي تريد رصد صورة المفهوم بصرف النظر عن تصاريفه الموضعيّة والسياقيّة المختلفة لا تسعى إلى ملاحقة الكذب والصّدق إلا من جهة ما يجمع بينهما، وما يجمع بينهما هو مفهوم المطابقة. الكاذب هو ما ليس مطابقا، والصّادق هو ما كان مطابقا، مهما كان مرجع تلك المطابقة، وسواء أكان ذلك المرجع من قبيل المعيار الخلقي [الخير والشر] أو كان من قبيل المعيار المعرفي [الحقيقة واللاحقيقة]. ولكن الخير ليس هو الحقيقة كما أن الشر ليس هو الكذب. ولعل أكبر ردّ على هذا الخلط هو ما اعترض به، على نحو «تراجيدي ضاحك» أبيمنيدس الكريتي [Epiménide le crétois]ضمن ما يعرف بمفارقة الكذّاب : يقول «إن جميع أهل جزيرة كريت كذابون». فهل هو كاذب أم صادق ؟ إنّ التعجيز المنطقي للعقل من خلال الدور الذي يحدثه هذا القول هو الشكل العملي أي الأخلاقي للحيرة التي يوقعنا فيها نهائيا : فمفارقة أبيمنيدس لا تكتفي بشكلها المعرفي الذي يتعلق بالتحقق المعرفي من مدى مطابقة الحكم [كل الكريتيين كذابون = All Cretans are liars] للواقع [هل صحيح أن كل الكريتيين كذابون أم لا ؟]، وإنما هي تتعلق باختلاط تراجيدي للكذب والصدق : إذا كان إبيمنيدس صادقا فهو يكذب لأنه كريتي وكل الكريتيين كذابون، وإذا كان إبيمنيدس كاذبا فهو صادق لأنّه يؤكد أنّه حقّا، على غرار جميع الكريتيين، كاذب. كيف يمكن أن نتصور كذب الكذب ؟كيف يمكن أن نتصور أنه يكذب أن يكون كاذبا على غرار كل الكريتيين أو أنه يستثني نفسه من الكذب لحظة يخبر عن الكريتيين أنهم كاذبون. هل ينبغي لذلك أن نستثني من كامل مجال الكذب عملية التلفظ نفسها ؟ هل ينبغي أن نقول إن التلفظ ظاهرة لا تقاس بما تقول، أعني بصدقية ما تخبر عنه، وأنها كتلفّظ، أو كقول جازم، هي معنية فقط بكونها تلفظا، مقطوعا عمّا يتلفظ به. أين الحقّ إذن؟ أين الصدق ؟
لكأنما نحن مدعوون إلى النّظر في الأقاويل والخطابات من جهتين اثنتين : جهة ما تخبر عنه الأقاويل : وهاهنا نكون ملزمين بتحكيم معيار المطابقة، بحث لا نصدّق إلا ما وافق عيانا ما أو برهانا ما أو اختبارا ما إلخ. وجهة الفعالية الجازمة [declarative] للأنا الذي ينطق، بما هو ناطق، مجرد ناطق، مجرد منشئ لعلاقة بالعالم، أو مسوّر لها : بما هو القول قبل «أن يخبر بشيء ما عن شيء ما». إننا هاهنا في مقام تأويلي أصلاني ليس غرضه التحقق من معنى أو من مطابقة ولا هو الإحالة على مرجع، وإنما هو أصلاني .. ما الأصلاني فينا ؟ إننا نقول العالم، نقوله ثم نفتح ضمن القول [التلفّظ] قيمة لما نقوله بالإحالة على مرجعية ما. إننا نقبل كبداهة بديهية أننا نحتكم إلى مرجع ما، ولكننا ننسى أننا، قبل ذلك، وعلى نحو أصلاني ننشئ جهات العالم .. ثم نتكلّم ضمنها بعد أن حوّلناها إلى جهات صدق وكذب. لذلك ليس مهمّا أن يكون كلام إبيمينيدس صادقا أو كاذبا .. إنّه يعبّر عن فعالية الحضور في العالم السّابقة على كلّ جهة. إنّ الكذب كما الصدق، يفترضان أصلانية المخاطبة وهي التي سميناها تلفّظا أو تكلّما بالمعنى الأنطولوجي للعبارة : ثمة عشرة أو ألفة أصلية مع العالم ومع الأشياء لا يأتي الصدق والكذب إلا بعدهما.