والجمع حصون. ومن هنا جاءت الحصانة immunité، بمعنى جعل المتمتع بها في حالة تمنع التعرض إليه، أو مقاضاته لأسباب ينظمها القانون الدولي في مجال العلاقات الدولية بالنسبة إلى المبعوث الديبلوماسي ومَنْ في حكمه، وينظمها القانون الوطني فيما يتعلق بمن يتمتع بالحصانة من رعايا الدول المعنية.
إنّ مفهوم الحصانة عموماً غير محدّد، ممّا يجعل كل محاولة لتنظيمها في نسق واحد أمراً صعباً، ومن ثمّ من غير الممكن إيجاد تعريف واحد لها، لأنه من المستحيل أن نذهب إلى المبدأ نفسه لشرح حصانة أعضاء المجالس النيابية وحصانة رئيس الدولة والمبعوث الدبلوماسي، أو حصانة أعضاء السلطة القضائية.
وعُرّفت الحصانة في القانون الدولي كما يلي: «الحصانة تعني امتياز الإعفاء من ممارسة الولاية القضائية، أو هيمنة السلطات المحلية».
وعرّف معجم المصطلحات الاجتماعية الحصانة عموماً بأنها: «إعفاء الأفراد من التزام أو مسؤولية، كإعفائهم من تطبيق القواعد العامة في المسائل القضائية أو المالية».
وفي ضوء ما تقدّم، يمكن تعريف الحصانة عموماً بأنها: «قواعد مانعة، تضيق أو تحدّ من الاختصاص القضائي للدولة». والحصانة بمعناها العام هي حماية أشخاص معيّنين من الملاحقة القضائية عن الأفعال التي يرتكبونها في معرض قيامهم بأعمالهم الرسمية، وهي مقرّرة من أجل المصلحة العامة، لا من أجل مصالح الأشخاص الذين يتمتعون بها.
إنّ أداء رسالة القضاء في إعلاء كلمة القانون وإقرار العدل لا يتأتّى إلا باستقلال القضاء وتقرير ضمانات حقيقية لهذا الاستقلال، ويتطلب فوق ذلك توافر صفات وفضائل معيّنة في القاضي، إلا أنّ استقلال القاضي لا يعني عدم المساءلة إذا ما أخلّ بواجبات وظيفته ومقتضياتها وتقاليدها.
وقد تعـددت اتجاهـات الفقـه في تعريـف الحصـانة القضـائية بـين خلـط وتضـييق وتوسـيع ، كمـا وردت أحكامها في قوانين مختلفة تبعا لتنوّع جهات القضاء، حيث تفرّد بعض الفقهاء وادعى شبهة الإجماع على تعريف الحصانة القضائية بأنها تعني مبدإ عدم قـابليتهم للعـزل وقـد خلـط هـذا التعريـف بـين الحصـانة القضـائية في قـانون الإجـراءات الجزائيـة ومبـدأ عـدم قابليـة القاضـي للعـزل، وإنْ اشـتركا في كونهما ضمانة من ضمانات القضاة، إلا أن تباينهما واضح وجليّ، فالحصانة قيـد قـانوني مؤقـت يحـول دون تحريـك الـدعوى العموميـة إلا بعـد الحصـول على إذن ، أما مبدأ عدم القابلية للعزل، فيعني عدم جواز فصل القاضـي أو وقفـه عـن العمـل أو إحالتـه إلى التقاعـد أو نقلــه إلى وظيفــة غــير قضــائية، إلا في الأحــوال الــتي نــص عليهــا القــانون، والقوانين المنظّمة للقضاة تفرّق بين أحكام الحصانة القضائية وهذا المبدأ و تفرّد لكلّ منهما مواد خاصة به.
وعلى ذلك يمكن تعريف الحصانة القضائية بأنها حمايـة قانونيـة مقـرّرة لأعضـاء السـلطة القضـائية تمنـع اتخــاذ إجــراءات التتبع، وتحــول دون رفــع الــدعوى العموميــة علــيهم إلا بعــد الحصــول علــى إذن.
وتكفـل جلّ القوانين لأعضـاء السـلطة القضـائية حصـانة تقيـّد صـلاحية النيابة العمومية في رفعـه للـدعاوى العمومية ومباشرتها ، وليس ذلك من الامتياز الشخصي و إعطاء بعض الأفراد أفضلية عن الآخرين، بل فرضها القانون صونا لمصالح معيّنة ولاعتبارات متداخلة جديرة بالمراعاة ، فالحصانة القضائية تنطوي على توقير للسلطة القضائية ورعاية لأعضائها حمـاة العدالـة ، ممّـا يعـود أثره إلى تحقيق ثقة المتقاضين و اطمئنانهم على دعواهم، إذ الحصانة تبقي القضاة في مـأمن مـن الادعـاءات الكيدية و تحمي إرادتهم من الضغط والتوجيه، وكلّ ذلك يضمن العدل ويصون الحقوق في المجتمع.
أولا : الحصانة القضائية حماية لاستقلال القضاء وصيانة لكرامة أعضائه :
يعتـبر الفصـل بـين السـلطات في الدولـة مـن المبـادئ المسـتقرّة فقهـا وقانونـا ؛ لمـا فيـه مـن ضـمان للحريـة وتأكيـد لمشـروعية الدولـة وبُعـد عـن الاسـتبداد، بالإضـافة إلى الميـزات الـتي يحققهـا تقسـيم العمـل، مـن إجـادة وسـرعة في الإنجـاز، فـلا يخضـع القضـاة في ممارسـتهم لعملهـم لسـيطرة أيـة سـلطة كانـت تشـريعية أو تنفيذية، بـل غـايتهم تحقيـق الحـق والعـدل خاضـعين للقـانون ولضـمائرهم فحسـب، ومسـتقلّين عـن أيّ جهة، فلا قضاء بغير استقلال ولا عدل بغير قضاء، فالعدالة قرينة استقلال القضاء دائما.
والحصـانة القضـائية تـدعم هـذا الاسـتقلال، وتـوفر التـوقير الـلازم لأعضـاء هـذه السـلطة، ممّـا يحفـظ هيبتهم وكرامتهم من الاعتداء عليها، فـلا يسـتطيع القاضـي بغـير هـذه الحصـانة أن يُعلـي كلمـة القـانون في مواجهة الدولة والمجتمع ليحقّ الحق ويحمي العدالة.
كمـا أنّ في حمايـة القضـاة احترامـا للسـلطة الـتي ينتمـون إليهـا، وصـيانة لكرامتهـا وضـمانا لهيبتهـا نظرا إلى طبيعة الواجبات التي أنيطت بهذه السلطة، ولأهمية دورهم في المجتمع، فطبيعــة العمـل القضـائي ومـا يتصـف بـه مـن خطـورة وجـلال يـبرّر تمييـز القضـاة عـن غـيرهم مـن مـوظفي الدولـة فيمـا يتعلـق بـالإجراءات الجزائيـة الـتي قـد تتخـذ ضـدهم ، وقـد قيـل بحـق إنـه كلمـا ارتقـت الأمـة في نظـام الحكـم، كانت الضمانات القضائية عندها كافية وإلى الكمال أقرب.
ثانيا : الحصانة القضائية ضمان للعدل والحق و الحرية
للمتقاضين والمجتمع : إنّ هـذه الحصـانة بجانـب غيرهـا مـن الضـمانات القضـائية الأخـرى مقـرّرة للحفـاظ علـى اسـتقلال القاضي وصون كرامته، وذلك بدوره يشيع في صـدور المتقاضـين الثقـة والطمأنينـة ، إذ تبعـد هـذه الحصـانة القضـاة عـن الأهـواء والمـؤثرات عنـد فصـلهم في الـدعاوى، حيـث يكـون القضـاة مطمئنـين علـى مراكـزهم خاصــة في الــدعاوى الــتي تتعلــق بأعمــال الحكومــة أو أصــحاب النفــوذ في الدولــة، فالمســاس بــأمن القاضــي عرقلــة لأدائــه وظيفتــه، ممّا ينعكس أثره على استقرار المجتمع وأمن أفراده تحقيقا للمصلحة العامة، فهـي في حقيقتهــا ضــمان لحقوق المجتمع وحرية الأشخاص فيه، لأنّ تحقيق العدالة و توفير القضاء النزيه غاية المجتمع و حماية لمصالحه الأساسية.
ثالثا : تفادي الادعاءات الكيدية :
تحمي الحصانة رجـال القضـاء مـن الادعـاءات الكيديـة الـتي تعـوق حسـن سـير عملهـم، فيتمكن القاضي من ممارسة عمله في مأمن من أيّ اتهام مُغرض أو قبض جائر أو دعـوى متسـرعة في غـير محلهـا، فالقاضـي بحكـم عملـه يـوازن بـين مصـالح متعارضـة ويفصـل في خصـومات ويثبـت الحـق لأهلـه فيرضـى عليـه خصـم ويسـخط آخـر، ممـّا يجعلـه عرضـة للكيـد والعـداء والانتقـام، فيتصـنّع ذو الأغـراض العدائيـة الـدعاوى والـتّهم ضـد القاضـي محـاولا التشـكيك في نزاهتـه وإهانـة كرامتـه، طالبـا تحريـك الـدعوى العموميـة ضده والتحقيق معه ؛ لما في الإجراءات الجزائية من شدة ومساس بالحريات قد تضـرّ هيبـة القضـاء وتشـفي غليل أصحاب النفوس السقيمة . لذا قطع القـانون السـبيل علـيهم وحـرص علـى حمايـة أعضـاء السـلطة القضـائية وتأكيـد كـرامتهم، فتــدخل وأضــفى علــيهم حصــانة تضــيق علــى الادعــاءات الكيديــة وتحفــظ القضــاة مــن تعســف الــبعض وانتقامهم .
رابعا: وقاية القضاة من التعسف و التأثير على قناعاتهم :
فـلا تكـون الإجـراءات الجزائيـة سـبيلا لتهديد القضاة أو طريقة لضغط سلطات التحقيق على إراداتهم، فينأى القضاة بأنفسهم عن الأهواء والمؤثّرات، وذلك ممّا يكفل حياد القضاء ونزاهته. إذ بالحصـانة يقـيم القاضـي ميـزان العدالـة والإنصـاف دون رهبـة أو ميـل أو انحـراف، فيكـوّن عقيدته وفقا للقانون بكلّ حرية ودون ضغط أو إجبار يؤثّر على إرادته .
ولقد نصّت المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في ميلانو من 26 أوت إلى 6 ديسمبر 1985، والتي اعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قراريْ الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/32 المؤرخ في 29 نوفمبر 1985 و40/14 المؤرخ في 13 ديسمبر 1985
« ينبغي أن يتمتع القضاة بالحصانة الشخصية ضد أيّ دعاوى مدنية بالتعويض النقدي عمّا يصدر عنهم أثناء ممارسة مهامهم القضائية من أفعال غير سليمة أو تقصير، وذلك دون إخلال بأيّ إجراء تأديبي أو بأيّ حق في الاستئناف أو في الحصول على تعويض من الدولة، وفقا للقانون الوطني».
كما نصّت المادة 15 من الاتفاق بشأن امتيازات المحكمة الجنائية الدولية وحصاناتها « يتمتع القضاة والمدعي العام ونوّاب المدعي العام والمسجل عند مباشرتهم أعمال المحكمة أو فيما يتعلق بهذه الأعمال بالامتيازات والحصانات الممنوحة لرؤساء البعثات الديبلوماسية. ويواصلون بعد انتهاء مدة ولايتهم التمتع بالحصانة من الإجراءات القانونية من أيّ نوع فيمن يتعلق بما يكون قد صدر عنهم من أقوال أو كتابات أو أفعال بصفتهم الرسمية».
وقد نصّت أغلب الدول في قوانينها على الحصانة القضائية، من بينها مصر والأردن والكويت والمملكة العربية السعودية ولبنان والإمارات العربية المتحدة وقطر وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.......
وخصّ المشرّع التونسي القضاة بامتياز عند اقترافهم جرماً خارجاً عن الوظيفة أو منبثقاً عنها، وأضفى عليه حصانة خاصة تميّزهم من غيرهم، حيث نص الفصل 22 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة على أنه « لا يمكن بدون إذن من المجلس الأعلى للقضاء تتبّع أيّ قاض من أجل جناية أو جنحة أو سجنه، لكن في صورة التلبّس بالجريمة يجوز إلقاء القبض عليه فيعلم عندئذ المجلس الأعلى للقضاء فورا».
كما نصّ الفصل 104 من الدستور التونسي على « يتمتع القاضي بحصانة جزائية، ولا يمكن تتبعه أو إيقافه ما لم ترفع عنه، وفي حالة التلبس بجريمة، يجوز إيقافه وإعلام مجلس القضاء الراجع إليه بالنظر الذي يبتّ في مطلب رفع الحصانة».
خصّص الدكتور جابر غنيمي الجزء الأوّل من دراسته حول الحصانة الفضائية للتعريف بهذا المصطلح الذي يعني.
«قواعد مانعة، تضيق أو تحدّ من الاختصاص القضائي للدولة»
وتناول بالشرح :
- الحصانة القضائية حماية لاستقلال القضاء وصيانة لكرامة أعضائه.
- الحصانة الفضائية ضمان للعدل والحق والحرية للمتقاضين والمجتمع.
- تفادي الادعاءات الكيدية
- وقاية القضاة من التعسّف والتأثير على قناعاتهم
ويتضمّن الجزء الثاني من هذه الدراسة مبحثين هما :
- نطاق الحصانة القضائية من حيث الأشخاص والجرائم والإجراءات
- نطاق الحصانة القضائية من حيث الإجراءات.
تستوجب الحصانة القضائية دراسة نطاق الحصانة القضائية من حيث الأشخاص والجرائم والإجراءات (المبحث الأول) ونطاق الحصانة القضائية من حيث المكان والزمان (المبحث الثاني)
المبحث الأول : نطاق الحصانة القضائية من حيث الأشخاص والجرائم والإجراءات
لقد حدد القانون إطـارا شخصـيا وموضـوعيا (الفقرة الأولى) وإجرائيـا (الفقرة الثانية) لهـذه الحصـانة.
الفقرة الأولى : نطاق الحصانة القضائية الشخصية والموضوعية
- الحصانة القضائية من حيث الأشخاص : يتمتع بالحصانة القضائية جميع القضاة من الصنف العدلي، سواء القضاة الجالسون أو أعضاء النيابة العمومية أو قضاة التحقيق. كما يتمتع بها القضاة من الصنف الإداري والقضاة من الصنف المالي، بلا استثناء على اختلاف المحاكم التي يعملون بها وعلى تباين درجاتهم.
ولا تمتـد الحصانة إلى أيّ فـرد مـن أفـراد أسرة القاضي، إذ هي متعلقــة بشخصــه فقــط، فــلا تستفيد منها زوجته ولا أولاده. ولا تشمل الحصانة كتبة المحاكم.
- الحصانة القضائية من حيث الجرائم: تمتد الحصانة القضـائية إلى الجـرائم المتعلقـة بالوظيفة، كالرشوة مثلا وغير المتعلقة بها كالسرقة مثلا حيث لم يقصرها المشرّع على نوع معيّن منها لتوافر علّة فرض الحصانة في الحالتين.
لقد نصّ الفصل 22 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة على أنه « لا يمكن بدون إذن من المجلس الأعلى للقضاء تتبّع أيّ قاض من أجل جناية أو جنحة أو سجنه، لكن في صورة التلبّس بالجريمة يجوز إلقاء القبض عليه فيعلم عندئذ المجلس الأعلى للقضاء فورا».
ونستشفّ من ذلك أنّ الحصانة القضائية حسب القانون المذكور لا تتعلق إلا بالجنايات والجنح فقط دون المخالفات، وهو ما أقرّه كذلك المشرّع المصري، على خلاف المشرّع الجزائري والعماني والإماراتي الذين بسـطوا الحصـانة القضـائية علـى جميـع أنـواع الجـرائم، سـواء أكـان وصـفها جنايـة أو جنحة أو مخالفة.
ويـرى جانـب مـن الفقـه أنه مـن المستحسـن أن تشـمل الحصـانة القضـائية المخالفـات أيضـا، لأنّ القـانون الجـزائي يعاقـب علـى المخالفـات بعقوبـة السـجن مـدة لا تقـلّ عـن أربـع وعشـرين سـاعة، ولا تزيـد عــن ستة عشرة يوما، وبالغرامــة الــتي لا تزيــد عــن ستين دينارا أو بأحــدهما، ومــن شــأن إيقــاع هــذه العقوبـات علـى القضـاة التقليـل مـن كـرامتهم ووقـارهم، فيكـون القاضـي عرضـة للخـوف والتهديـد مـن تحرير مخالفات كيدية مما قد يؤثر على حياده. لذا كان من الحسن مد هذه الحصـانة حـتى المخالفـات، أسوة بأعضاء مجلس نواب الشعب، إذ تحوي حصاناتهم جميع أنواع الجرائم.
لكن نلاحظ الفصل 104 من الدستور التونسي المؤرخ في 27 جانفي 2014 نصّ على : «يتمتع القاضي بحصانة جزائية، ولا يمكن تتبعه أو إيقافه ما لم ترفع عنه، وفي حالة التلبّس بجريمة يجوز إيقافه وإعلام مجلس القضاء الراجع إليه بالنظر الذي يبتّ في مطلب رفع الحصانة».
ونحن نعتقد أنّ عبارة «يتمتّع القاضي بحصانة جزائية» وردت مطلقة، وهو ما يعني أنّ الحصانة القضائية تشمل جميع الجرائم، بما في ذلك الجنايات والجنح والمخالفات، فـلا يجــوز تخصيصـها بغـير مخصّـص قــانوني أو تضـييقها بـلا مقتضـى، كمــا أنّ دواعي إحاطة القاضي بسور من الحماية من مقتضيات تحقيق العدالة بـين المتقاضـين وصـون المصـلحة العامـة للمجتمـع. بالإضـافة إلى أنّ المخالفـات، بـالرغم مـن تفاهتهـا –كمـا يـرى بعـض الفقـه لا تنفي احتمالية التعسف، بل قد يتسع مجـال الكيـد فيهـا تبعـا لبسـاطتها وسـهولة توقيـع عقوبتهـا، ولا يخفى ما في الإجراءات الناشئة عنها من مساس بكرامة القضاء.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المشرّع اللبناني يفرّق بين إجراءات نزع الحصانة إذا ارتكب القاضي جريمة منبثقة عن وظيفته وبين إجراءات نزعها إذا ارتكب جريمة غير متعلقة بها، فالجرائم المتعلقة بالوظيفة هي وحدها التي يتوقف تحريك الدعوى العمومية فيها على إذن وزير العدل.
الفقرة الثانية: نطاق الحصانة القضائية من حيث الإجراءات
ينصّ الفصل 104 من الدستور التونسي على « يتمتع القاضي بحصانة جزائية، ولا يمكن تتبّعه أو إيقافه ما لم ترفع عنه... وفي حالة التلبّس بجريمة يجوز إيقافه وإعلام مجلس القضاء الراجع إليه بالنظر الذي يبتّ في مطلب رفع الحصانة».
وقد نصّ الفصل 45 من القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء « يبتّ كلّ مجلس قضائي في المسار المهني للقضاة الراجعين إليه بالنظر من تسمية وترقية ونقلة، كما يبتّ في مطالب رفع الحصانة ومطالب الاستقالة والإلحاق والإحالة على التقاعد المبكّر والإحالة على عدم المباشرة وفق أحكام
الأنظمة الأساسية للقضاة».
ففـي غـير حـالات التلـبّس بالجريمـة، يمنـع تتبّع القاضـي إلا بعـد الحصـول علـى إذن من مجلس القضاء العدلي. والحـال ذاتـه بالنسـبة إلى إجـراءات التحقيـق ورفـع الـدعوى.
وتقتصـر الحصـانة القضـائية هنـا علـى الإجـراءات الجزائيـة، فـلا تمنـع إقامـة الـدعوى المدنيـة أمـام القضاء المدني ضد العضو لمطالبته بالتعويض عن الضرر المترتب على الجريمة.
وأجـاز المشـرّع التونسي في حـالات التلـبّس فقـط إيقاف القاضـي، بشـرط إعلام مجلـس القضاء الراجع إليه بالنظر الذي يبتّ في مطلب رفع الحصانة. وللمجلس إمّا رفع الحصانة وبالتالي استمرار إيقافه أو رفضها وبالتالي الإفراج عنه من الإيقاف.
و لقد نصّ الفصل 33 من مجلة الإجراءات الجزائية على ما يلي: «تكون الجناية أو الجنحة متلبّسا بها :
أولا: إذا كانت مباشرة الفعل في الحال أو قريبة من الحال.
ثانيا: إذا طارد الجمهور ذا الشبهة صائحا وراءه أو وجد هذا الأخير حاملا لأمتعة، أو وجدت به آثار أو علامات تدل على احتمال إدانته، بشرط وقوع ذلك في زمن قريب جدا من زمن وقوع الفعلة.
وتشبه الجناية أو الجنحة المتلبّس بها كلّ جناية أو جنحة اقترفت بمحل سكنى استنجد صاحبه بأحد مأموري الضابطة العدلية لمعاينتها، ولو لم يحصل ارتكابها في الظروف المبيّنة بالفقرة السابقة».
ويحاكم القاضي أمام المحاكم الجزائية العادية، وقـد اتجهـت بعـض التشـريعات العربيـة إلى محاكمة القاضي أمام محاكم خاصة، كالتشـريع الإمـاراتي، حيـث أعطـى قـانون السـلطة القضائية الاتحادي بدولة الإمـارات العربيـة المتحـدة صـلاحية تحديـد المحكمـة المختصـة بـالجرائم الـتي يرتكبهـا القضاة والتي لا تتعلق بوظيفتهم إلى الهيئة التي يؤلّف منها مجلس التأديب، ويكـون ذلـك بنـاء علـى طلـب النائـب العـام. أمّـا الجـرائم المتعلقـة بـوظيفتهم فتخـتصّ الـدائرة الجنائيـة في المحكمـة الاتحاديـة العليـا بالفصـل فيه.
وكذلك استثنى المشرّع المصري محاكمـة القضـاة مـن قواعـد الاختصـاص العامـة، فمجلـس القضـاء الأعلى يعيّن المحكمة التي تفصل في جرائم القضاة ولو كانت غير متعلقة بوظائفهم.
وفي لبنـان تنظـر محكمـة التمييـز في جـرائم القضـاة الناشـئة عـن الوظيفـة أو الخارجـة عنهـا إذا كانـت منسـوبة إلى أحـد رؤسـاء الاسـتئناف أو أحـد المـدّعين العـامين لـدى محكمـة الاسـتئناف أو إلى أحـد قضـاة محكمة التمييز أو أحد قضاة النيابة العامة، وأمّا ما عداهم فيرجع إلى محكمة الاستئناف أمر محاكمتهم.
المبحث الثاني : نطاق الحصانة القضائية
من حيث المكان و الزمان
لا ريـب أنّ الحصـانة القضـائية المفروضـة لأعضـاء السـلطة القضـائية ومـن في حكمهـم غـير مطلقـة بــل محــددة بــأطر شخصــية وموضــوعية وإجرائيــة، كمــا بيّنــا في مبحثنــا الســابق، بالإضــافة إلى نطــاق مكـاني الـذي تسـري فيـه (الفقرة الأولى) وآخـر زمـاني لبـدايتها ومنتهاهـا (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: نطاق الحصانة من حيث المكان
لم يقصـر القـانون التونسي سـريان الحصـانة القضـائية علـى جـزء معـيّن مـن محـيط الدولـة التونسية، وعليـه يتمتـع القاضـي بها دون تحديد لمكان معيّن داخل حدود الدولة فتمتدّ إلى جميع أقاليم الدولة أي إقليمها البرّي وإقليمها البحري وإقليمها الجوي.
ولا يتمتع القاضي بحصانة خارج الدولة التونسية.
وتجدر الإشارة إلى أنه في بعض الدول العربية، مثل مصر والكويت مثلا تمــنح القاضــي –فــور تعيينــه- جــوازا ديبلوماســيا يــوفر لــه حمايــة مــن التعسـّـف ويحــول دون اتخــاذ الإجراءات الجزائية ضده خارج دولته إلا بإذن من بلاده ، ومـن مـبرّرات ذلـك –كمـا نعتقـد- انّ القاضـي يمثّل دولته بانتمائه إلى سلطة أساسية فيها يجب حفظ هيبتها وكرامتها أينمـا حـلّ صـاحبها .
والقاضـي –وإنْ لم يكن في منأى عن الزلل، إلا أن امتهانه أو التنقيص من شأنه إنما هو تهجّم على الدولة وتقويض لإحدى سلطاتها الرئيسية حامية للعدل وكافلة للحقوق، كما أنه في الخارج عرضة للكيد، خاصة في الدعاوى ذات الصبغة الدولية التي نظرها .
الفقرة الثانية: نطاق الحصانة القضائية من حيث الزمان
أولا: بدء سريان الحصانة القضائية :كـاد يسـتقرّ الفقـه على أنّ الحصانة القضائية يتمتع بها أعضاء السلطة القضائية عند حملهم صفة قاض، وتسـتمرّ معهـم أثنـاء شـغلهم منصـب القضـاء .
ويظهـر لنـا مـن ذلـك أنّ الحصـانة القضـائية تبـدأ بتـولّي منصـب القضـاء (التعيـين) وتسـتمرّ مـع القاضـي طالما كان شـاغلا لهـذا المنصـب، ونـرى أنّ الحصـانة فرضـت لحمايـة السـلطة الـتي ينتمـي إليهـا القاضـي ولـيس صيانة لشخصه.
ثانيا : زوال الحصانة القضائية :اختلـف الفقـه في تحديد وقت انتهاء أحكـام الحصـانة القضـائية، فـيرى أغلـب الفقهـاء زوالهـا بانتهـاء خدمـة القاضـي، ويـذهب فريق آخر منهم إلى بقاء الحصانة عند انتفاء صفة القاضي .
حيــث يــذهب جمهــور الفقهــاء إلى أنّ العــبرة بالصــفة وقــت اتخــاذ الإجــراء، ومــؤدّى ذلــك أنّ الحصـانة تـدور وجـودا وعـدما مـع وصـف القاضـي مـتى مـا حمـل هـذا الوصـف اسـتحق الحمايـة، فيتمتـع بها القاضي بمجرّد تعيينه وتستمر معه أثناء عمله في القضاء وتزول عنه بانتهاء خدمته لأيّ سبب كان، كالاستقالة والعزل. وحجتهم في ذلك أنّ المشرّع قصد بالحصانة رعاية القضـاء، وتنتفـي الحاجـة إلى هذه الرعاية بانتهاء خدمة القاضي، فالمعوّل عليه إذن –حسب هذا الرأي– الصفة وقـت اتخـاذ الإجـراء لا وقـت وقــوع الجريمــة ولا وقــت التحقيــق فيهــا، فلـو وقعـت الجريمـة قبل اكتساب صفة قــاض، ثمّ اتخذ الإجراء بشأنها أثناء عمله القضائي استفاد القاضي من هذه الحماية، إلا أنه لا يستفيد منها لو وقعت الجريمة أثناء عمله القضائي ثمّ اتخذ الإجراء بعد انتهاء خدمته.
ونحن نعتقد أنّ الحصانة لا يتمتع بها إلا من كان يحمل صفة قاض، سواء مباشر أو بحالة إلحاق.
ختاما يمكن القول إنه إذا كان القضاء يعني العدل فهو يعني القاضي الذي يطبّق ويُعلي كلمة الحق. ولتطبيق القاضي العدالة، يجب توفير الحماية له وتأمينه ليعيش مطمئنا في حياته، مستقرّا في عمله، وتتمثّل هذه الحماية في توفير الضمانات التي تحفظ هيبته، وتصون كرامته، وأهمّ هذه الضمانات تمتيعه بالحصانة القضائية، غير أنّ هذه الحصانة لا تعني ألا يطبق القانون بحق القاضي، بل يسري عليه وعلى غيره، حيث إنّ العموم من أهمّ خصائص القاعدة القانونية، وإنما المقصود أنّ لتطبيق القانون عليه إجراءات تضمن سلامة عمله الذي يقوم به.