بقدر ما كشف فيروس الكورونا عن حثّ هذا الدّين وترغيبه في الحياة وما يوصل إلى بعثها وضمانها..
بقدر ما كشف عن تصلّب بعض المتدينين وتعنّتهم في استجلاب كلّ صور المشقّة والعسر..
بقدر ما كشف عن فكر هؤلاء المعاندين وسيرهم نحو الموت وأسبابه ..
فالثابت أنّ َ رفع الحَرَج سِمةٌ بارزة في الشريعة الإسلامية؛ حيث استوعبت جميعَ الأحوال والعَوارِض والظروف التي تقتضي وقوع المُسلم في الحَرَج، كالعوارض الزَمانية؛ والمَكانية؛ والعوارض المُرتبطة بالمُكلَّف؛ من المرض والخوف والمشقَّة والخطأ والنسيان. والعوارض الخارجة عن المُكلَّف؛ من التهديد والتخويف، والعوارض النَفْسِية؛ والعوارض العقْلية والذِهْنِية؛ لجهلٍ أو نسيان أو جنون.
والثابت أنّ الشريعة الإسلامية قد اتّسمت بِقُدرتها على الشُّمول والاستيعاب، وكأنّها استقرأت كلَّ الحالات بإحصاءٍ دقيقٍ لا يُخطئُ، ولا يُخِلُّ، وهو دليل عظمتها.
ومن الآيات القرآنية الدالة على رفع الحرج، والتيسير، والتخفيف على المُكلَّفين، قوله تعالى»مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» سورة الحج:78؛ وقوله تعالى»يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ» سورة البقرة:185؛ وقوله تعالى» يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ» سورة النساء: 28، وأجمع العلماء: على أنَّ الحرج مرفوع عن هذه الأمّة، ولم يُعلم في ذلك مُخالِف.
فرغم هذا الوضوح وإزاء كلّ القرارات التي اتّخذتها الدول والمجامع الفقهيّة ودور الإفتاء بسبب انتشار مرض “كورونا الجديد”؛ من غلق المساجد وتعليق صلاة الجمعة والجماعة لجميع الفروض في المساجد، والاكتفاء برفع الأذان؛ وذلك رفعاً للحَرَج عن المُصلِّين، وحِفاظاً على أرواحهم.
لا يزال أصحاب الفكر الضيّق يصرّون على أنّ هذه القرارات تهدف القضاء على الدين وتضمر الدعوات لهجر المساجد وبالتالي محاربة الإسلام والمسلمين ..
وقد عمي بصر هؤلاء فلم يروا أنّ الفيروس لم يتخيّر بين المسلم أو الكافر وبين الأبيض والأسود وبين المسيحي واليهودي والمسلم ..
ولم تأت لهؤلاء الأخبار بأنّ دور العبادة عند البوذيين أو الكنائس أو البيعات قد أغلقت أبوابها ومنع روادها منها وصمتت النواقيس عن الدقّ .
ومنهم من لا يزال يصرّ على أنّ هذا الوباء عذاب ونقمة على الكفّار وحتّى على المسلمين ويخرجونه من دائرة الابتلاء الربّاني غير عالمين بأنّ الحياة حَيَاةُ الْعِلَّةِ وَالِاعْتِلَالِ، قَدَرٌ مَكْتُوبٌ، وَكَأْسٌ مَشْرُوبٌ، وَزَائِرٌ ثَقِيلٌ غَيْرُ مَرْغُوبٍ، فَطَبِيعَةُ الْحَيَاةِ أَنَّ عَيْشَهَا مُنَغَّصٌ بِالْأَسْقَامِ، وَصَفْوَهَا مُكَدَّرٌ بِالْآلَامِ.
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا ** صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ
وَمَنْ يَتَأَمَّلْ حَيَاةَ الْبَشَرِ عَبْرَ حِقَبِ التَّارِيخِ يَرىَ أَنَّ الْأَمْرَاضَ الْعَامَّةَ، وَالْأَوْبِئَةَ الْمُعْدِيَةَ، لَمْ يَخْلُ مِنْهَا عَصْرٌ مِنَ الْعُصُورِ...وفي كلّ عصر أسبابه وتبعاته كما توفّرت أسباب التوقّي..
وقد غاب على هؤلاء قراءة التاريخ وهم يعتقدون أنّ الكورونا لا تصيب المؤمنين المسلمين وتصيب غيرهم .. فلو عدنا لطاعون «عمواس» - 18 هـ/ 693م- وقد كَانَ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ 36 أَلْفَ، مَاتَ مِنْهُمْ 30 أَلْفًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا سِتَّةُ آلَافٍ.
وَفِي هَذَا الطَّاعُونِ فُجِعَ الْمُسْلِمُونَ بِفَقْدِ قَامَاتٍ يَعِزُّ وُجُودُهُمْ، مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ أَثَرٌ وَتَأْثِيرٌ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، لَقَدْ فَتَكَ هَذَا الطَّاعُونُ بِالْقَادَةِ الْعَسْكَرِيِّينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ، وَالزُّهَّادِ الْعَابِدِينَ، وَمِنْ آلِ الْبَيْتِ الْمُقَرَّبِينَ: أَبُو عُبْيَدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ، وَسَادَاتِ الْأُمَّةِ، مَضَوْا إِلَى رَبِّهِمْ، مُتَأَثِّرِينَ بِهَذَا الْوَبَاءِ الْقَتَّالِ.لَقَدْ كَانَتْ بِحَقٍّ فَاجِعَةً هَزَّتْ كِيانَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَأَحْدَثَتْ فِي جَسَدِهَا جُرْحًا غَائِرًا، لَا يَلتَئِمُ مَعَ الْأَيَّامِ.
وغير ذلك من الأحداث التاريخية التي تبيّن خطر الفيروس على الكافر والمسلم على حدّ سواء ..فلسنا كما يتوهّم هؤلاء أنّنا بإيماننا أفضل من هؤلاء في شيء ..فمن توقّى وخاف من الوباء حفظه الله بسعيه ورحمه بتحوّطه ..فكلّنا سواء أمام الإبتلاء..لن يقتل الكافر كفره ولن يحيي المؤمن إيمانه..الكورونا لا تفرّق بين الكفر والإيمان ..
فالبون شاسع بين من يفهم الدين وتعاليمه على أساس اليسر والتخفيف والرغبة في الحياة والمحافظة على النفس البشرية وبين من يضيق فهمه ليضع الدين في زاويّة ضيّقة تخنق معتنقه وتحمله على نعش الموت ..