وكلمة «الإسلاميّين» بالمعنى الإيديولوجي للكلمة، تمييزا لها عن الانتماء الديني المعبّر عنه بكلمة «مسلمين». ولئن كان التمييز بين الأمرين معروفًا ومتداوَلاً منذ زمن لدى المختصّين والباحثين في القضايا السياسيّة وحركات الإسلام السياسي، وغيرهم من المطّلعين من غير المختصّين، فإنّ الإضافة الأساسيّة تكمن، في تقديري، في إشارة الرئيس إلى ذلك التمييز الضروريّ بصورة علنيّة وواضحة،وفي سعيه إلى تقريب هذا التمييز بشكل بيداغوجيّ تفسيريّ مبسّط، نوعًا ما، إلى عامّة النّاس الذين يمثلون، في نظري،الجمهور المعني بخطاب الرئيس، وهذا تمييز غير مألوف في السياق المجتمعي العادي، ولعلّ ذلك ما يؤدّي في كثير من الأحيان إلى الخلط بين المستويات الدينيّة والمستويات السياسيّة ممّا يسمح لحركات الإسلام السياسي بتوظيف الدين سياسيّا وتقديم نفسها على أنّها المحافظة على الهويّة والانتماء والحاملة لهموم المسلم قبل أن تقدّم نفسها خادمة لمصالحه باعتباره مواطنا وخادمة لما يتمّ انتخابها لأجله، إن كان هناك انتخاب طبعًا. لعلّ كلام الرئيس إذن يجعل النّاس ينتبهون إلى الفروق الجوهريّة وإن في مستوى أوّل بين المسلمين والإسلاميّين.
ربّما لم أجد في كلام الرئيس غير هذه المزيّة، وهي ليست هيّنة، أمام عدم قدرة النخب على إيصال مثل هذه الفكرة إلى عموم النّاس، وكذلك الإهمال الإعلامي التامّ لمثل هذه القضايا الرئيسيّة. فكلمته أحدثت نوعًا من النقاش الإعلامي حولها ممّا سمح بمزيد توضيح المسألة، وإن كان اقتناص الفرصة ضعيفا جدّا فالاهتمام كان أكبر بالصراع السياسي الصرف أكثر من مرجعيّاته، وهنا مكمن القضيّة عندي.
من المخاتلة اليوم عدم الإقرار بالعداء القائم بين رئيس الجمهوريّة وممثّلي الإسلام السياسي في تونس الداعمين للحكومة وأساسا حركة النهضة، وإن رمنا الدقّة رئيس البرلمان راشد الغنّوشي. وأقول «عداء» ولا أقول صراعًا أو تنافسًا سياسيّا، إنّه عداء حقيقي تجاوز صفتي الرجلين الرسميّتين إلى العداء الشخصي.
بعد هذا الجزم والقطع، أتساءل وأحاول الفهم: كيف تتمّ إدارة ذلك «العداء»؟ وبأيّة وسائل وأدوات؟ ولماذا يتمّ اعتماد مثل هذه الطريقة التي اختارها قيس سعيد؟ وهل يمكن أن تساعد على تحقيق الأهداف المندرجة في التطلّع إلى أن نكون مواطنين على الحقيقة بكلّ معاني المواطنة الّتي لن نعيد اختراعها، فتصوّرها موجود ويطمح المؤمنون بها إلى بلوغها؟
إنّ المعضلة الحقيقيّة الّتي يواجهها الإسلام السياسي في تونس في علاقته برئيس الجمهوريّة تتلخّص في أنّه محافظ وغير سياسيّ. فكونه غير سياسيّ أغلق دون الإسلاميّين أبواب «البوليتيك» معه، فمنع ذلك كلّ أشكال التكيتيك معه والّذي تمّ تقديمه سابقا تحت مسمّى «التوافق». هناك يأس كلّيّ من التفاوض مع الرئيس على شيء يعتبره من ضمن المبادئ والقناعات. أمّا كونه محافظًا فهذا شكّل خطرًا حقيقيّا على الإسلام السياسي خاصّة في ثلاثة مستويات:
بالنسبة إلى المستوى الديني الّذي يتجلّى في مواظبته على الصلاة في المساجد، وفي مرجعيّات خطاباته وفي استحضار الرموز الدينيّة والتاريخيّة وتضمينه باستمرار للقرآن والأحاديث النبويّة وأخبار السير وغيرها.
أمّا المستوى الثاني فهو المستوى الأخلاقي، وهو الّذي ساهم بقسط مهمّ في فوزه بالرئاسيّات لما رأى فيه جزء من الناخبين من نزاهة وأمانة واستقامة، وبالإضافة إلى ذلك، وخصوصا في المدّة الأخيرة تركيزه مرارا وتكرارا على التشهير بأشكال النفاق والرياء والكذب الّتي يصف بها من ينعتهم بـ «المتآمرين»، دون ذكرهم صراحة، ولكن لا يمكن أن يخفى المقصود بهم في ظلّ ما يجري على الساحة السياسيّة.
وأمّا المستوى الثالث فيتعلّق بالصورة والانطباع اللّذين يحصلان للكثير من النّاس في كلّ مناسبة يخطب فيها الرئيس باستعمال الفصحى، وتضمين ما يقول نصوصا وأمثالا عربيّة قديمة جدّا، واللجوء إلى توجيه الرسائل وكأنّها ورقات برديّ إلى مؤسّسات الدولة بشكل يعيد الأذهان إلى أزمنة عربيّة قديمة، والرسم بخطّ مغربيّ قديم، والتأريخ بالأشهر القمريّة، إلى غير ذلك من هذه الأشكال الّتي رأى فيها البعض مناسبة للتندّر أحيانًا دون انتباه كبير إلى أنّها تخلق ضروبًا من الحنين لدى الكثيرين في المجتمع التونسي وتستميل مشاعرهم.
ولئن كنت ممّن يرفض التفسير على أساس نظريّة الشخصيّة القاعديّة، فإنّه لا ينبغي التغافل عن أنّ ذلك الحنين إلى أزمنة «مجيدة» كما صوّرتها برامج التربية والإعلام وغيرها، مترسّخ، لا عند عموم الناس فحسب، وإنّما حتّى لدى شريحة واسعة من النخب. بل أبعد من ذلك فإنّه، وعلى عكس ما نسمعه هنا وهناك من لوم على الرئيس بأنّه يتكلّم وحده، ويكون البقيّة في مقام المستمع المصغي، فهذا يولّد لدى فئات كبيرة من النّاس صورة، هي صورة العارف العالم، وهي عندهم محبّبة. وربّما لم يتخلّ الرئيس عن الكلام بمفرده ووضع من يتحدّث إليه في موقف المتلقّي لا غير، إلاّ في مناسبات قليلة يمكن حصرها عند الالتقاء بعامّة النّاس في الشارع، ممّا يعطي انطباعا بأنّه يستمع إلى مشاغلهم، والمرّة الوحيدة الّتي تبادل فيها الحديث، على الأقلّ فيما شاهدناه لا فيما لم يتمّ بثّه وتصويره، كانت أثناء لقائه بشيخ الزيتونة في الجامع الكبير إذ لاحظنا نسبيّا شيئا من التفاعل، ولئن كان غير متوازن فهو دالّ، إذ هو يترك انطباعًا بأنّ الرئيس ينصت إلى شيخ الدين وإمام الجامع الأعظم ويثني على ما يقول ويكشف الانسجام التامّ بين خطابهما، ويكتسب بذلك خطاب الرئيسي السياسي تأييدا دينيّا من المؤسّسة الدينيّة الرسميّة في تونس.
مثل هذه الصورة تمثّل خطرًا كبيرا على الإسلام السياسي في تونس في وضعيّة الحال، أي عدم الانسجام السياسي بينه وبين رئيس الجمهوريّة، وتساهم بقسط كبير في نجاحه في الصراع بين الطرفين، إذ أنّه سحب لأوراق أساسيّة احتكرها الإسلام السياسي لسنوات لاستقطاب فئات كثيرة من المجتمع، ولم ينافسه فيها أحد تقريبًا على الرغم من بعض المحاولات الضعيفة أثناء الحملات الانتخابيّة، من قبيل نشر صور لمرشّح يصلّي، أو آخر يقرأ فاتحة، أو ثالث يزور مقام وليّ. ولكنّ ذلك الصراع أو «العداء» سياسيّ فقط،ولا يرقى إلى الأبعاد الفكريّة. إنّه صراع سياسيّ بالمرجعيّات نفسها والأطر الذهنيّة ذاتها ويذكّر إلى حدّ كبير بعنوان كتاب أبي الحسن الأشعري «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين». إنّه صراع سياسيّ بالدين والأخلاق والانتماء إلى العروبة في دولة تعلن مبدئيّا ودستوريّا أنّها دولة مدنيّة ترمي إلى تحقيق المواطنة بمعناها الحديث، وإلى تكريس الحقوق الفرديّة والجماعيّة وتلتزم بالمساواة التامّة بين المواطنات والمواطنين، وهي أهداف ومطامح لا يمكن تأصيلها في موروث قديم ولا يمكن بناؤها على الدين والمرجعيّات الدينيّة إلاّ من باب التأصيل العقيم، أو من باب الاستراتيجيّة المضادّة. وهنا لا أريد مطلقًا الدخول في النوايا وأفضّل البقاء في المستوى الظاهر، دون أن يمنعني ذلك، في هذه المرحلة على الأقلّ، من وضع فرضيّة الاستراتيجيّة وإن بدا ذلك للبعض في خانة المستحيل.
لنبق في الظاهر إذن: إنّ الطموح إلى دولة المواطنة كما أشرنا إليها منذ قليل يتنافى مع مواقف رئيس الجمهوريّة في عدّة مناسبات من مسائل جوهريّة ترتبط بالحقوق والحريّات، ونحن نذكر جيّدا الموقف من المساواة في الإرث في الخطاب بمناسبة عيد المرأة التونسيّة الّذي ورد فيه التأكيد على «قطعيّة آيات المواريث» والإلحاح على أنّ «للبيوت حرمات تهابها الدساتير والقوانين»، وكذا الموقف من عقوبة الإعدام واستدعاء مرجعيّة القصاص، إلى غير ذلك من المواقف الّتي تكشف عن رؤية دينيّة للحقوق والحريّات، وهي لا تختلف في شيء عن مواقف الإسلام السياسي، إذ في هذا المستوى يتّفق «العدوّان السياسيّان» اتّفاقًا كلّيّا.
إنّ خلافنا الّذي نعلنه ولا نخفيه مع الإسلام السياسي هو معاداته للديمقراطيّة الّتي نقصد بها تبنّي حقوق الإنسان في كلّيتها دون تجزئة أو انتقاء أو توظيف، ودون اعتبارات دينيّة أو عرقيّة أو جهويّة أو ميول جنسيّة أو غير ذلك، وتلك المعاداة يبرّر لها دينيّا، ونقدّر أنّ ما يوازي المعاداة ويشابهها هو رفض الحريّات الفرديّة والمساواة، اعتمادا على الحجج نفسها، فيلتقي الخصمان في معارضة الديمقراطيّة من حيث أنّهما يتصارعان في حلبة الصراع نفسها، أي الدين وتوظيفه في السياسية، وهو ما يتعارض جذريّا مع مدنيّة الدولة وفصل المجال الديني عن المجال السياسي، ولئن كنّا هنا في غنى عن بيان أشكال توظيف الإسلام السياسي للدين، فإنّ رئيس الجمهوريّة يعمد هو الآخر إلى مثل ذلك التوظيف عبر استعمال المساجد وبثّ خطابات سياسيّة مباشرة أو غير مباشرة انطلاقًا منها، فتوظيف الدين في السياسة مهما كانت غايته لا يمكن أن يكون بأيّ حال في صالح دولة المواطنة الحديثة.
ومن هنا فإن من يريد محاربة الإسلام السياسي لا يجب أن يحاربه في المستوى السياسي فقط بل أيضا، وبالخصوص، في المستوى الفكري أي في المساهمة الفاعلة في بناء الديمقراطيّة بالمعنى الّذي أشرنا إليه، لا بالمعنى الإجرائي الشكلاني فقط. ولذلك كلّه لا يمكن معارضة الرجعيّة بالمحافظة، ولا يمكن معارضة الإسلام السياسي بمنطقه، إذ أنّ له القدرة على التلوّن والانحناء انحناء القصبة أمام الريح، وله من الأدبيّات ما يشرّع به لنفس الكمون والتقيّة. ونقدّر أنّ اللعب في الملعب نفسه، وإن كان من الممكن أن يحقّق انتصارًا، فلن يكون ذلك الانتصار إلاّ ظرفيّا، ليعيش المجتمع لاحقا أزمات أكبر من أزمته الراهنة ولعلّها تكون أشرس وأعنف.
سيّدي الرئيس! نعم، ولكن ...
- بقلم المغرب
- 09:30 15/04/2021
- 1358 عدد المشاهدات
بقلم: نادر الحمامي
ربّما هي المرّة الأولى الّتي نسمع فيها، إن لم تخنّي الذاكرة، رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد يتلفّظ بعبارة «الإسلام السياسي»