وصلت إلى حدود أوقفت عمل المؤسسة التشريعية وأدخلتها في خلافات لا نهاية لها أساءت إلى صورتها وقلصت بصورة كبيرة من عملها. كما عرف الخطاب السياسي تزايدا خطيرا في مخزون العنف اللفظي وحتى المادي مما جعل الأجواء مشحونة وتنذر بمخاطر قد تهدد نجاح تجربة التحول الديمقراطي في بلادنا في موضع الخطر .
وقد اهتم أغلب الملاحظين والمهتمون بالشأن السياسي والناشطون السياسيون بتحليل وقراءة أسباب هذه الأزمة وطرق الخروج منها .
وقد أشارت أغلب القراءات إلى مسألتين هامتين : الأولى تتعلق بالنظام الانتخابي والذي وإن كان ضروريا في مرحلة صياغة النصوص الأساسية للجمهورية الثانية ومن ضمنها الدستور فانه أصبح اليوم يشكل عائقا كبيرا .فالنظام الانتخابي الحالي أنتج مؤسسات منتخبة تتميز بالتشرذم وغير قادرة على تكوين أغلبيات حكم.ومن هنا أتت الدعوات إلى ضرورة إعادة النظر في النظام الانتخابي وإصلاحه ليكون قادرا على تكوين أغلبيات حكم على كل المستويات من المحلي إلى الوطني .
أما المسألة الثانية والتي تساهم في الأزمة السياسية التي نعيشها فتهم النظام السياسي الهجين الذي وضعناه مع دستور 2014. وهذا النظام جاء لمحاولة الخروج من النظام الرئاسوي الذي تحول مع الزمن إلى نظام تسلطي واستبدادي.وفي نفس الوقف كانت هناك مخاوف كبيرة من فكرة المرور والانتقال إلى نظام برلماني بسبب جرعة الاستقرار التي يحملها .
هذه الاكراهات دفعتنا في غمار الثورة إلى محاولة البحث على نظام سياسي جديد وبديل يدعم الديمقراطية ويحد من هيمنة السلطة المطلقة للجهاز التنفيذي .
فكان النظام السياسي الجديد الذي أتى به دستور 2014 والذي حاول الحد من صلوحيات الرئاسة من خلال إعطاء صلوحيات كبيرة لرئيس الحكومة في إدارة الجهاز التنفيذي وتقليص صلوحيات رئيس الجمهورية وفي نفس الوقت أعطى النظام السياسي الجديد صلوحيات واسعة للجهاز التشريعي خاصة في ميدان مراقبة الجهاز التنفيذي .
وقد أثبتت تجربة السنوات العشر الأخيرة حدود هذا النظام السياسي وضرورة تقييمه وإعادة النظر فيه لتجاوز مطباته وصعوباته .
وقد ساهم النظام الانتخابي والنظام السياسي الهجين في الأزمة الخانقة التي تعيشها بلادنا منذ أشهر .
إلا انه في رأيي فإن هذه الأزمة السياسية كانت لها انعكاسات اقتصادية كبيرة ساهمت في تأبيد صعوبات التحول الاقتصادي الذي عرفته بلادنا منذ الثورة .
وفي رأيي فإن النظرة السياسية تنعكس على الوضع الاقتصادي على أربع مستويات على الأقل .
فالمستوى الأول يهم غياب النظرة والرؤيا حول تصور نمط التنمية ومستقبلها.وفي غياب هذه النظرة يصعب تحديد السياسات الاقتصادية التي ستجمع كل الفاعلين الاقتصاديين وتوحد كل جهودهم نحو مشروع تنموي وأهداف تنموية موحدة .
كما سيكون للأزمات السياسية المتتالية تأثير على أحد قاطرات النمو المهمة ألا وهو الاستثمار .فهذه الفترات ليست مناسبة ولا تدفع المستثمرين على المخاطرة ودفع الاستثمار .فالعملية الاستثمارية تتطلب الوضوح في المستقبل وخاصة حول السياسات الاقتصادية القادمة وتشترط ديمومتها لسنوات طويلة وكما يشترط غياب التغيير الفجئي .فكل مؤسسة خاصة وقبل الانطلاق في أي مشروع استثماري تقوم بدراسة شاملة (étude de marché) للتأكد من مردودية الاستثمار .وهذه الدراسة تأخذ بعين الاعتبار كل العناصر والمؤشرات على مدى طويل كنسبة الفائدة مثلا ونسبة الأداء وكذلك كل التسهيلات والتشجيعات المتوفرة .وتعطي هذه العناصر صورة شاملة للمستثمر حول مردودية المشروع الاقتصادي المنتظر .
إلا أن التغيير في أي عنصر من عناصر هذه الدراسة سيكون له تأثير على مردودية المشروع وستدفع بالتالي المستثمر إلى تأجيله إلى وقت لاحق .فلو نأخذ مثلا تغييرا مفاجئا في السياسة الجبائية مع ترفيع في نسب الاداءات فإن هذا التغيير سينعكس سلبا على التوازنات المالية التي حددتها الدراسة وسيزيد من تكلفة الإنتاج مما سيؤثر على مردودية المشروع .هذا التغيير في السياسة الجبائية سيدفع المستثمر إلى إعادة النظر في قرار الاستثمار والمخاطرة التي يحملها وتأجيلها إلى فترة لاحقة .
إذن للازمات السياسية انعكاسات كبيرة على الاستثمار بما تجعله من إمكانية تغيير مفاجئ في السياسات الاقتصادية وانعكاساتها على العناصر التي تكوّن تكلفة للإنتاج وتحدد مردودية المشاريع الاستثمارية .
فالأزمات السياسية عادة ما تنتهي بتغيير التحالفات الحكومية والأغلبيات البرلمانية وتفتح في غالب الأحيان الباب واسعا أمام تحولات وتغييرات في الأولويات والاختيارات الاقتصادية الكبرى .وغياب الاستقرار السياسي سيدفع المستثمرين إلى التراجع عن استثماراتهم والمرور إلى مواقع انتظارية في انتظار توضح الأمور وحتى يبرز الخيط الأبيض من الخيط الأسود .
المستوى الثالث والذي ستنعكس فيه الأزمة السياسية على المستوى الاقتصادي يهم التوازنات الكبرى للدولة .فتراجع الاستثمار والذي سينعكس عليه هبوط كبير في النمو سيكون له تأثير سلبي على الموارد المالية للدولة وعلى المداخيل الجبائية .ففي بلادنا تشير الدراسات إلى أن تراجع النمو بنقطة سيكون له تأثير على المداخيل الجبائية التي تتراجع بـ300 مليون دينار .
كما أن الأزمات السياسية سيكون لها كذلك تأثير كبير على التوازنات الخارجية.فهذه الفترات ستعرف تراجعا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتي ستدخل في مرحلة انتظار كما يفعل ذلك المستثمرون المحليون .وفي نفس الوقت فان اللجوء إلى الأسواق المالية العالمية والمانحين سيشهد تراجعا مهما مما سيساهم في تراجع التوازنات المالية الخارجية للبلاد .
إلى جانب انعكاساتها على غياب التصورات الكبرى والسياسات الاقتصادية والاستثمار فإن الأزمات السياسية وغياب الاستقرار لها كذلك انعكاسات سلبية على التوازنات الاقتصادية الكبرى .
أما المستوى الرابع للانعكاسات الاقتصادية للأزمات السياسية فيخص العلاقات بالمؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمانحين بشكل عام .فهذه المؤسسات بشكل عام لا تحبذ فترات عدم الوضوح وعدم الاستقرار السياسي وتخير تأجيل كل الاتفاقيات مع البلدان إلى ما بعد الخروج من الأزمة السياسية .فحتى الفترات الانتخابية العادية تدفع المؤسسات المانحة إلى تأخير مفاوضاتها مع البلدان .أما فترات الأزمات السياسية فإن لها انعكاسات أسوأ وتدفع هذه المؤسسات إلى إيقاف المفاوضات في انتظار الوضوح المطلوب.
وأسباب هذا التأجيل تعود إلى أن هذه المؤسسات تبني اتفاقاتها مع البلدان على أساس برامج واضحة والتزامات دقيقة .إلا أن دخول البلدان في أزمات سياسات يفتح المجال أمام إمكانية تغيير البرامج والأولويات الاقتصادية.كما أن الحكومات الجديدة والتحالفات المنبثقة من رحم هذه الأزمات قد ترفض احترام الالتزامات التي أخذتها الحكومات السابقة .
في فترات الأزمات السياسية تشهد العلاقة بالمؤسسات الدولية وكافة الجهات المانحة الكثير من التراجع والانحسار بسبب التذبذب وعدم وضوح الاختيارات الاقتصادية المستقبلية .وهذا من شانه أن يؤثر سلبا على الوضع الاقتصادي مع تراجع الدعم المالي لهذه المؤسسات.
تشير هذه القراءة إلى الانعكاسات المباشرة للازمات السياسية على الوضع الاقتصادي وتزيد من تأزيمه وصعوباته .وفي هذا الإطار فإن تحسين الوضع السياسي والخروج من الأزمة يعتبر شرطا من شروط النهوض الاقتصادي .إلا إن تجاوز هذه الأزمات المتتالية يتطلب في رأيي صياغة عقد اجتماعي يوحد التونسيين حول مشروع سياسي ويفتح لهم أبواب تجربة تاريخية جديدة