وعلى الأحداث وقراءة انتقائية لها. تأتي الأسئلة في اتجاه وأحد تقريبا وأبرزها مالذي حدث لنا منذ 2011؟ هل حققت الثورة جزءا من أهدافها؟ ما الذي يجب تغييره في الأثناء؟ وتتعدّد الأسئلة لتظهر هذه الحيرة العامة على الوضع في تونس وعلى مستقبل الأجيال القادمة.
تنحصر الإجابات عموما في أنّ الماضي كان أفضل وأن الحراك الكبير الذي حدث في نهاية 2010 وبداية 2011 لم يصل بعدُ إلى تحقيق أهدافه. ويتمركز النقاش في المفاضلة بين الزمنين. وهذه المفاضلة هي مضمون النزاع السياسي الحاصل الآن، وهو المربّع الذي تدور فيه أهم الرهانات السياسية والانتخابية في الوقت الحالي.
نعتقد أن زاوية قراءة الوضع الحالي وتحليله من منطق المفاضلة بين زمنين لا يستقيم بشكل كلّي. لا تمكن المفاضلة بين سياقين مختلفين، ولا تمكن المفاضلة بين تجربتين مختلفتين في المضمون وفي الفاعلين وفي كيفية إدارة الشأن العام. وبالرغم من أن أشياء عديدة لازالت ماثلة بيننا، إلا أن اختلاف السياقين واضح. يمكننا المفاضلة بين زمنين من نفس التجربة ومن نفس منطق الحكم ومنطق العلاقة بين الدولة والمجتمع، ولكن من الصعب المفاضلة بين زمن استبدادي يضيّق بشكل واضح على الحريات وزمن الانتقال الديموقراطي الذي نمرّ به الآن.
يُقرّ الذين ينطلقون من منطق المفاضلة أن الفساد مثلا كان منحصرا في السابق عند بعض العائلات المعروفة ولكن الآن نجد الفساد منتشرا بكيفية غير معقولة وهذا صحيح. ولكن المسألة لا يُنظر لها من هذه الزاوية بل من زاوية أنه ا بإمكاننا الآن أن نفضح الفاسدين وبإمكان القضاء أن يقوم بمهامه بشكل أفضل وبالإمكان أن تسقط حكومة بأكملها جراء الفساد. ما يعطيه الانتقال الديموقراطي هو هذه القدرة على كشف الأشياء بالرغم من صعوبة تغييرها بالشكل المنتظر.
من المؤكّد أن وضع الناس على جميع المستويات سيء ويشكو من علل عديدة ولكن تبقى هناك دائما إمكانية للتعبير عن السخط وعن الغضب. لقد أتاح لنا الانتقال الديموقراطي طرح أسئلة عديدة حول الهوية في مستوياتها المختلفة وحول إخلالات التنمية وحول العلاقة بين المركزي والجهوي وحول قدرة المحلّي على ابتكار نماذج تنموية جديدة. الديناميكية التي نعيشها الآن لا يمكن إلا أن تؤثر إيجابيا على الوضع العام وتعطي للأفراد وللمجتمع إمكانية أن ينتقل من وضع إلى أخر بأكثر حرية.
ما هو مطروح علينا الآن ليس الإمعان في المفاضلة بين زمن ما قبل 2011 وما بعده، ونعتبر هذا الأمر كسلا فكريا وذهنيا لا يمكن أن يقدم لأن النوستالجيا في مثل هذه الحالات لا تعدو أن تكون سوى تقييم خارج السياق. إن المطروح علينا هو التفكير الجدي في الخروج من مآزق المرحلة وصعوباتها، هو كيف نقارن بين وضعنا وبين وضعيات مشابهة من الانتقال الديموقراطي حتى لو كانت سابقة مثل مسألة العدالة الانتقالية كما وقع تناولها في دولة جنوب افريقيا أو بعض التجارب المشابهة في مقاومة الفساد وتحسين المنظومة السياسية والانتخابية.
قدمت لنا وضعية الانتقال الديموقراطي سيناريوهات جديدة لم تكن متوقعة ولا نمتلك الثقافة السياسية الكافية للتعامل معها. العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع، العلاقة الشائكة بين المركزي والمحلّي، كيفية التعامل مع ظاهرة التدبير الذاتي مثلما وقع ذاك في واحات جمنة، مسألة الكامور وتعقيداتها. مثل هذه التحولات تدفع بنا إلى التفكير في إرساء عقد اجتماعي جديد بمقومات جديدة وبفاعلين منسجمين مع نظرية الانتقال الديموقراطي. ويكون هذا العقد الاجتماعي منسجما مع متطلبات السياق الذي نريده وهي متطلبات الشعارات التي من أجلها حصل الحراك الكبير في 2011. إن ما يحصل الآن هو أننا لا زلنا لم نغادر العقد الاجتماعي القديم الذي أدخلت عليه بعض التعديلات دون أن يفي بالحاجة. هناك تواصل للقديم ثقافة وذهنية وممارسات ونجد ذلك في أغلب المنظومات التي لم تتغير. وبقاؤنا في حالة سيئة على مستويات عدّة ليس مرتبطا بالانتقال الديموقراطي الذي نحن فيه بقدر ما هو مرتبط بذهنية سياسية قديمة من الصعب التخلص منها في عشر سنوات.