عن «السّياق العام» الشهيرة وذلك بقطع تذكرة سفر على متن إحدى مراكب القرصنة والاختراق السيبرنى بهدف رصد ما يٌدبّر داخل قٌمراتها المظلمة من دسائس ومؤامرات...
في حقيقة الأمر ان ما يحصل في الفضاء السيبرنى لا يختلف كثيرا عن مشاهير قراصنة العصر الوسيط بزعامة «بربروس» وأخيه «عرّوج» إلا بالوسائل المستخدمة، فلئن كانت السفن البحرية أنذاك المحمّلة بما جادت بها اقتصاديات وحسناوات تلك الحقبة التاريخية قد فتحت شهية قراصنة المتوسط، فإن ما تجود به خزائن شبكات الكمبيوتر والحوسبة السحابية Cloud computing ومراكز البيانات الضخمة Data centreوالمنظومات الإعلامية للمصارف وتلك المرتبطة بالنظم الانتخابية المٌعرّضة للاختراق في كل لحظة كفيل بأن يٌسيل لعاب العديد من الدول ممّا أسهم في استنساخ أشباه des sosies للقرصان العثمانى الرمز «بربروس» بالآلاف...
رياح اليوم ستقودنا مباشرة الى عالم «الهاكرز الروسي» المٌلغّز والمثير للرعب داخل الأوساط المالية والسياسية عبر العالم وذلك من خلال إثارة عدد من نقاط الاستفهام التى ظلّت مٌعلّقة دون اجابات مٌقنعة لأمد غير قصير.
أولا : مدى وجاهة تصنيف القراصنة الروس كأخطر مجموعة «هاكرز» في العالم ؟
بشكل مباشر ودون تردّد الاجابة ستكون حتما بنعم لكن مع واجب التّنسيب والتحفظ الشديدين .. ففي خانة الإيجاب تٌعدّ مجموعات «الهاكرز الروس» من أخطر الشبكات التى تنشط في هذا المجال منذ مطلع الألفية الجديدة وذلك لتفرّدها بالخصائص التالية :
1 - ارتباطها النفعى/الوظيفي المٌقنّع بمختلف الأجهزة الاستخباراتية الروسية عموما والاستعلامات العسكرية بشكل خاص.. فمجموعات «الهاكرز الروسية» تٌقدم خدمات شتى لصالح حكومتها الفيدرالية مقابل التغطية على أنشطتها في مجال القرصنة ومختلف الجرائم الالكترونية Cybercriminalité .. بهذا النحو فهى بمثابة الطلائع غير النظامية للأجهزة الاستخباراتية الروسية، تٌموّل نفسها بنفسها دون اثقال لكاهل الميزانية الفدرالية بنفقات جديدة.. نوع من الشراكات المثمرة التى مكّنت روسيا من استعادة جزءا من نفوذها مجددا في العالم مع استحالة إثبات تورطها في هذا الاعتداء السيبرنى أو ذاك Cyberagression، والمثال «الأستونى» خير دليل على ذلك، فالجميع يعلم أنّ الرّوس خلف أوّل هجوم سيبرنى كاسح وشامل Cyberattaque massive عرفته البشرية على الدولة السوفياتية السابقة «استونيا»، لكن الجميع أيضا بما فيهم «حلف الناتو» عاجز على تقديم دليل قاطع على التورط المباشر لروسيا-بوتين...
ولئن كانت مجموعات «الهاكرز الصينية» تنشط بشكل شبه مٌعلن صلب «الجيش الشعبى الصينى» للقيام بعمليات تجسس تستهدف القطاعات التكنولوجية المتقدمة، وان كان قراصنة «كوريا الشمالية» بارعون في مجال اختراق النظم المعلوماتية للمصارف والمؤسسات المالية الكبرى لتمويل تطوير مشروعهم النووى، فإن مجموعات «الهاكرز الروسية» تشتغل على واجهتين : واجهة تشتغل للحساب الخاص لكسب أموال طائلة تقدر بملاين الدولارات، وواجهة ثانية تعمل لحساب الدولة الروسية وذلك بهدف إعادة الاعتبار لما ألمّ «بالدبّ الروسى» من انكسار عاطفي غير مسبوق جراء انفصاله القسرى عن جسده السوفياتى-الأم في مطلع تسعينات القرن الماضى...
2 - تٌعدّ الهجمات الالكترونية الروسية من أخطر العمليات التى جرت في المجال السيبرني وأكثرها تعقيدا، للذكر فقط :
سنة 2007 : تمكنت مجموعة من القراصنة المحسوبة على الروس من احداث شلل كامل لجميع المواقع الحكومية والمالية والإعلامية لدولة «أستونيا» لتكون أول حرب سيبرنية مفتوحة في تاريخ البشرية.
سنة 2008 : تمكن مُخترقون روس من تعطيل الاتصالات الداخليّة «لجورجيا» المعادية آنذاك لموسكو.
سنة 2014 : قامت الحكومة الروسية بالتعاون مع الهاكرز بشن هجوم DDOS يُعد أعنف 32 مرة من الهجوم المُماثّل الذي تم شنّه على جورجيا في 2008، تسبب في توقّف خدمة الإنترنت في «أوكرانيا» في الوقت الذي كان المتمرّدون الروس المُسلّحون الموالون لروسيا يٌحكمون سيطرتهم على شبه جزيرة القرم.
في سنة 2016 : في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، نجح «الهاكرز الروس» في اختراق الحزب الديمقراطي والحصول على مراسلات خاصة وحساسة للمسؤولين الديمقراطيين على رأسهم المرشحة للرئاسية آنذاك «هيلارى كلينتون» قبل ان يتم تسريبها فيما بعد بطريقة «قطرة قطرة» إلى موقع «ويكيليكس» بغاية إحداث الفوضى والتأثير على نتيجة الانتخابات الأمريكية التي انتهت بفوز «دونالد ترامب» في السباق الرئاسى.
3 - كما خلصت دراسة قامت بها مؤسسة CrowdStrike المتخصصة في السلامة المعلوماتية بان مجموعات الهاكرز الروسية تعتبر الأسرع دون منازع في العالم في الوقت المستغرق لاستكمال عملية الاختراق وفق مؤشر Breakout Time وذلك في حيز زمنى لا يتعدى 18 د و49 ثانية فقط بما يعادل 13 مرة أسرع من القراصنة الصينيين و8 مرات من أصدقائهم الكوريين الشماليين...
من باب التفصيل، فإن الهاكرز الروس يشتغلون ضمن مجموعات محدودة العدد – خمس أنفار على أقصى تقدير – وفق مخطط عملياتى تايلورى محدّدModus operandi taylorien ، فالأول يقوم باختراق المنظومة المستهدفة، والثانى يعمل على شفط المعلومات المتوفرة ، والثالث يتولّى معالجة وتحليل المعلومات المخترقة، والرابع يتكفل بعملية تسويقها، والخامس يٌؤمّن عملية الانسحاب الآمن من الشبكة.
بالمقابل وجب التنسيب والتحفظ في هذا الشأن، فإن كان «الهاكرز الروس» يٌشكّلون بحق قنابل رقمية مخيفة إلا ان عملية تضخيم عملياتهم من قبل الآلة الدعائية الأمريكية جاءت لتحجب حقيقة مدوية ومفزعة كشفها عميل «وكالة الأمن القومى» السابق «ادوارد سنودن» - سيكون موضوع إحدى مقالاتى اللاحقة - جاءت لتوثّق لأكبر عملية تنصت الكترونى على الإطلاق على مرّ التاريخ قامت بها الولايات المتحدة بمساعدة «عمالقة الواب» التى لم تستثن في طريقها أحدا بمن فيهم حلفاء «العم سام» الاستراتيجيون.. كما لا يمكن أن لا نتوقف بالاشارة على الأقل عند البرنامج المشترك الأمريكي/الإسرائيلى Olympic Games الذى قام باستهداف سيبرنى تخريبى مباشر لمحطة «ناطنز» الإيرانية لتخصيب اليورانيوم سنة 2010.
ولئن كان الروس يتعمدون التموقع الجيو-استراتيجى داخل الفضاء السيبرنى بالوكالة عبر توظيف مجاميع من الهاكرز، فإن «العم سام» كان يقوم بأكثر من ذلك بكثير بشكل مباشر وفي جناح الليل إلى حين انكشاف المستور بما عٌرف فيما بعد بفضيحة «تسريبات سنودن المدوية».
ثانيا : ما سرّ القوّة الرّدعية الضّاربة لمجموعات الهاكرز الروس؟
في حقيقة الأمر، حاول العديد من خبراء الحاسوب في العالم الاجابة عن هذا السؤال اللغز عبر التركيز والاشارة الى عامل «هوس» الجيل الجديد من الروس بالتكنولوجيا الحديثة في حين أننا نٌقدّر ان الأسباب الحقيقية الكامنة وراء التفوق الروسى في مجال الاختراق و القرصنة تتجاوز حدود الولع والهوس لتلتصق أكثر بشخصية المواطن الروسى والنظام التربوي المٌحفّز على اختيار الشعب ذات العلاقة بهندسة الكمبيوتر.
1 - شخصية روسية جمعية متماهية مع الرئيس بوتين:
بعد تفكك الاتحاد السوفياتى مرّت روسيا بأحلك مرحلة عاشتها أمة كبيرة : فقدان الكبرياء والدخول في نفق الشك الوجودى المظلم .. فكان لزاما أن تظهر شخصية تستعيد المجد السوفياتى ومن قبله القيصرى بأى شكل من الأشكال، فشاءت المصادفة ان تكون هذه الشخصية مجسدة في الزعيم الروسى «فلاديمير بوتين» التى أكدت العديد من الدراسات السيكولوجية في شأنه «بأنه خريج المدرسة السوفيتية في السياسة، ومن تلك المدرسة ورث أشياء أخرى، من أهمها ايمانه المطلق بأن روسيا ليست دولة اعتيادية مثل بقية دول العالم، بل هي قطب دولي ، هذه المكانة العالمية لروسيا يريدها بوتين ان تكون بديلا عن الاتحاد السوفيتي المنهار، لذلك يحاول ان يضع نفسه ودولته على عجل في ملابسات كل ازمة او مشكلة عالمية وبقوة، حتى لو لم تكن هناك فوائد واضحة لروسيا ، لكن المهم ان تكون روسيا حاضرة فيها.
ولعل الحسّ المخابراتي، أيضا يبدو واضحا على بوتين، وهو أيضا جاءه من التجربة التي خاضها في هذا المجال، وهذه السمة تساعده في السيطرة على الحكم داخل روسيا، كونه عالما بذبذبات المؤامرات والدسائس التي تحاك ضده، من المقربين حوله، وكذلك الحال تعينه معلوماته وثقافته الجاسوسية على فهم الأطراف الدولية والتمكن من حسم المفاوضات بشكل يحقق مصلحة بلاده».
2 - منظومة تربوية وأكاديمية متميزة في مجال تكنولوجيا الاتصال:
في تواصل مع حالة التماهى الجمعى للروس مع رئيسهم فإن السياسات العمومية الروسية في مجال التربية والتعليم العالى أولت مكانة محورية للتكوين في ميدان الهندسة المعلوماتية بمختلف فروعها واختصاصاتها مما أسهم في خلق جيل مقتدر ذا كفاءة عالية من المختصين في علوم الكمبيوتر.. جيل تمكن من التفوق في مختلف المسابقات الدولية في مجال البرمجة.. عدد كبير منهم تخرج من جامعات كبرى مثل جامعة ITMO «بسان بطرسبورغ» حيث تٌدرّس تقنيات الاختراق وكيفية التوقى منها...
فمن «فلاديمير لينين» إلى «فلاديمير بوتين» أمسى من المؤكد بأن الثورة البلشفية لم تتوقف، فمن ثورة «البروليتاريا الأممية» تشهد روسيا/بوتين اليوم «ثورة الهاكرز أصحاب القبعات السود» Hackers black hat العابرة للحدود.
« الهاكرز» الرّوس: القنابل الرقمية المخيفة !
- بقلم محجوب لطفي بلهادي
- 10:45 27/07/2020
- 1003 عدد المشاهدات
في زمن سياسى مخاتل بامتياز يٌدار فيه الشأن العام بمنطق «يبطا شوية» ، قرّرنا بدورنا أن لا نشذّ عن هذه القاعدة خشية مغبّة ارتكاب خطيئة الخروج