وهذا العمل المسرحي مستلهم بالأساس من كتاب الصحفي هادي يحمد «كنت في الرقّة ... هارب من الدولة الإسلاميّة». وقد أعدّ العمل وقدّم تصوّره العام وقام أيضا بالدور التمثيلي منير العماري. وقام بالصياغة الدراميّة والإخراج وليد الدغسني.
وربّما عليّ في البداية التنويه أنّني لا أقوم هنا بدور الناقد المسرحي، فأن أقول ذلك يبقى محض ادّعاء وتطفّل على اختصاص دقيق وعلميّ، فما أكتبه هنا يقترب من مجال المتلقّي والمتابع، ولكن العارف أساسا بالنصّ الأصلي الّذي اقتبس منه العمل المسرحي، أي كتاب هادي يحمد، وهو ليس رواية بل هو شهادة حقيقيّة لأحد الملتحقين بداعش اسمه محمّد الفاهم، قبل الهروب من براثنها، وصاغ صاحب الكتاب شهادته بطريقته، وسنحت لي الفرصة في مناسبة سابقة بتقديم كتابه بعد أن اطّلعت عليه في طبعته الأولى، ثمّ متابعته قبل الطبعة الثانية.
غير خاف أنّ حديثي هنا سيكون حول عمل يُعرض للمرّة الأولى، والعارفون بالمسرح يعلمون جيّدا أنّ كلّ عمل مسرحيّ يتطوّر بتقدّم العروض سواء في مستوى النصّ أو التصوّر أو الأداء الركحي، ولكن هذا لا يمنع من تسجيل نقطة إيجابيّة كبيرة وتتمثّل في أنّ تحويل مثل كتاب هادي يحمد، ولدينا أعمال أخرى يمكن أيضا الاقتباس منها، إلى عمل فنّي يبقى أمرا مهمّا للغاية في حدّ ذاته، بحكم معالجته لقضيّة مؤرّقة وهي قضيّة الإرهاب وخلفيّاته وأسبابه ومحاولة تفسيره دون تبريره. وهذا المجهود الفنّيّ ضروريّ جدّا ويسير يدًا بيد مع الجهود الفكريّة والتحليليّة الّتي تقارب مسألة الإرهاب والالتحاق بالجماعات الإرهابيّة.
ويجب التنويه أيضا أنّ استلهام نصّ ما أو اقتباسه لا يعني بأيّ حال من الأحوال الوفاء للنصّ الأصلي كليّا والالتزام بما جاء فيه أو حتّى مسايرة الكاتب في توجّهاته واختياراته بحكم أنّ الاقتباس كما النقد الأدبي تخلّى منذ عقود طويلة عن سلطة المؤلّف بل أعلن موته، لتصبح السلطة بيد القارئ في النقد، ولنقل لصاحب الصياغة الدراميّة والمخرج وصاحب التصوّر العام والممثّل في حال العمل المسرحي الإبداعي.
من هذه الزاوية تحديدا يمكن الثناء على القائمين على هذا العمل الذي مزج بين العاميّة التونسيّة والفصحى، وأقدّر أنّه مزج كان موفّقًا إلى حدّ كبير بكلّ ما أحال عليه من رمزيّات ومن انتماء ممزّق إلى «الوطن-الأمّة» و»الأمّة» الّتي سكنت خيال الملتحقين بالجماعات الإرهابيّة، فمزّقوا جوازات سفرهم وهم يستعدّون لدخول أرض الشام، تمامًا كما فعل بطل المونودراما وهو يتخلّى عن وطنه في سبيل أمّته. ومن الجدير بالتنويه أيضا في هذا العمل المجهود الركحي الكبير الّذي قام به منير العماري ليحتلّ الركح احتلالا يضاهي ما حلمت به الشخصيّة من احتلال الأرض وغزوها حتّى يأخذ إمرتها اغتصابًا. كلّ ذلك في انسجام واضح مع الإضاءة التي أمّنها صبري العتروس، والملابس الّتي جهّزها عبد السلام الجمل، دون التغافل عن أثر الأصوات في تشكيل اللوحة الركحيّة، أصوات قطعت استرسال السرد كالمناجاة والتأمّل: مقتطف من «المجنون» لجبران، وآخر لحاتم التليلي المحمودي، ثمّ لا تسمع غير صدى صوت وديع سعادة من وراء صوت قويّ خلته صوت جمال مدّاني وقد جلس ورائي فسألته فقال إنّه غير صوته:
«مقفرةٌ الطرقاتُ وهابّون وحدنا. الأرض صارت غبارًا وها نحن نكمل حياةَ الغبار.
إننا نكمل حياة غبار الأرض. هذا الذي يجب أن يكمل حياتَه أحد، وها نحن نفعل.
لا نكمل حياة الأرض بل حياة غبارنا. لا نكمل حياة بل موتًا. جئنا لنرافق الغبار في هبوبه الأخير، نحمله إلى مثواه، وننام معه.
ما كان الأرضَ لا يشبهنا. إنه نقيضنا ونحن أنقاضه. وما جئنا لنكمل تلك الأرض بل لننقضها. ما جئنا لنكمل بل لننقض.
لا دين قبلنا لا دين بعدنا لا دين لنا. غباريّون بلا دين ولا متديّنين فليس للغبار غير الهباء. سابحون في فراغ. في الفضاء الذي لا الأرض أُمُّه ولا وَلَدُه. في فراغ الأبوَّة وفراغ البنوَّة.
إننا ذاهبون إلى إلهنا، إلى العدم.
نحن الغباريّون، و هذا ما رأيناه في هبوبنا، هذا ما كان شيئًا قبل أن يصير غبارًا، ما كان شيئًا قبل أن نصير نحن الغبار».
لكأنّي لم أسمع هذا النصّ من قبْلُ، وكادت أن تكون فتنةٌ لا أبا بكر لها تنسيني كتاب هادي يحمد «كنت في الرقّة... هارب من الدولة الإسلاميّة» لولا صورة أبي بكر البغدادي المبعثرة على الركح تعيد إليّ شتات أفكاري وتعيدني إلى النصّ، فأسأل: جميل الاقتباس واستلهام الفكرة وتأويلها وإخراجها إبداعيّا وصياغتها دراميّا، ولكن أين محمّد الفاهم، وما هو إلاّ إمكانيّة من الإمكانيّات، وقد غاب اسمه ورسمه ودفنته الشخصيّة فلا أكاد أتبيّن منه إلاّ ومضات التعذيب والضرب والإهانة في السجن بتهمة الانتماء إلى جماعة إرهابيّة أو التعاطف معها؟ هل الاختيار الفنّي يكشف عن حصر أسباب الإرهاب في الدولة القمعيّة؟ ألا يمكن أن يكون ذلك متطابقًا مع تبريرات «مبيّضي الإرهاب» كما يُقال دون قصد؟ صور ركحيّة للتعذيب، طالت نسبيّا، انطلقت بها المونودراما وعادت إليها في مناسبتين بالإشارة والتأكيد حتّى ليختصر المشاهد سبب الانضمام إلى داعش في القمع والتعذيب وسنوات الدكتاتوريّة والاستبداد، لولا الإحالات على الجانب النفسي المهمّ للشخصيّة وتكوينها وبعض علاقاتها.
نعم أنا على وعي تام أنّ المسرح فرجة قبل كلّ حساب، ولكنّها فرجة تفكّر دون السقوط في تحليلات المحلّلين حول العوامل السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والثقافيّة التي تجعل شابّا تونسيّا اجتمعت ظروف لتجعل منه إرهابيّا. ولكن كانت مهمّة الفنّان هي تقديم تلك الفرجة بكلّ الحريّة الممكنة وغير الممكنة، فيحتال عليها لجعلها ممكنة، فلا يمكن إنكار ما للأعمال الفنّيّة الجادّة مثل مونودراما «هارب من الدولة الإسلاميّة» من أثر كبير في سياقات تتميّز بالجدل والنقاش حول معضلة الإرهاب ودوافعه، وهو في تقديري ما ألحّ عليه نصّ هادي يحمد، وجعل من التعذيب والاستبداد وقد تعرّض إلى ذلك في آخر الكتاب، رافدا لعامل أساسيّ بالنسبة إليه لتفسير الإرهاب، وهو العامل الثقافي. ذلك العامل هو المحور في كتاب «كنت في الرقّة... هارب من الدولة الإسلاميّة».
سيضيق بنا المقام لو حاولت تتبّع مركزيّة العامل الثقافي لدى هادي يحمد، وحسبي الإشارة إلى فصلين أساسيّين في هذا الجانب، الفصل المعنون بـ «جهاد إمام نابل»، والفصل الّذي يليه وجاء تحت عنوان «في ظلال القرآن».
في الفصلين المتركّزين حول فترة مريرة في تونس، بداية التسعينات، وقد عاد فيها محمّد الفاهم إلى مدينة نابل قادمًا من دورتموند الألمانيّة، يخاطب هادي يحمد بطل شهادته: «ستتشكّل مراهقتك في هذه الأجواء»، أجواء تيه الحركة الديمقراطيّة في غياهب صراع بين نظام ابن علي والاتّجاه الإسلامي، وتشكّل مخيّلة شعبيّة قوامها أنّ النظام «يجفّف المنابع ويحاصر الدين والتديّن ويحاصر الإسلام». في ذلك الوقت كان العقاب الشديد من أمّ محمّد الفاهم يتلخّص في تهديدها له بعقاب الله له في النار، وكان ذلك أكثر ما يثير خوفه. وكانت تربية الأمّ قائمة على الحرص على أداء الشعائر إلى الحدّ الّذي جعل من جملتها يوم انقطاعه عن الصلاة وهو في السنة الرابعة ابتدائي: «ظننت أنّ ابني أصبح رجلاً». هذا وغيره من دروس إمام جامع «الكرمة»، والقضيّة الفلسطينيّة وكيفيّة تقديمها، والإحساس بالمظلوميّة، وتجربة جامع «الربط» مع حفظ القرآن، وما سمعه لاحقا واستحضره وهو على الحدود السوريّة: «كنت على بعد أمتارٍ من الوعد، ذاك الّذي سمعته وحفظته عن ظهر قلب في مساجد تونس: طوبى للشّام، يا طوبى للشام». كلّ ذلك من العوامل الثقافيّة المهمّة الّتي لا أثر لها في المونودراما ممّا يختزل أسباب الإرهاب في أمر يكاد يكون واحدًا: القمع والتعذيب.
دار ذلك بذهني على امتداد خمسين دقيقة كانت مدّة العمل المسرحي المونودرامي تكسر تراجيديّته براعة ممثّل بإمكانه اقتلاع ابتسامة مرّة أو ضحك كالعلقم أثناء حصص التعذيب أو حتّى خلال التهكّم من الهوَس الجنسي الذي يقترب أن يكون عنصرًا ملازمًا لتمثّلات الإرهابيّين وهم يحلمون بجنان الحور والغلمان تحت وقع القصف والرصاص وبين الدماء المراقة، بعد أن رموا جوازات سفرهم وكلّ ما يشدّهم إلى بلدانهم الأصليّة من أجل الأرض الموعودة والفردوس المفقود. ولكن مهلاً، من أوصلهم إلى «أرض الشام الموعودة» ليكون صراطهم المستقيم إلى جنّات الخلد عبر «الشهادة»؟ لمحات متسارعة في المسرحيّة في مطار أتاتورك الكبير تلمّح إلى ذلك دون إطناب كبير على ما ألحّ عليه نصّ هادي يحمد من الدور التركي في عمليّات التسفير وجعل أرض الأناضول ذلولاً أمام القادمين من كلّ حدب وصوب. كان «المهاجرون يصلون سوريا عن طريق مهرّبين أتراك، وكان المهرّبون لا ينسون أن يُوصوا بعدم التوقّف للجندرمة الأتراك إذا ما اقتفوا آثارنا أو أطلقوا علينا النّيران. كان إطلاق النّار في الهواء المعتمد في تلك الفترة لمجرّد التحذير لا أكثر ولا أقلّ». لم
يكن تصرّف شرطة الجمارك التركي في مطار إسطنبول أثناء المسرحيّة سوى شبه لتصرّف الجندرمة على الحدود في النصّ، كلاهما يشير إلى التساهل وحتّى التواطؤ وتسهيل الدخول إلى سوريا. وهذا الأمر يعضد الرافد الثقافي المشار إليه آنفا، إذ نقف في كتاب هادي يحمد على إلحاح كبير على هذا العامل أيضا، وهو ما بدا لنا ضامرا في المونودراما.
وبعدُ، فإنّ ما كتبت لا يدخل البتّة في إطار النقد المسرحي بل هو رأي عاديّ لمتابع ومشاهد للعمل الفنّي، وقارئ للنصّ ربّما غلبته مشاغله التحليليّة واهتمامه بقضايا تؤرّقنا منذ سنوات كثيرة فضاع حسّه الفنّي في غمرة الكتابة والقراءة.
بقلم: نادر الحمامي