تحصل انتخابات ومع كلّ انتخابات تحصل مناورات وتحالفات... جلّها مضرّ بسير الجامعة وبما تأتي...
منذ سنين، تشكو الجامعة التونسيّة من إهمال ومن تراجع بعد أن ازدادت أعداد الوافدين من الطلبة ولم نستعدّ لهذا الزحف ولم نتهيّأ. اختنقت الجامعة فعمدت السلط إلى فتح المحلّات دون تخطيط أو رشد. كذلك، غدت الجامعة التونسيّة مستودعات كبيرة، يلقى فيها الطلبة ملجأ. أمّا الأساتذة، خيرة الأساتذة، فقد فرّوا وهاجروا شرقا وغربا. أمّا سلطات الإشراف فقد أصابها عجز وعمى. السلطات التونسيّة لا ترى، لا تسمع، لا تعي. لكنّها دوما تكابر وتتكلّم...
إضافة إلى ما حلّ بالجامعة من مصائب وما فيها من شوائب، أعتقد أن ما أتته وزارة التعليم العالي، في أوّل سنة للثورة 2011 وإقرارها لمبدإ انتخاب المديرين ورؤساء الجامعات، قد زاد الجامعة تراجعا وعمّق ما فيها من سوء حال ومن سواد تسيّب... كانت نيّة الوزير طيّبة. كان هدفه، في ظلّ ثورة ملتهبة، دعم الديمقراطية ومنح الجامعيين استقلاليّة في التسيير وحرّيّة في القرار. عوضا عن تسميّة المشرفين، كما كان الحال من قبل، ارتأى الوزير اعتماد الانتخابات لاختيار المشرفين. هي فكرة ثوريّة. هذا قرار محمود في ظاهره وقد طالبت به جموع الأساتذة والنقابات، منذ عقود. كانت نيّة الوزير طيّبة. لكنّ الطريق إلى جهنّم كان دوما محفوفا بالنوايا الطيّبة...
لا تصلح الانتخابات في الجامعة وفي غيرها من التنظيمات البيروقراطيّة. هذا ما كان بيّنه «ماكس فيبر» لمّا نظر في هذا النمط من التنظيمات. حسب فيبر، لا مجال للانتخابات في البيروقراطيّة، بل يجب تعيين المشرفين عليها. ويضيف محذّرا، في التنظيمات البيروقراطيّة، تعرقل الانتخابات التصرّف وتعطّل الإنتاج وتفسد العلاقات. رغم تنبيه فيبر، منذ أكثر من قرنين، قرّر الوزير اعتماد الانتخابات في الجامعة. كان على الوزير أن يتبيّن ما سوف يكون من تبعات مضرّة. كان عليه أن يدرك ما سوف يحصل في الجامعة من تبعثر. لكنّ الوزير لم ينتبه وهزّته حماسة الثورة...
° ° °
في المعهد الأعلى للتصرّف حيث قضّيت عمري في التدريس، كانت لنا، مرّة، انتخابات لاختيار رؤساء الأقسام. رئيس القسم هو أستاذ منسّق. يشرف، في بداية السنة، على توزيع الدروس. لا شأن له ولا نظر في ما يجري في القسم من درس ولا في ما كان من تغيّب أو من سوء سعي. رئيس القسم هو فقط وسيط، لا أكثر ولا أقلّ. في سنة 1992، في ما أذكر، حصلت انتخابات لرؤساء الأقسام وتقدّم لقسم الماليّة مرشّحان. واحد له دكتوراه دولة وله تجربة والأخر مساعد. كان الاقتراع وصوّت الأساتذة. تحصّل المساعد على تأييد تامّ ومطلق من جميع زملائه وفاز برئاسة القسم مرفوع الرأس. أما الدكتور فقد فاز بصوته الوحيد. كلّ أساتذة قسم الماليّة اصطفّوا صفّا واحدا وراء زميلهم المساعد وأعرضوا جميعا عن زميلهم الدكتور. ما كان الدكتور صعبا، عصيّا. ما كان ماكرا، خبيثا. ليست له مع أحد عداوة معلنة. ليس هو مع النظام ولا مع المعارضة. ما كان المساعد ذئبا، ذكيّا ولامعا، لبيبا. هو فقط رجل «زوّالي»، لا أثر له في الساحة ولا حضور. جاءت نتيجة الانتخابات كما كان متوقّعا واختار الأساتذة كلّهم من هو أيسر طبع، من لا ظلّ له ولا صوت...
يهاب الناس من كان قويّ الطبع، من له حضور وتمكّن. في غالب الأحيان، يختار الناخبون أضعف الناس قدرات، من هو مهادن، ليّن، لا رأي له ولا أثر. ذاك الذي لا يرى، لا يسمع، لا يتكلّم. يختار الناخبون مثل هذا البشر حتّى يمكن تملّكهم وإخضاعهم لما يرغبون من غايات وشأن. مع هؤلاء الطيّعين، لن يحصل إشكال ولن يتغيّر حال وتبقى دار لقمان على حالها...
° ° °
في التعليم العالي، قبل الثورة، كانت هناك في الكلّيّات انتخابات تجرى لاختيار العميد. أمّا في المعاهد وفي المدارس العليا فكانت الوزارة هي التي تعيّن المدراء المشرفين وكذلك الحال لرئاسة الجامعة. أيّامها، كان الكلّ يعلم ما يحصل في الكلّيّات من مناورات ومن توتّر بسبب الانتخابات. أمّا في المعاهد وفي المدارس فكان هناك انضباط للأساتذة أفضل وتسيير للشؤون أنجع. رغم ذلك، قرّر الوزير تعميم الانتخابات. كما اشتهى الوزير، حصلت في المؤسّسات الجامعيّة انتخابات واختار الأساتذة من أرادوا من الزملاء. كما هو الحال في كلّ الانتخابات، حصلت تحالفات ومناورات وتشكّلت الروابط والعلاقات. لعبت النقابات دورا مهمّا بل كان لها الدور الفيصل. تفاوضت النقابات مع المرشّحين وأبرمت الاتّفاقيّات والبرامج. وجّهت الناخبين. حشدت المساعدين وهم الأكثر عددا. كما كان متوقّعا، أفرزت الانتخابات، في غالب الأحيان، رجالا ونساء ليسوا هم الأفضل ولا الأقدر في التسيير والتطوير. أحيانا كثيرة، بإشارة من النقابات، انتخب الأساتذة من كان ضعيفا، وديعا وغير كفء.
لا ينظر الناخبون في ما سوف يأتيه المرشّح من إصلاح، من سياسة للرفع من قدرات المدرّسين، من تحسين للجودة. كما هو الحال في تنظيمات القطاع العموميّ، لا أحد من موظّفي الدولة يهتمّ بمستقبل التنظيم ولا أحد من الأساتذة يعنيه إن سوف ينهض التعليم أو يتقهقر. المهمّ، هو هل ينوي المرشّح تغيير سير المؤسّسة وهل من طبعه تحريك السواكن وهل هو صاحب حزم وعزم. حسب جموع الناخبين، يجب أن يكون الفائز ذاك الذي يدع الحياة تجري على عادتها ولا يبدّل شيئا. يجب أن يكون دوما مناصرا لزميله سواء أكان الزميل ظالما أو مظلوما، متقاعسا أو كسولا...
° ° °
حصلت في الجامعة انتخابات وفاز بالصندوق بعض الزملاء الأساتذة. بفضل الانتخابات، كسب المديرون ورؤساء الجامعات المنتخبون شرعيّة. أصبحوا أصحاب القرار. لا يمكن لأحد فصلهم أو تسليط عقاب أو لوم. هم شرعيّون وقد فازوا بالصندوق ولا أحد فوق شرعيّة الصندوق. حتّى الوزير لا سلطة له ولا قدرة على المنتخبين. كيف للوزير أن يحكم وقد جاء إلى الوزارة صدفة. عيّن وزيرا لأنّه تابع لذاك الحزب أو هو صديق لفلان أو لأنّه «نفس مومنة». لا شرعيّة للوزير حقيقة. وضعه في الوزارة هشّ ويده مرتعشة...
إذا أراد الوزير إصلاحا أو تغييرا سوف تواجهه النقابات ويحصل في الجامعة تشويش وهذا سوف يسرّع من عزله. ليس من دور الوزير النظر ولا الإصلاح. مهمّة الوزير هي الحفاظ على السلم الاجتماعيّة والسلم الاجتماعيّة هي دائما وأبدا من تأسيس النقابات وحدها. كذلك، ترى الوزراء وجميع المشرفين في الوزارة في تودّد للنقابات. في تقرّب. النقابات هي
صاحبة الحلّ والعقد. أحيانا، ترى الوزير في تذلّل. يأتمر بأمر النقابات. يشتكي إليها. يتّكل عليها لقضاء شؤونه، للبقاء في الوظيف.
في الجامعة التونسيّة، لنا اليوم من رؤساء الجامعات ومن المدراء والعمداء من لا يقبل ولا يرضى بالوزير. من لا يحسب له حسابا. الكثير منهم يرون أنّهم أصحاب الشرعيّة وهم وحدهم أصحاب القرار. كذلك، أصبح كلّ مدير، كلّ عميد، كلّ رئيس جامعة في إدارته دويلة. مع تعدّد الشرعيّات، أصبحت الجامعة التونسيّة دويلات. لكلّ واحدة سيادة وحكم محلّيّ. دولة المماليك ينفي كلّ الآخر. ينهش بعضها البعض...
لو نظرنا، لا نفوذ حقيقة للعمداء وللمدراء ولرؤساء الجامعات رغم ما كسبوا من فوز في الانتخابات. هؤلاء، لو دقّقنا النظر، هم أشباه مشرفين والنقابات هي المشرفة الحقيقيّة على المشرفين وهي التي تولي وتعزل وتأمر وتنهى. أفليست النقابات هي التي حشدت وقرّرت من سوف يفوز بالمقاعد؟ كلّ الفضل يعود إليها وكلّ الشكر لها وحدها. فويل للمرتدّين، الناكرين للجميل. وبئس المصير لمن خالف النقابيين وشقّ عصا الطاعة...
هذا التمشّي الحاصل في التعليم العالي نراه جليّا في التعليم الثانويّ حيث أصبحت النقابات وحدها صاحبة القرار ولها وحدها النفوذ التامّ. في الثانويّ، النقابات هي المزكّيّة لمديريّ المعاهد وهي التي تولي وتعزل وتعلن الإضرابات وتسند الترقيّات والفضائل الأخرى. أصبح المدراء في المعاهد والمشرفون في الوزارة من منظوريّ النقابات. فالنقابات اليوم هي الماسكة بالحبال جميعا وبالرقاب أيضا. هي التي تقرّر زمن العودة وأيّام الدروس وعدد الساعات وأشياء كثيرة أخرى. هي التي تلغي المنشور هذا وتفعّل الآخر. تؤازر هذا الوزير وتقف في وجه الآخر. هي التي تعزل وتسمّي...