معطّرا والجمال موشّحا والخضرة مزدهيّة والواحات سكرى بثمرها وجودها والنخل يتهادى «وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ « الأنعام/99. وروح الأهل منتشيّة تسري فيهم روائح التاريخ القديم ما بعد الطوفان «النوحي» فكان اسمها «قسطيلية» الرومانية. ثمّ اسمها «كتهاور» ثمّ «أقارصل نبت» ثمّ جاء «النفتوهيم» الفارون من مصر ومنهم جاءت «نفطة» لتعرف بـ«الكوفة الصغرى» لكثرة العلم والعلماء والمعرفة والعارفين والولاية والأولياء الصالحين وأقطاب التجديد والمجدّدين وأبطال الإصلاح والمصلحين –والقائمات طويلة – وزد على ذلك تعرف بثغر الصحراء لربطها في جغرافية فريدة بين غرب الشمال الإفريقي وشرقه وبين القيروان وجنوب الصحراء من بلاد السودان.
في هذا الربوع ينبلج فجر الأحد 07 نوفمبر 2021 وفي قلبي انقباض شديد وأنا ألملم شتاتي لأعود من حيث أتيت. شعور بالوحشة يعصرني.. نظرت في المرآة رأيت حزنا في عيوني وسمعت صرير انقباض في قلبي. غادرت غرفتي في نزل «caravane sérail» بقلاعه وحصونه وسراديبه وجماله وبساطته ودفق المحبّة من عمّاله ومسؤوليه نظرت إلى السماء وجدتها تودّعني ونظرت إلى الوجوه هناك ممن ألفناهم. وجدتها تستجدي في صمت وتبسّم غلّفته الأحزان:
لا ترحلوا عنّا وإن رحلتم فعودوا إلينا نحن سنظلّ هنا في انتظاركم.
انقباض قلبي وأنا أغادر نفطة انهزم وانتصرت عليه بما توغّل فيّ من مواجيد حملتها بين جوانحي وطفقت أعود القهقرى كمن تسافر به الومضة الورائيّة –-flach backرويدا رويدا ثملا منتشيّا بخمرة الحميّا لا يشربها إلّا أرباب الذوق.
- 1 -
وأنا استحضر سهرة السبت 06 نوفمبر 2021 في حشود جمّة غفيرة كان الطقس البارد يبثّها حرارة دافقة. جماهير احتضنها «ملعب نفطة القديم» وهي تعيش مع الخامات والنغمات والمعزوفات والجوابات والقرارات يصدح بها المايسترو العملاق» لطفي بوشناق» بشاشيته التونسيّة وجبّته المطرّزة بحمرة ينبجس منها حبّ الجمال وصوته الرخيم وترداده فسيفساء من المواويل والآهات والأغنيات ذات الحبك والمعنى والمغنى والمبنى. هي السهرة الختامية لمهرجان «روحانيات» الكبير بنفطة. زعيمها القطب «لطفي بوشناق». في بوح محمّدي نوراني خالد.
وأنا أجلس في «دار الوادي» في المدينة العتيقة ذات الظلام المضيء ,والسقوف المنخفضة والأزقّة الضيّقة الرحبة بعطرها وأضوائها ونخلتيها وقبابها وأبوابها وأنفاسها وزرابيها في أمسيّة نفس اليوم أسمع نغمات تتحرّك بأنامل الموسيقيين المهرة وناي العازف البارع تسقي القلوب العطاشى وأتأمّل مصريا في زيّه وتعمّمه أصيلا في ظرفه صادقا في سمعه بصيرا رغم فقده حبيبتيه ..بصيرا بصوته تأتيك من تواشيحه ما يدغدغك ويبكيك وهو يناجي مولاه ويصلّي على الخليل ويصوّر صفاء الفؤاد. المصري السمّيع والصعيدي الرفيع «إيهاب يونس» يقف طودا يتمايل رأسه ليشعرك بروح تخاطب الروح ويتمايل إحساسه ليشعرك بعين قلبه المبصرة تنظر إلى عينيك. ذلك هو المنشد المصري العاشق لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأنا أقبع مجدّدا في الضحى في حضرة امرأة أكاديمية مسلمة حرّة ثائرة حائرة غالبا تنظر إلى «وجه الله» بشوق وتعبده برجاء وتدعوه ببكاء. «ألفة يوسف» في تصوّفها تذكّرك برابعة العدوية البصريّة وبعائشة المنّوبيّة التونسيّة تقف في محراب التزكيّة تحكي تجربة ذاتيّة خصبة في كتبها وتدويناتها ومواقفها ترسم لوحة فكرية قلبيّة في عالم التصوّف وفي عالم الروح رغم المدّ والجزر ورغم دنيا الصراعات والقلاقل. هي امرأة تتّجه نحو عالم الفناء والبقاء وتشرب من حياض النور الإلهي والحضرة الربّانية وتصلّي في محاريب الإنسانيّة المرتقبة المنشودة تناغما وتقبّلا وحبّا على تعدّد القبلات والاعتقادات لكنّ كلّنا إلى الله نسير وبه نسير حتّى لا نصير وإليه المصير:
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة *** فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ
وبيت لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ *** وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحبّ أنَّى توجهتْ *** ركائبه، فالحبّ ديني وإيماني
- 2 -
وأنا استرجع روائح دمشق والشام المبجّل وجبل قاسيون والمسجد الأموي والقدود الحلبية والموشّحات الطربيّة والسماعات الدينيّة ..أمجاد وأجداد وأحفاد في نفحات ونداءات من سهرة زاهرة يوم الجمعة 05 نوفمبر 2021 ..ستّة من الإخوة لا تقارنهم بإخوة يوسف النبيء بل شبّهم بالأنهار الجاريات لكلّ منها خرير يعدو في جدوله ماء فرات يسقي الشارب فلا يرتوي كلّما شرب ازداد عطشا ..الإخوة أبو شعر من صلب واحد والأصوات صنوف كالزهر تسقى بماء واحد وهي ألوان ..ستّة تراهم كالحزمة أدبا وظرفا ولطفا ودراية .عشّاق رسول الله ومدّاح حبيب الله يهيمون –من الهيام- في رفيع الشأن والقدر ويسكرون بمعتّق الخمر فهم سكارى وندامى ولم نر سكارى مثلهم جدّدوا الزورة «لنفطة» وجدّدوا في السامعين النظرة والخمرة والثورة والثروة. يسمعونك البردة والهمزية والقصائد العصماء والزجل والملحون والموزون. لحنهم وجد وشموخهم مجد وطربهم همس ونغم وأمل وألم.
وبعد غروب يوم الزينة تزيّن الشاب الثابت الراسخ جواد الشاري بحلّة مغربيّة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين وتذكّرك بأشاوس فاس ومرّاكش وأغادير وطنجة والرباط ووجدة. تذكّرك بمملكة جميلة ليست كالممالك قطوفها دانية وقصورها عالية وفنونها غالية. شاب مشبع بروح التصوّف تلقّاها عن الأفاضل واحتسى نبيذا ليس كالنبيذ فاستغرق في وافر المعاني ليتمايل من عمق الجنيديّة وجواهر العلاويّة ودرر الغوثيّة وياقوت البوزيديّة وقبسات المدانيّة وفوانيس الشاذليّة. باختياراته وما أضفى عليها من توزيع تترنّم به الأوتار والإيقاعات ..تذكّروا هذا الجوّاد سيشتري علو الكعب ورفيع المقام وهو الهمام المدّاح العاشق للحضرة المحمّدية ..وسيظلّ صوته روحا تسري بالفيض المحمّدي ..
وفي الصباح من يوم الجمعة كان الشعر رقراقا ينساب من ترانيم الشاعر الدكتور محمد الغزّي وهو المهووس برسم الكلمات الحاملة صورا صوفيّة تلامس المعين وتغترف منه لتحلّق في سماء مرسوم فيها نجوم مؤتلقة.
- 3 -
وأنا أسافر في ليلة تنبيك عن جمالها ليلة افتتاح مهرجان «روحانيات» يوم الخميس 04 نوفمبر 2021 والنّاس قد أعيتهم كورونا الوباء وكورونا السياسة وكورونا الخوف وكورونا الانتظار وكورونا اليأس ..
كانت ليلة من ليالي الإنشاد والمديح الصوفي الغالية والعالية في الأداء والإيقاع والمعاني السامية المشبعة بالتعلّق بسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والتشبّث بالهويّة والروح التونسيّة الأصيلة. هذا العرض الذي أثّثه الشيخ «توفيق دغمان» وابنه «خليل» وباقي الفرقة . في سهرة متميّزة نالت إعجاب الحاضرين وحرّكت فيهم طوفان الحبّ ففاض الكأس بالشراب وزال العتاب وانمحى القنوط وعادت البسمة واللمعة.»حضرة رجال تونس» زربيّة بخيوط نسجها صوت فيه التوفيق وأداء فيه الخلال المتماسكة. زربيّة خيوطها قادريّة وعيساوية وشاذلية وعزّوزية وعوامريّة ودغمانيّة وفنيّة ...
وما غابت المرأة عن ركح «دار الوادي» لتقف فيه الفنّانة درصاف الحمداني تلبس قفطانا عنوان هويّة وتنشد من كلّ بستان زهرة ولّت وجهتها الجهة الشرقية «الرضا والنّور» ثمّ الجهة الغربية ثمّ الجهة التونسيّة في إحساس مرهف وشموخ عزيز وتشبّث متين بجذور المزموم والحسين والعرضاوي والمجرّد.
ومع نسمات يوم مشرق في صبيحة هذا الخميس جلس الحاضرون ينظرون إلى عمامتين وشيخين لن يدرّسا فقها ولا وعظا ولا حلالا ولا حراما. بل سينطقان حكمة وخلجات قلوب:
الشيخ الدكتور بدري المداني يفتح دواوين الشعر المدحي للجناب المحمّدي فهذه بردة المديح والهمزية وقبلها الشقراطسيّة وقبلهم شعراء الدفاع عن الحياض الأحمديّة وما حملته من تعابير الولاء والوفاء للرسول صلّى الله عليه وسلّم ثمّ يفتح دواوين شعراء العشق الإلهي والخمرة الصوفيّة والغزل المقدّس المترع بالألغاز والرموز والفيوضات والشطحات الرحمانيّة. وما في هذا من تكفير بل كلّه جمالية في التعبير وكماليّة في التحبير. وفي هذا رؤية تجديدية لا ترى التصوّف اليوم تبتّلاّ وانقطاعا عن الدنيا بل تراه صلة وثيقة بحياة الناس لجعلهم سعداء.
والشيخ محمّد بن حمودة يركب رفرف مولانا جلال الدين الرومي ليحلّق بنا في سماء العشق والمقامات الصوفيّة العرفانيّة. يتصفّح لنا ومعنا ورقات من رحلة شاعر صوفي فارسي الأصل، عُرف في زمانه باسم «سلطان العارفين» ولقِّب بـ»مولانا»، كتب في العشق الإلهي آلاف الأبيات، وعاش رحلة روحانيّة، حوّلته إلى هائم يحيي الليل بشموعٍ مشتعلة حتّى الفجر، ويقضي عزلته في المناجاة. وهو القائل: «انتهى مولدي الأوّل، وأنا مولودٌ للعشق في هذه اللحظة، أنا زائدٌ على نفسي؛ لأنني وُلدتُ مرتين»
وازدادت المتعة بحراك وليس عراكا .موج من الأفكار الفلسفيّة الجامحة من الفيلسوف يوسف الصدّيق يدافع عن العقل وموج من السّجالات الكلاميّة يرصّفها الدكتور عبد الجليل سالم في تراتبية جدليّة يجيد نقشها مؤلّفا بين هذا التصوّف وذاك النظر العقلي.
- 4 -
فإذا نزلت بنفطـــة فاقصد بهــا أهل الوفــا والجـــود والإحســان. قوم كرام قد علت أحسابهـــــم بنزاهـــة وتقى وصدق لســـان. هكذا تكلّم من زارها ومن مشى في طرقات نفطة البيّة يشتمّ رائحة البخور وعبق الأصالة وطيب الجذور. من سوق «البيّاضة» الى «سوق الربع» مع الفرق الموسيقيّة الصوفيّة «القادرية»و «العلوية»و «الحفّوظية» و«السطمبالي» و «البنڤة».
ومن ترجّل أو امتطى «الكاليص» في جولة للواحة القديمة بنخلها أو «الكورباي» بسحرها أو داخل المدينة العتيقة وفردوس «الزمبريطة» أو في مقامات الصالحين سيدي بوعلي السنّي المسمّى بسلطان الجريد وسيدي مرزوق العجمي والزوايا الصوفيّة بماضيها المتألّق «الشُّرفة» و«المواعدة» و«علڤمة».
في كلّ شبر من نفطة محراب للعلم. وترى الجمال في كلّ شيء. جمال المرقوم النفطي والنخل النفطي والحيطان الآجريّة والمعمار النفطي والأكلة النفطية والقلوب النفطية المتّسعة بالمحبّة.
نلتقي لتمتزج البسمة والدمعة والآهة والأمل لتتغذّى الأرواح بالريّ النمير.
«نفطة» تروي بانتشاء هطّال برقيق المعاني ودقيق المغاني ...وتأتيك التحيّة بلهجة نفطيّة رقيقة:
« يجعل طريقكم زربيّة وفرحكم ثنيّة وحاجتكم مسهّلة مقضيّة في نفطة البيّة»
فما أجمل أرواحا تتعانق...يسكنك شذاها من الأزل إلى الأبد...
شكرا أهالي نفطة ..شكرا شباب نفطة ..شكرا هيئة المهرجان ..شكرا أخي وصديقي حسن الزرقوني.. رأينا فيكم الوفاء للموطن وهذه شيمة الكبار. والانتصار للهويّة وهذه خصلة نادرة. والعطاء للوطن حبّا وولاء يخلّده التاريخ.
كان ذلك الدرس منكم. وكان ذلك النجاح منكم لنا هديّة.
وهذه هدية منّي إليكم:
• نفطة العزّ والسؤدد
• نفطة تتهادى بالعزّ والسؤدد ** في جيدها عقد مطرّز بالمجد.
• نفطة تمشي شموخا تنبض** جمالا وروحا من الفرد الصمد.
• نفطة تغنّي ألحان العشّاق ** معتّقة بالقدم معطّرة بالوجد.
• نفطة تهيم واحاتها تيها ** تلفّها حبّات كأنّها اللؤلؤ المنضّد.
• نفطة تشدو فوق النخل ** والطير الصادي بالهيام المغرّد
• نفطة تنادي الأمس فتبعث ** الحياة في ذاكرة تأتيك بالمدد.
• نفطة تفتح حضنا للقادم ** متبسّمة بالخضرة وماء الواد.
• نفطة تستضيء بالفنّ ونور ** العرفان وسماع العزف الشاد.
• نفطة تصفو يفوح منها عبير** المسك يطهّر القلوب بالوداد.
• نفطة تزدهي بالزائرين وتتزيّن ** بالرجال والنساء وزينة الأولاد.
• نفطة تصبح عروسا بعد حلم ** ترفل في حلل البهاء والإسعاد.
• نفطة تمسي في السحر تناجي** النجوم والقمر بدعاء العبّاد.
• نفطة تبوح بسرّ الشوق وحنين ** الروحانيات ووصال السجّاد.
• نفطة تطرب ببركات الصالحين ** وتستبشر بالقادمين والقصّاد.
• نفطة تشرق بدفق الحبّ وعطاء ** الإيثار زينة الوطن والبلاد.
قد كانت لحظات عابرة لكنّها معبّرة ومعتبرة في «نفطة» فيها كلّ جمال وكمال ودلال.
تحيا نفطة.
فيها حلم كبير وسيكبر وفيها أفق مشرق وسيشرق.
هكذا تونس التي لن تسقط. هكذا وطن المحبّة والعطاء.تحيا تونس.