لقد أثبت «الجملي» أنّه ينظر إلى عالم السياسة باعتباره مجالا ذكوريّا، وحقّا مشروعا للرجال فمن خلاله يمتلكون السلطة، ويدعمون امتيازاتهم ومواقعهم داخل المجتمع. وفق هذا التصوّر كانت معظم نقاشات «الجملي» مع الرجال، وكان الخطاب الذي صاغه للحديث عن تشكيل الحكومة متضمّنا عبارات: «المرشّحين»، «المترشحين للوظائف»، «المواطن»، «التونسي»، «الشغّيل»، «المستثمر»، «الفلاح»، «القادة التونسيين»، السياسيين، «السادة القضاة»، «الشهداء» و«الجرحى» وجدتُ فيهم، ولفتتُ انتباههم، وسيمثلُ كلّ وزير ويقدّم، وزارته... ولئن حاول «الجملي» توشية خطابه ببعض العبارات «التونسيات»، «المواطنة» و«بنات»... فإنّه عجز في النهاية، عن «جندرة» لغته، والتعبير عن رؤية إدماجية تقرّ بأنّ المرأة ليست وافدة على عالم السياسة، وليست متطفّلة على الشأن السياسيّ بل هي حاضرة في كلّ المجال باعتبارها مواطنة كاملة الحقوق وبذلك لم تكن لغة «الجملي» مساعدة على ترسيخ ثقافة المواطنة ومناهضة للتمييز .
وبالرغم من محاولته إرضاء المنتقدين بدعوة بعض الوجوه النسائية، وترشيح بعض الأسماء في حكومته فإنّ إقدام «مرشّح النهضة» على عقد اجتماع بالكفاءات النسائيّة لخّص تلك العقليّة التي تقوم على الفصل بين الجنسين، والتفريق بين الأدوار التي تخصّ كلّ جندر. وقد كانت الصورة التي نقلتها وسائل الإعلام معبّرة بالفعل، عن ذهنيّة إقصائية ترى العلاقات والأدوار والحياة من منظور يلحّ على ترسيخ التراتبيّة ولا يؤمن بالتشاركيّة.
لاشكّ أنّ دراسة خطاب «مرشّح النهضة»، وطريقة تواصله مع النساء مفيدة إذا ما أخضعنا هذا الخطاب للتحليل الجندريّ. ولكن ليس بمقدورنا التوسّع في ذلك فالحيّز المتاح محدود، ومن ثمّة سنكتفي بالإشارة إلى طريقة تفاعل عدد من التونسيين مع «الجملي» وتستوقفنا ردود الفعل التّي ركّزت على حلق الشارب، وهو في صلة متينة بتمثّل السياسيّ في ثقافات متعدّدة ذلك أنّ الشارب يقرن بالسلطة والتسلّط.
ولمّا كانت السخرية وسيلة من وسائل التعبير عن موقف من السياسيين، وممارسة نقدية واكبت المسار الانتقالي فقد وجدنا تعليقات ساخرة من حلق «الجمليّ» الشارب وتغيير مظهره في محاولة منه لإبراز استقلاليته والتماهي مع متطلبات «دولة حداثية». فهذا نزار بهلول يكتب: «يسعى الرجل إلى تلميع صورته، باستثناء تلك الجوارب ذات اللون البني الفاتح، والزي الذي يعود إلى موضة التسعينات وربطة العنق كما أنه لم ينس حلق شاربه». ولا نخال «مرشّح النهضة» جاهلا بـ «أنّ السنة قص الشارب، وأمّا حلقه فمكروه: وهو مذهب المالكية» وأنّ حلقُهُ مِن البدع، وأنّ من الفقهاء من رأى أن يؤدّب من حلّق شاربه... ولا نحسب أنّ «الجملي» غير مدرك للدلالات الرمزيّة المرتبطة بالشارب، والتّي تنمّ عن تمثلات تتصل ببناء الرجولة وبالأخلاق. فالرجل يقسم بشاربه إذا تعهّد القيام بأمر ما، ويهدد بحلقه إذا لم يثق به الآخر أو شكّك بوعوده. وكان الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، قد تعهد بحلق شاربه في حال أخفقت حكومته في الوفاء بالتزامها بتوفير مليون وحدة سكنية للمواطنين بحلول نهاية سنة2015... ومع ذلك أقدم «الجملي» على تغيير هيئته فكان ردّ عدد من الفايسبوكيين على سقوط الحكومة : «حلق شاربه من أجل الكرسي فخسر الاثنين معا». ويعبّر تندّر التونسيين بتقديم «مرشّح النهضة» الشاي للضيوف بدلا عن القهوة (في صلة بالطقوس والرموز...) وبحلق شاربه استعدادا لرئاسة الحكومة، عن تصوّر ذكوريّ للسياسة يرى في هذا المحدّد الجندريّ (على عكس الحجاب)علامة دالة على امتلاك القدرة على تدبير السياسة وتحقيق الزعامة.
أمّا ما يسترعي الانتباه في العلاقات الجندرية داخل مجلس الشعب فيتمثّل في استحضار عبارات ذات صلة بتمثلّ السلطة/الرجولة. فكم من نائب أشاد بمواقفه الرجولية وكم من منتقد اتّهم خصمه بأنّ ما فعله لا يمتّ بصلة «للرجولي»... وكم من نائب لجأ إلى العنف الماديّ تعبيرا عن موقفه، وكم من عضوة استأسدت في تجريح زملائها مدخلنة بذلك طريقة ذكوريّة في الفعل السياسيّ وصياغة الخطاب والتفاعل مع الخصوم (عبير موسي/سامية عبوّ) وكم من معلّق رأى فيهما «امرأة بألف رجل».
تستأنس دراسات العلوم السياسية بالتحليل الجندري لتثبت التحيّز الذكوري والهيمنة الذكورية وتكشف عن طرق بناء السلطة وأشكال التمييز والعنف والتمثلات الاجتماعية والمتخيل السياسي وتدمج دراسات الإعلام التحليل الجندري لتحليل الخطاب السياسيّ... وفي المقابل نشنّ حملات على الجندر ونشوّه سمعة الدارسات المشتغلات بالتحليل الجندري لأنّهنّ يفضحنّ البنى الذهنيّة والتواطؤ الذكوريّ ولعبة الذكورة/الأنوثة في السياسة ويشرن إلى نظام التمثلات .فالهزيمة مؤنثة والنصر مذكّر وإذا ما وفّق الرئيس في «تنصيب» الحكومة فهو رجل وإذا ما «سقطت حكومته» تأنّث...