وبما أن كل أزمة إذا لم تجد لها حلا في الإبان زادت تعفنا فإن الوضع في المؤسسة وفي جهة صفاقس وفي قطاع الصحة ازداد تعكرا بعد إيقاف مسؤولين نقابيين عن العمل على خلفية نشاطهم النقابي (وهو ما لم تتجرأ عليه حتى الديكتاتورية) مع ما سيترتب عن ذلك من إضرابات وتردي للخدمات الصحية وإضاعة للمجهودات والطاقات. لا شك بان العجز عن حل هذا الإشكال البسيط في بدايته وتطوره إلى أزمة حادة يظهر عدم قدرة فريق التسيير بوزارة الصحة على إدارة وحل أزمة صغيرة فما بالك بأزمات أكثر حدة و خطورة.
تعيينات وزارة الصحة في غير محلها
لم تحدث أزمة مستشفى صفاقس من فراغ. فعلى مدار الصائفة الماضية تقاطرت على المستشفى فرق المراقبة الطبية التي أخضعت العديد من الأعوان والأطباء والإداريين لاستجوابات مطولة ومستمرة. وقد أفضت تلك التحقيقات إلى إعفاء المديرين العامين لمستشفى الحبيب بورقيبة ومستشفى الهادي شاكر وإقالة المدير الجهوي للصحة بصفاقس. وتم على إثر ذلك تعيين الطبيب العسكري على رأس مستشفى الحبيب بورقيبة. ونتج عن هذه الإجراءات موجة استياء عارمة عمت عديد الأوساط الصحية بصفاقس. فلقد اعتبر المسؤولون المقالون بمثابة كبش فداء لوضع متردي يعيشه القطاع منذ سنوات. كما بدا لعديد العاملين بمستشفيات صفاقس انها حملة مركزة على قطاعهم والحال أن العجز المالي والتجاوزات لا تكاد تخلو منها مؤسسات صحية أخرى بل رأوا في ذلك نوعا من الغبن والظلم والحال أن مدينة صفاقس وهذا موثق تتحمل وبامتياز عبء ووزر الخدمات الصحية لولايات الوسط والجنوب قاطبة. هكذا كان التعيين غير المسبوق لطبيب عسكري على رأس مؤسسة صحية جامعية برمزيته المعنوية و السياسية رسالة سلبية لجميع العاملين بالمستشفى متضمنة لمعاني الردع والعقاب لمقاومة ما تعتبره الوزارة تسيبا وإهمالا. ولا شك أن من بين أكثر الغاضبين هم سلك مديري المستشفيات الذين لم يتم فقط إعفاؤهم من مناصبهم بل تم الإستغناء عن سلكهم والإلتجاء إلى سلك من خارج المؤسسة الصحية بما قد يؤدي إلى تهميشهم في المستقبل.
فمنذ ما يقارب 20 سنة و منذ إصلاح أنظمة التسيير الإداري والمالي للمستشفيات على يد المرحوم الدالي الجازي عملت وزارة الصحة على تكوين سلك جديد من المسيرين المختصين في تسيير المستشفيات نظرا لخصوصية وتشعب وتعقيد تسيير المستشفيات. فاعتمدت على التكوين الخصوصي لهذا السلك عبر العمل الميداني والتربصات في الداخل والخارج كما عملت كليات الطب على تطوير كفاءات وماجستير للتسيير الإستشفائي. هكذا أصبح لدى وزارة الصحة مجموعة طيبة من الكفاءات تدرجت في مراحل التسيير من المستشفى المحلي إلى المستشفى الجهوي وصولا إلى كبرى المستشفيات الجامعية. لقد شعر العديد من الإطارات التي ضحت لسنوات طويلة بنوع من الغبن وهي ترى أن الوزارة تلتجئ لسلك من خارج وزارة الصحة مع ما قد يعنيه في المستقبل من تهميش لهم و الإستغناء عنهم والحال أن المسؤول الذي تم تعيينه ليس أفضل منهم.
حوكمة مركزية بيروقراطية و عقيمة
هكذا يبدو قرار التعيين الذي اتخذه وزير الصحة قرارا مسقطا و في غير محله ولا يخضع لقواعد الكفاءة والإستحقاق méritocratie . فمن الضروري ان يخضع تعيين مدير عام لمستشفى جامعي من صنف أ مثل مستشفى الحبب بورقيبة لمقاييس مضبوطة وإلا أصبح التعيين ضربا من العبث. وقد أصبح لوزارة الصحة تقاليد ومقاييس في هذا المجال ولا يعقل أن يمر المسؤول مثلا من مدير مستشفى محلي مباشرة إلى مدير مستشفى جامعي. ويعتبر العديد من إطارات المستشفى أن العقيد الطبيب لا تتوفر فيه تلك المقاييس وأن تكوينه وتجربته هي دون الحد المطلوب لمؤسسة من ذلك الحجم. ولا يشفع لزميلنا الطبيب العسكري شهادته في الطب وبعض الخبرة في التسيير. فمنذ التسعينات وبعد صراع بين الأطباء والإداريين على المسؤولية حسم الأمر في وزارة الصحة وبتوافق جميع الأطراف على أن يتولى الإدارة العامة للمستشفى مدير إداري متكون في التصرف والإدارة وتعاضده في التسيير لجنة طبية يرأسها طبيب يلعب دور المدير الطبي. هكذا اتبعنا في مستشفياتنا نمط التسيير الفرنسي علما انه وفي بلدان اوروبية أخرى تسيير المستشفيات من طرف الأطباء.
من جهة اخرى فإن فالتسيير الرشيد لا يخضع لمقولة «أنا الوزير الذي يقرر والجميع ينفذ» وفرض الحلول بالقوة الإدارية و السياسية. فهذه الطريقة الخشبية بائدة وقد عفا عليها الزمن، فالتسيير الحديث يرتكز على التشاركية وتحميل المسؤولية للهياكل الجهوية والمحلية وهذا ما اتجه إليه دستور الجمهورية الثانية. فالمستشفى الجامعي مثل شارل نيكول أو الحبيب بورقيبة وغيرها ليست ثكنة تسير بالطرق العسكرية بل هي مؤسسات وطنية ضخمة. إذ تشغل مئات الأطباء بما فيهم كبار أساتذة الطب وأصناف عديدة من الأطباء المتربصين. كما تشغل مئات من الممرضين والإطارات أغلبيتم الساحقة من خريجي الجامعات. ويؤمها يوميا مئات المتربصين في الطب والمتربصين في المهن شبه الطبية. فالمستشفى الجامعي هو في نفس الوقت كلية للطب ومدرسة عليا للتكوين الشبه طبي ووحدات ومخابر للبحث العلمي...فمثل هذه المؤسسات لا تسير بفرض سياسة الأمر الواقع وبالعصا الغليظة كما تريد الوزارة وإنما بالحوار والتشاركية. والحال أن المستشفى الجامعي يرتكز على أجهزة تسيير متعددة مثل مجلس الإدارة واللجنة الطبية (والعديد من أعضائهم منتخبون) وعميد كلية الطب وأعضاء المجلس العلمي واللجنة المتناصفة ونقابات الأطباء والأعوان. وقد كان حريا بالوزير بان يفوض الأمر لجميع هذه الهياكل المحلية بدون ضغوطات أو تدخل لتجد الحلول الكفيلة بإخراج المستشفى من دوامة التعنت والتصعيد. ففي فرنسا مثلا تحظى كل جهة بهياكل تسييرها المستقلة في الميدان الصحي و لا تتدخل الوزارة في تلك الشؤون ويقتصر دورها على تحديد السياسات العامة والرقابة والتعديل.
وعوض الغرق في تفاصيل جزئية مثل هذه كان حريا بالوزارة أن تفتح ملف أنظمة التسيير المالية والإدارية للمستشفيات و الحال أنها ترزح تحت عبء سوء التصرف و المديونية والتي لم تشهد تحيينا منذ المرحوم الدالي الجازي. ولكن نلتمس العذرللوزارة..فهي منشغلة بملاحقة النقابيين.
بقلم عبد المجيد المسلمي استاذ محاضر في الطب -
عضو الجبهة الشعبية)