طائـــر الفنيــق الفلسطيني

قصيدة محمود درويش «في القدس» تتجاوز في معانيها ورمزيتها كل الابعاد الدينية والميتافزيقية والاسطورية التي بنت عليها كل الديانات حروبها في المنطقة،

اذ لم تكن المدينة «سوى حجر شحيح الضوء»، لكنها تتحوّل عند الشاعر الى رمز للوجود البشري الفلسطيني الذي يعيش ويرنو الى التعايش رغم ما عاناه من قتل وتهجير وسطو على الارض والمنازل وكل الانتهاكات الاخرى في حقّه، فحين زار الشاعر القدس بعد ان انقطع عنها حوالي ربع قرن ،صاحت فيه مجندة اسرائيلية فاجأها وجوده:
• «هو انت ثانية ؟ ألم اقتلك؟
اجابها : «قتلتني ...ونسيت ، مثلك، ان اموت»
وقد اثبتت الاحداث الاخيرة ، ان القضية الفلسطينية لم تمت رغم المحاولات العديدة لردمها من قبل الحكومات الإسرائيلية التي لازالت تعتقد في مقولة بن غوريون منذ «حرب 1948» من ان الكبار «يموتون والصغار ينسون» ، اذ تبيّن ان الكبار قبل موتهم قد سلموا مفاتيح بيوتهم ووصاياهم بالصمود للصغار ، حتى ان صحيفة هآرتس الإسرائيلية اعتبرت ان الاحداث الاخيرة اثبتت ان اسرائيل بسياساتها الاستعمارية قد نجحت في امر واحد: «توحيد الفلسطينيين داخل الخط الاخضر وخارجه... كما ثبت لها ان الجيل الجديد من الفلسطينيين لا يقبل الاهانة وان الرابطة الوطنية لازالت قوية داخله» ذلك عكس الانقسام الذي تعرفه القيادات الفلسطينية وضعف ادائها داخليا وخارجيا .
• أوهام النصر النهائي:
قبل اسابيع فقط ، كان الوهم السائد ان القضية قد قُبرت وان حل الدولتين قد اصبح من الماضي وان على الفلسطينيين الذوبان داخل المجتمع الإسرائيلي وقبول بالممارسات العنصرية تجاههم ، اي القبول بمواطنة منقوصة والقبول بنظام الابارتيد ، الذي اشارت اليه منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية في تقريرها في اخر شهر افريل 2021 ، والذي اكدت فيه دون مواربة ان الدولة العبرية تمارس جريمتين ضد الفلسطينيين :»الفصل العنصري والاضطهاد» وهما جريمتان ادانهما المجتمع الدولي....
قبل اسابيع ايضا، كان العديد من الحكام العرب يحتفلون بتحقيق حلم القيادات اليمينية الاسرائيلية بإنهاء القضية الفلسطينية عبر انشاء علاقات ديبلوماسية وتجارية و ايضا تقنيات استخـباراتية إسرائيلية (ُستعمل بغاية التجسس على المعارضين ودول الجوار)، معتقدين ان توطيد العلاقات ، حتى ولو كان على حساب الفلسطينيين وقضيتهم العادلة ، سيساهم في حماية حكمهم المهزوز وامنهم المهدد دائما ويحميهم من اطماع الجيران ويقربهم اكثر من سلطات القرار في الولايات المتحدة الامريكية.
لذلك يرى المحللون ان محاولة اخراج اسرائيل من عزلتها عبر ربط علاقات متعددة مع جيرانها ، على حساب الحق الفلسطيني في تقرير مصيره قد باءت بالفشل بعد الانتفاضة الاخيرة، حيث يعتبر يدعون راشمان ، المحلل السياسي في الفينشال تايمز Financial Times ان «استراتيجية نتانياهو، رئيس الوزراء الاسرائيلي لتأمين مستقبل اسرائيل قد انهارت في الايام الاخيرة وتبيّن ان تهميش القضية الفلسطينية مجرّد وهم .»
اما الصحفي توماس فريدمان فقد ذهب ابعد من ذلك في نيويورك تايمز ، اذ رأى ان الحرب الاسرائيلية الاخيرة قد اضعفت الدولة العبرية امام الرأي العام العالمي وابرزت نشاط اليسار التقدمي المناهض لانتهاك حقوق الفلسطينيين وحتى الشباب اليهودي، فانهم اداروا ظهورهم لسياسات بنيمين نتانياهو، و»العديد من الطلاب اليهود باتوا غير مستعدين او غير قادرين أو خائفين من الوقوف في قاعة الدرس دفاعا عن اسرائيل.»
• «حياة الفلسطينيين مهمة»:
عالميا ، هناك تغيير مهم ، اذ قفزت القضية الفلسطينية لتحتل مكانة مهمة في الرأي العام العالمي ، وذلك بعد محاولة تهجير الفلسطينيين من منطقة الشيخ جرّاح واقتحام المسجد الاقصى واستعمال المحاكم الاسرائيلية للتغطية على عربدة المستوطنين وتبريرها ، اذ تبيّن للعالم ان اسرائيل ليست سوى دولة فصل عنصري تشجع المستوطنين الخارجين عن القانون على افتكاك المنازل والاراضي من الفلسطينيين، وتوسع التضامن العالمي وبدأ الضمير العالمي يشعر ان المأساة الانسانية في الهولوكوست في اوروبا في اربعينيات القرن الماضي ، يُستعاد منها الكثير على الفلسطينيين اليوم وحتى في الولايات المتحدة التي عرف رائيها العام السياسي بمساندة غير مشروطة لإسرائيل ، فان هناك تغيير فعلي لموازين القوى .
اذ تحت عنوان «تغيير جذري ، جيل جديد من الاصوات المساندة للفلسطينيين» ، كتب مراسل «الغاردين» في واشنطن ، جوليان بورجار ، عن الاصوات التقدمية القادرة على قلب موازين القوى لصالح الفلسطينيين داخل الحزب الديمقراطي.
التحوّل في الرأي العام الامريكي قالت عنه البي بي سي بانه «جذري ومزلزل « وهناك جيل جديد من الامريكان يساند حقوق الفلسطينيين دون تحفظ، ولرؤية هذا التحوّل يمكن النظر الى الكونغرس الامريكي ، المؤسسة الاكثر تمثيلا للمناخ السياسي الامريكي لتحسس التغيير الحاصل .
و في العالم انطلقت مسيرات ضمت الاف المتظاهرين رُفعت خلالها شعارات تطالب بحقوق الفلسطينيين وتشجب القصف المكثف على غزة، ورُفع في العديد منها شعار «حياة الفلسطينيين مهمة» و»فلسطين لاتستطيع التنفس» وذلك للتذكير بما حدث لجورج فلويد و بالشعار المناهض للعنصرية في الولايات المتحدة « حياة السود مهمة».
• وقود المدافع:
اعادة احياء القضية الفلسطينية عالميا والمساندة الدولية لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم لا يجب ان يحجبا امرا مهما ، وهو ان اكبر الرابحين من الحرب هي حركة حماس التي استطاعت ان تظهر نفسها بمظهر البطل الذي يدافع عن الفلسطينيين ، داخل الخط الاخضر وخارجه ، حتى وان كلّف سكان غزّة مئات الشهداء من المدنيين والاطفال وتدمير القطاع وضرب قدراتها العسكرية واستهداف قياداتها العسكرية، فالكل ، تقريبا، يرى ان الحركة قد حققت انتصارا سياسيا لا فقط في القطاع ، بل حتى في الضفة الغربية على حساب السلطة الفلسطينية.
بالنسبة لغسّان الخطيب ، استاذ العلوم السياسية والوزير الفلسطيني السابق، فان هذه الحرب «همشت كلا من محمود عباس والسلطة الفلسطينية» واظهرتهما بمظهر العاجز عن حماية الفلسطينيين ، في المقابل زادت من شعبية حماس لأنها برزت وكأنها الوحيدة القادرة على مقاومة إسرائيل، حتى وان دفع سكان غزّة الثمن غاليا.
والسؤال الذي يطرح الان هو : هل يمكن تجاوز الحركة في اعادة اعمار غزة المزمع تنفيذه؟ قيادة حماس اشارت بعد وقف اطلاق النار انها لن تقبل باي اعادة اعمار لا تمر بقيادتها وانجيلا ماركيل لمّحت الى ان «التواصل غير المباشر (بين الاتحاد الاوروبي وحماس) مع حماس اصبح ضروريا» و المبعوث الامريكي السابق للشرق الاوسط يرى ان بلاده لن تتجاهل حركة حماس « لكنها ستبقيها في قائمة الارهاب طالما لم تعترف بحق اسرائيل في الوجود.»
• الاستثمار السياسي الغائب:
صحيح ان القضية الفلسطينية نهضت من ركام الاهمال الدولي والصراعات الهامشية والتطبيع المذل وتأكدت كقضية وطنية وانسانية ونجح الفلسطينيون في نقل معاناتهم والانتهاكات التي تطالهم الى العالم من سلطات الاحتلال واستفزازات المستوطنين، لكن السياسة هي استمرار للصراع بوسائل اخرى وادارة الصراع سياسيا لم يكن دائما صائبا ، حيث عادة ما تسيطر التوظيفات الايديولوجية والدينية والسياسية والاقليمية وتحجب الحقوق المشروعة، مما حوّل القضية الى مزايدات بين الدول العربية ، فهل سيختلف الامر اليوم؟ وهل هناك استفادة من دروس الهزائم العسكرية والسياسية الماضية؟.
• تجريم التطبيع في تونس ومنزلقاته:
لا يمكن لمن يحمل فكرا ديمقراطيا وانسانيا ان يصمت امام الظلم او يهادن الاحتلال او ان يتغاضى على الانتهاكات التي ترتكب في حق الفلسطينيين ، كما لا يمكن لأي مؤمن بقيم الحرية والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها الا ان يعبّر عن ارتياحه وغبطته ازاء اي تحوّل في الضمير العالمي تجاه عدالة القضية الفلسطينية ، لكن ارساء قانون يجرّم التطبيع بصيغته الحالية وبما يحمله من نقاط عامة وفضفاضة ومبهمة احيانا ، اضافة الى ما يحمله من شحنة ايديولوجية وعاطفية ، سيسيئ الى القضية الفلسطينية حيث يغيب المدافعون عنها في المحافل الدولية وسيعيدنا هذا الامر الى عقود دغدغة العواطف والتغطية على الانكسارات الحربية والاخفاقات السياسية تحت يافطة «لاءات الرفض» وسيعطي مشروعية لخطاب المظلومية الاسرائيلي، اذ ان الاهم في مثل هذا الظرف الدقيق ان يتحول التعاطف العالمي مع معاناة الفلسطينيين ،الذي قد ينسى بعد ايام في خضم الاحداث المتسارعة التي يشهدها العالم، الى قضية رأي عام عالمي يعي بحق هذا الشعب في العيش بسلام على ارضه، ولن يتحقق ذلك الا بالحضور الفعلي في المحافل الحقوقية والسياسية والثقافية الدولية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115