في الاستجابة العاجلة لجميع المطالب التي رددتها شعارات المحتجين بلا كلل ولا ملل عبر المدن والأرياف لمدة شهر.
لقد وقف التونسيون جميعهم وقفة رجل واحد من أجل إعادة بناء الوطن على أساس تشاركي وفي سبيل ضمان مستقبل أفضل.وبتعاقب السنوات، أعاد واقع البلاد المتّسم بتفاقم الصعوبات الاقتصادية والأزمات الاجتماعية الشباب والنساء والجهات إلى مصيرهم البائس. وخيّم جوّ من الإحباط محلّ الأمل. ورغم ذلك، لم يكُفَّ ساستنا الهُواة عن الهمس في آذاننا أنّ الثورة مكسب لا يُقدّر بثمن، ولكن لها تكلفتها، وأنّ الأمر سيستغرق عقدا من الزمان كي تتحسن الأوضاع وحتى يستوعب المواطنون آثار التغيير في حياتهم اليومية. ولكنّ شيئا من هذا لم يحدث. فقد هيمنت حالة من الفوضى على طريقة إدارة البلاد وتسييرها. وكانت النتائج مخالفة للتطلعات، وكان الواقع الفعلي للبلاد يزداد سوءا يوما بعد يوم سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الأمني أو الدبلوماسي.
لقد طغى عدم الكفاءة على المشهد العام. وهيمنت المصالح الأنانية لكافة الفرقاء السياسيين على حساب المصلحة العامة. فأصبحت قيمة «التضامن» مجرد عبارة جوفاء.
كانت الثورة التونسية تتويجا لحراكين مستقلين: قام الحراك الأول على مطالبة شباب المناطق الداخلية بالكرامة سعيا وراء تحسين الظروف المعيشية وطلبا للشغل وبحثا عن فرص اقتصادية أفضل عموما، بينما قام الحراك الثاني على المطالبة بالحرية وهو مطلب سكان المدن من مثقفين ومن أبناء الطبقة الوسطى سعيا وراء حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات والتجمع السلمي.
ولم يكن التعبير عن مطلب الحرية ليكون ممكنا لو لم يجد في انتفاضة الكرامة غطاء وحماية. ولقد أفضى التقاء الموجتين الاحتجاجيتين معا إلى ما دُرج على تسميتها «ثورة الحرية والكرامة».
وسرعان ما استعاد محترفو السياسة سيطرتهم على الشباب والمنتفضين والغاضبين. إذ وضعت «نخب سياسية» مرتبكة يدها على هذه الثورة التي اندلعت دون تأطير أو قيادة.
ولم تكن لدى معظم هذه النخب السياسية الجديدة تجربة في ممارسة السلطة أو دراية بتسيير الشؤون اليومية للبلاد أو رؤية واضحة أو برنامج عمليّ. لذلك، عمدت إلى الاستثمار في ما اعتقدت أنها يمكنها القيام به على أفضل وجه. وعلى هذا النحو، أعادت إلى الوجود تلك الاجتماعات العامة التي كانت تُعقد في مدارج الجامعات في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وأحيتها من جديد بما فيها من ملاحم هوميرية زائفة وتراشق بالكلام، ولكن، داخل قبة المجلس الوطني التأسيسي هذه المرة.
وفي غضون ذلك، طُمِست مطالب من قبيل الإدماج والتمكين وتأكيد مكانة الشباب والمرأة وأصحاب الشهائد العليا وممثلي المناطق الدّاخليّة والمهمشة والتي كان من المفترض أن تستفيد من الثورة وكافة المطالب الأخرى المندرجة تحت كلمة «الكرامة» الفضفاضة ولم تتمّ معالجتها.
لقد سُرقت الثورة من أبنائها. فقد تم استغلال ثورة الفقراء من قبل محترفي السياسة الذين يروجون لأنفسهم باعتبارهم المدافعين عن مصالح الشعب بأصواتهم المرتفعة ذات المضامين الشعبوية والغوغائية في الكثير من الأحيان. فقد ذهبت أغلبية نواب مجلسنا التأسيسي إلى معارضة الحق في المبادرة الفردية وحرية بعث المشاريع في سياق دفاعهم عن الحقّ في الإضراب كما لو كان أحد هذين الحقّين يتضارب مع الآخر. وانبنت هذه المعارضة المتشنجة للحق في المبادرة الفردية وحرية بعث المشاريع على أنّه يمثل إحدى مظاهر «الليبرالية المتوحشة».
كان العجز المتكرر عن استيعاب القضايا الاقتصادية وعن معالجتها خطأ مدمرا للنخبة السياسية التونسية على مختلف توجهاتها. فخلال مقابلة جمعتني برئيس الدولة الراحل الباجي قائد السبسي في شهر فيفري من سنة 2012، قال لي صراحة إنّ:» الاقتصاد مسألة تقنية سيأتي وقتها لاحقا. فاللحظة التي نعيشها اليوم سياسية بامتياز. ولذلك، فإن العمل السياسي فقط هو المهم».
ومن نفس المنطلق، قال لي زعيم سياسي من قياديي الصف الأول لحركة النهضة - سيعرف نفسه - في سنة 2013: «لقد كنا في المعارضة وفي السرية لمدة عشرين سنة. وكنا نناضل من أجل الحق في الوجود وحرية التعبير. في ذلك الوقت، كان الاقتصاد بالنسبة إلينا في مجال اللامفكّر فيه».
إذن، نلاحظ أن النخبة السياسية الجديدة للبلاد تتقاسم هذه الرؤية البالية التي تُقسِّم الزمن إلى مراحل سياسية واجتماعية وجيوسياسية وأمنية وربما اقتصادية يوما ما ... رغم أنّ الحياة ليست طيفا أحادي اللون بل هي رسم متعدد الألوان.
وعلى الصعيد الثقافي، يبدو أن قياداتنا السياسية قد تجاوزتها الأحداث. فكم من واحد منهم يمكن أن تثيره تلك الصرخة من الأعماق التي أطلقها ذات يوم مستشار حاكم شاب لولاية أركنساس كان حينها مرشحا للانتخابات الرئاسية الأمريكية: «إنّه الاقتصاد، أيها الأبله ...!»
لقد أتاح الدستور، في نسخته المعتمدة، ومن خلال سعيه المُبرمج وراء التوافق، المجال للهَذَر السياسي. إذ تجد الشيء ونقيضه، فطغى الغموض واللبس على المشهد العام. إنّ هذا التوافق الذي تم إرساؤه كآلية لتسوية النزاعات أجّل الأحكام والتأليف في جلّ المسائل المعقّدة والخلافيّة منها إلى أجل غير مسمّى.
وأفضى كل ذلك الى حوكمة سياسية مركبة إن لم تكن معقدة. فتقاسم السلطة تجنبا لاحتكارها من قبل طرف واحد، شتّت حوكمة البلاد وأضعفها مما جعل ممارستها أمرا مستحيلا. وهذا الواقع يضاعف مع ما سُمّيت بالهيئات المستقلة. وهي في الحقيقة هيئات محتواة بطبعها كيف لا وأعضاؤها يجري انتخابهم من طرف مجلس نواب الشعب. وبالتالي، فإن تركيبة هذه الهيئات تعكس موازين القوى داخل مجلس النواب والائتلافات والتحالفات الموجودة تحت قبّته. ولذلك، فإنّ الحديث عن استقلالية هذه الهيئات مغالطة. وتعد المحكمة الدستورية أهم هذه الهيئات باعتبارها عنصرا جوهريا داخل الشبكة المؤسسية للدولة. وقد كان من المقرر إرساؤها في موعد أقصاه سنة واحدة بعد المصادقة على الدستور. وها قد مرت سبع سنوات على ذلك ولا تزال المحكمة الدستورية غير موجودة ...!
وفي السياق ذاته، تجدر الإشارة إلى أنّ الهيئة الوحيدة ذات المنحى الاقتصادي، ونعني بذلك «هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة»، كان مآلها النسيان وغابت عن الأذهان دون أن يكترث أحد لذلك. فبعد أكثر من خمس سنوات على المصادقة على الدستور، نشرت اللجنة الأوروبية للديمقراطية عن طريق القانون المعروفة بمصطلح «لجنة البندقية»، بعد طلب من السلطات التونسية الاستئناس برأيها في سنة 2019، رأيها حول مشروع القانون الأساسي الخاص بهذه الهيئة. وتساءلت عن مهامّها وصلاحياتها لافتة الانتباه إلى الغموض الذي يكتنف نطاق اختصاصها ومطالبة بإعادة النظر في إجراءات وشروط أهلية أعضائها ومثيرة كذلك مسألة تمثيليتها وفعاليتها. ولكن، لم يتطلب الأمر وقتا طويلا لوأد المشروع.
إنّ تنظيم حوار وطني جديد لإخراج البلاد من أزمتها متعددة الأوجه سيكون، في أفضل الأحوال، عديم الجدوى وقد يؤدي، في أسوئها، إلى نتائج عكسية. لقد ولّى زمن النقاشات الخاوية. ولم تعد حالة الاقتصاد الوطني والمالية العمومية تسمح بإهدار المزيد من الوقت. لقد كنا نلعب منذ فترة في بدل الوقت الضائع وها هو الحَكَمُ يوشك الآن على إطلاق صافرة نهاية المباراة.
ما العمل ؟
على الصعيد السياسي، يبدو أن كل شيء قد قيل في الموضوع. لقد كشف تصوّر أعضاء المجلس التأسيسي للبناء المؤسسي عن أوجه قصوره. وأفضى البحث الدائم عن ضمانات تحول دون انفراد جهة سياسية واحدة بالحكم إلى قيام نظام سياسي مشوه وخارج عن السيطرة.
لقد تأكد بما لا يدعو مجالا للشك أنه ليس لدينا من خيار آخر سوى القيام بتعديل دستوري لتوسيع صلاحيات الرئيس ولوضع حدود واضحة تفصل بين أدوار رأسي السلطة التنفيذية. فمن غير المنطقي أن تقتصر صلاحيات رئيس الجمهورية على «تدشين الأقحوان» في حين أنه الشخصية السياسية الوحيدة المنتخبة انتخابا مباشرا والُمجسدة للمشروعية الشعبية.
إلى جانب ذلك، يجب أن نُعدِّل القانون الانتخابي بصيغة تيسّر تكوين أغلبيات برلمانية واضحة. وينبغي أن يكون هذا البناء المؤسسي الجديد ناجعا من خلال التخفيض في عدد نواب الشعب والسيطرة على تضخم أدوار ما تُسمى «هيئات مستقلة» حيث يجب إعادة النظر في طريقة تعيين والمدة النيابية لأعضائها لضمان استقلاليتها الفعلية. ويجب إعادة بعث المجلس الاقتصادي والاجتماعي في صلب مجلس دستوري استشاري ثان كما يجب أن تمتد صلاحياته لتشمل البعد البيئي. إلى جانب ذلك، من الضروري أن يمثل أعضاؤها المنظمات الوطنية والمجتمع المدني، بعيدا عن الانتماءات والولاءات الحزبية، مع تخصيص حصة للكفاءات القطاعية.
وتبدو الحاجة مُلِحة لوضع حد للمجادلات والمناكفات التي لا تهدف إلا إلى تقسيم البلاد حول مسائل دغمائية في كثير من الأحيان. وهو ما يقوض معنويات التونسيين ويفقدهم الثقة في إمكانياتهم ويجعل أقصى طموحاتهم مغادرة البلاد مع تفاقم المآسي اليومية لركاب/لاجئي القوارب في البحر الأبيض المتوسط.
إنّ تونس بحاجة ماسة إلى حد أدنى من الاستقرار لاستعادة الثقة ولاتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب خاصة وأنّ هذه الأجواء الحالية العكرة تفضي إلى الشلل الإداري وتحول دون اتخاذ المسؤولين أية قرارات شجاعة. ولعل في إضاعة فرصة التأمين ضد ارتفاع أسعار النفط في مارس الماضي خير مثال على ذلك حيث كلفت البلاد مئات الملايين من الدولارات إن لم يكن أكثر.
أمّا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وعلى غرار مرارة الذكرى العاشرة لاندلاع الثورة فستكون الوصفة صعبة الابتلاع.
في خضمّ الحرب العالمية الثانية، وأمام مجلس العموم، لم يكن لدى وينستون تشرشل، عند اعتماده رئيسا للوزراء، ما يعد به الشعب الإنجليزي غير «الدم والكدح والدموع والعرق». بينما طالما رفضت طبقتنا السياسية لغة العقل والواجب محبّذة مداعبة أهواء الناس.
لقد بجّلت الحكومات المتعاقبة على بلادنا، بحجة الاستثمار في السلم الاجتماعي، المعالجة الاجتماعية على حساب المعالجة الاقتصادية دائما. فاستحدثت مئات الآلاف من الوظائف الوهمية وانتدبت هنا وهناك مما أعطى وهم الكرامة لشباب بلا أمل. لقد وزعت الحكومات المتعاقبة ما تبقى من مدّخرات الدّولة واستنفذت خزائنها وصناديقها وكانت وراء تفاقم مديونيتها.
خلال السنوات العشر الماضية، غالبا ما كان يُنظر إلى الإصلاحات على أنها قيود تفرضها الجهات المانحة الأجنبية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. ولذلك، من الضروري أن تتوقف هذه النظرة السلبية إلى الإصلاحات وأن تنفّذ السلطات التونسية إصلاحات جيدة بمشاركة أكبر عدد ممكن من الجهات الفاعلة وأن ينظر إلى هذه الإصلاحات باعتبارها الطريق الملائمة لتحقيق نموّ إقتصادي أرفع وإدماج إجتماعي أشمل.
لقد أهدرنا الكثير من الوقت ونحن مكتوفي الأيدي إلى درجة أنّ كلّ الإجراءات الضرورية باتت مُلِحّة. فقد أفلست الصناديق الاجتماعية وصناديق التقاعد. وأصبح الدعم على استهلاك المواد الأساسية أحد أهم مصادر إهدار موارد الدولة في نظر الجميع. إنّ التعليم والصحة والسياحة والفسفاط والخدمات العمومية جميعها قطاعات تحتاج إلى إصلاحات كبرى. فقطاع النقل العمومي، على سبيل الذكر لا الحصر، في قطيعة كاملة مع احتياجات السكان، إذ كان الحلقة الأضعف في مكافحة وباء كورونا المستجد. وإزاء تفاقم الوضع نتيجة هذا الوباء، فإنّ الكثير من فاقدي الشغل والذين لا تشملهم المبادرات الاقتصادية والتغطية الصحية لن يكتفوا مستقبلا بإطلاق الشعارات والإدلاء بالبيانات بل إنهم سيطالبون فعلا بإزالة العقبات المتنوعة والمتعددة لتمكينهم من أن يكونوا فاعلين حقيقيين في عملية التنمية وأن يكونوا قادرين على تقرير مصائرهم بأنفسهم.
يجب أن نمنح فرصة لكل مواطن رجلا كان أو إمرأة، شابا كان أو كبيرا في السن، من المقيمين داخل الوطن أو من أبناء الجالية المقيمة خارجه بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو الجهة التي ينحدرون منها. ويجب أن يكون الإدماج هو القاسم المشترك بين جميع السياسات العمومية. وسيتحقق ذلك من خلال تبني سياسة استباقية للتهيئة الترابية والتنمية الجهوية ومن خلال تعزيز الإدماج المالي ومرافقة كل صاحب مشروع ودعمه شخصيا كذلك.
لقد أصبح الإدماج المالي ضرورة مُلحّة. وحان الوقت للكفّ عن الاستهانة بقطاع التمويل الصغير وبالقروض الصغرى تحديدا، خاصة وأنها الشكل الوحيد المرخص له داخل الدولة التونسية من بين كافة أشكال التمويل الصغير الأخرى. وللأسف، لا تؤمن الغالبية العظمى من مسؤولينا الماليين بالمزايا الشاملة لهذا النمط من التمويل خاصة عندما يكون مرتبطا بالخدمات الرقمية. ولا يرجع هذا التشكيك، الذي قد يكون ذا أبعاد إيديولوجية في كثير من الأحيان، إلا إلى عدم إلمامهم بالقطاع وبممارساته الجيدة ونتائجه المتميّزة على الصعيد الدولي. إذ يستفيد اليوم أكثر من 450.000 شخص من أصحاب المشاريع الصغرى من تدخلات هذا القطاع، مما يوفر مورد رزق لعدد مماثل على الأقل من العائلات، أي قرابة المليوني تونسي. لقد سجل قطاع التمويل الصغير نموا تجاوز ال 30 ٪ في السنة المنقضية بينما انكمش الاقتصاد الوطني بنسبة 10 ٪ خلال نفس العام. هناك إمكانات هائلة لتطوير قطاع التّمويل الصغير، إذ هو بمثابة طريق ملكي للحيلولة دون تعثّر قطاعات هشّة عريضة من الاقتصاد المنظم التونسي وتحوّلها إلى الاقتصاد غير المنظم وللحيلولة دون وقوع فئات عريضة من المجتمع التونسي-الضعيفة أصلا أو التي أضعفها الوباء- بين براثن الفقر.
وهناك أيضا حاجة ماسة إلى إحياء قيم العمل وبذل الجهد وإلى وضع حد لجميع الوظائف الوهمية ولجميع الانتدابات القائمة على المجاملة والمحسوبية. إضافة إلى ذلك، فإنه من الضروري إخضاع قطاعات الوظيفة العمومية إلى التدقيق لشطب التعيينات الحزبية وربط الأجور بالأداء والمساهمة الفعالة في خلق القيمة المضافة.
ويتحتّم علينا استعادة التوازن على الصعيد المالي وعلى صعيد الاقتصاد الكلي. ولن يتمّ ذلك إلا من خلال التقليص في عدد موظفي الإدارات وإعادة توزيعهم حسب الوظائف وحسب احتياجات الجهات والجماعات المحلّيّة والضرب بيد من حديد ضد كل إهدار للمال العام وترشيد توجيه الاستثمارات العمومية نحو خيارات مدروسة. هذا دون أن نغفل عن ضرورة تبني سياسة إدماج ضريبي تجعل المواطن التونسي يتصالح مع واجباته ويتعهّد بلتزاماته تجاه الدولة وذلك في كنف الشفافية والعدالة والإنصاف.
وثمّة ضرورة مُلحّة في سياق المناخ العام الذي تعيشه بلادنا اليوم إلى الوصول إلى اتفاق مع الشركاء الاجتماعيين على مخطط لإعادة هيكلة المؤسسات العمومية، حالة بحالة، بعيدا عن الدغمائية والأحكام المسبقة.
لقد ارتفعت خدمة الدين لتبلغ مستويات لا تطاق. ويرجع ذلك إلى الإدارة المتراخية للمالية العمومية على مدى السنوات العشر الماضية وإلى التّقهقر المستمر للدينار التونسي الذي أفقر البلاد بشكل كبير. ويستدعي هذا الوضع إدارة فعالة لديوننا الخارجية، وإلا فإن بلادنا ستتعثر حتما في سداد ديونها.
ويجب الشروع في إنعاش العرض وتحفيزه من خلال وضع إستراتيجيات قطاعية متنوعة وتنفيذها في كل من «القطاعات التقليدية» أي، على سبيل الذكر لا الحصر، قطاعات البناء والأشغال العمومية والبعث العقّاري والصناعات التقليدية والنسيج والصناعات الميكانيكية والصناعات الغذائية الزراعية، و»القطاعات المستحدثة» كذلك من قبيل قطاعات الطاقة المتجددة والتعليم والصحة وخدمات الأعمال التجارية والخدمات العمومية الحضرية إلى جانب قطاع الخدمات الرقمية ...
ولن تكون لهذا الانتعاش فرصة للنجاح ما لم ترافقه صدمة ثقة إيجابية من خلال تحسين مناخ الأعمال وإزالة العوائق الإدارية وتحسين العلاقة بين الإدارة و المواطن عبر رقمنة الخمات ومراجعة قانون الصرف.
لقد أظهر القطاع الخاص صمودا كبيرا إلى حد الآن. ولكنّ ذلك لا يجعله في مأمن من ضربة قاضية توجّهها له هذه الجائحة إذا لم تسترجع البلاد بسرعة نسقها المعتاد ولم تأخذ الدولة التّدابير اللازمة. لذلك، يجب الإسراع بتنفيذ خطة استباقية لدعم المؤسسات ولاسيما المنتمية للقطاعات المتضررة (السياحة والصناعات التقليدية والنقل والمطاعم...) في الأشهر المقبلة لتجنب كافة العواقب الاجتماعية التي يمكن أن يسببها الوضع الحالي.
يجب إدخال إصلاحات على المنظومة التعليمية وتطهيرها من الخَبث الإيديولوجي والعقائدي الذي يقوضها ودفعها قدما نحو قيم الحداثة بالوسائل والمضامين والمنهجيات. إذ ينبغي أن نتذكر دائما أنّ خير الدين باشا أسّس المدرسة الصادقية سنة 1876 على برامج تعليمية حديثة في العلوم والرياضيات والأدب قُدِّمت لشباب تونسي من جميع الخلفيات الاجتماعية. ولذلك، حري بنا أن نطمح ونخطط لاستحداث عديد المدارس الصّادقية الجديدة.
إنّ الثقافة والتعليم هما طوق نجاتنا الوحيد. ولكن، لن نلمس آثارهما إلا على المدى الطويل للغاية، علما وأنهما قطاعان يرتهنان بشدة لوضوح الأهداف والرؤية وللمثابرة في التنفيذ.
لقد كشف الوباء عورة منظومتنا الصحية وفضح إخفاقاتها المتعددة. وها قد حان الوقت للكفّ عن الحلول «الترقيعية» والشّروع في الإصلاح الشّامل لها. فقطاع الصحة ليس مجرد قطاع اجتماعي بل هو قطاع اقتصادي، كذلك، يجب إدارته بعقلانية. ويجب إعادة النظر في حوكمة هذا القطاع وإصلاحها لإيقاف النزيف المزدوج لكفاءاتها التي تغادر القطاع العمومي نحو القطاع الحرّ، والتي تغادر البلاد نحو الخارج.
ويستدعي توفير خدمات صحية أفضل إدخال تحسينات على الموارد والإمكانيات المتاحة وصيانتها أكثر من إحداث مؤسّسات استشفائية جديدة. فهذا هو واقعنا اليوم أمام نزيف المالية العمومية. وإن كانت هذه المقاربة لا تتماشى مع مطالب الجهات وتتعارض مع الوعود الشعبوية التي لا مستقبل لها.
إننا لا نعيش بمعزل عن بقية العالم. فلنتحمل مسؤولياتنا فيما يتعلق بالقضايا الكونيّة.
فعلى صعيد آخر، بات الانتقال نحو الاستدامة البيئية مع ضرورة التكيف مع تغير المناخ أولوية قصوى دون إغفال أهمية الانتقال الطاقي عبر تطوير الطاقات البديلة وتحقيق نجاعة طاقية أكبر. كما يجب علينا أن نسعى إلى التموقع داخل المجالات الجديدة والواعدة من قبيل الرقمنة. لقد تأخرنا كثيرا عن تبني هذه المنعطفات الحاسمة.
إننا معنيّون بالاضطرابات المناخية وبالآثار الناجمة عنها مثل ارتفاع مستوى سطح البحر وتآكل السواحل وتدهور التنوع البيولوجي والتصحّر وتحوّل أراضينا الفلاحية إلى أراض بور ونضوب مواردنا المائية وانقراض الأنواع المتوطنة ...
يجب على تونس أن تنخرط بحزم في مكافحة الجريمة المنظّمة من قبيل تجارة المخدرات والتطرف الديني والإرهاب والتهرب الضريبي والتهريب باعتبارها تحديات عالمية لا تعترف بالحدود القائمة بين الدول. ولا يمكن إيجاد حلول لهذه التحديات وتنفيذها إلا باعتماد مقاربات شاملة ومشتركة ومنسقة ومتعددة التخصصات.
إعتدنا غالبا اللّجوء إلى التعاطي الأمني والتدابير القسرية لمعالجة هذه التحدّيّات. وهي إجراءات لا ننكر أهميّتها. ولكن، واهم من يعتقد أنه بإمكاننا مواجهة هذه التحدّيات بالاقتصار على الرّدع. فمعالجة هذه القضايا العالمية يظل رهين التغيير الثقافي الذي يقتضي مقاربة متعددة الاختصاصات تشمل التربية والإعلام والعرض والتحريض انتهاء بالعقوبات في بعديها الإيجابي والسلبي.
ولن يكون كل هذا ممكنا إلا من خلال تموضع جيوسياسي مُتجدِّد قائم على تحليل موضوعي لموازين القوى العالمية، لا يأخذ سوى مصلحة تونس بعين الاعتبار بعيدا عن الاصطفاف العقائدي أو أي توجه آخر إلاّ إذا كان في خدمة الوطن.