حديث الفرد: دين الجهلة بؤس وظلمة

نحن في شهر الصيام. في شهر الصيام، يتغيّر عيش الناس. كلامهم، سيرهم، قعودهم، قيامهم. في الشهر، تنقلب الأيّام. يصبح الليل نهارا والنهار ظلاما.

تسكن الحركة في النهار وينشط في الليل العباد. يصبح الكلّ، نساء ورجالا، خفافيش تجري بين الشوارع والمقاهي والمغازات. في النهار، ترى الناس موتى وقد شدّهم جوع وعطش وإرهاق. هم أشباح تسري. يسكنهم سكون ونعاس. في أرض المسلمين، خلال شهر الصيام، تتوقف الحياة. لا شغل ولا تعلّم ولا نظر ولا شأن للناس. الكلّ في غيب، في ضياع، في سبات... هذا رأيي ورأيي لا يشاطره إلا قلّة من الناس. يقول الأيمّة والكثير من العباد، العقلاء منهم والسفهاء، إنّ شهر الصيام هو رحمة للناس وهو صبر وكدّ وجهاد. إلى غير ذلك من الكلام.

تعودت والناس من حولي في الشهر، منذ سنين، منذ عقود، منذ أوّل الزمن، على ما يجري من عادات سيّئات. تعوّدت على ما يجري في أرض الإسلام من عبث، من قتل للحياة، من انفلات. تعوّدت على ما يقوله رجال الدين والناس من كذب وزور ونفاق. في رمضان، كلّ عام، نفس الكلام، نفس الهراء، نفس العبث، يعاد...

قتل التعوّد الناس. مع التعوّد، يجمد الفكر. يتسطّح الحسّ. ينتهي السؤال. تصبح العادات طبعا من الطباع، سنّة من السنن، سلوكا قائما، متداولا بين الناس. لمّا ينتصر التقليد وتغدو العادات سمة الحياة، لا مكان للسؤال، لإعادة النظر، لمراجعة الذات. كذلك، عاش الناس حولي منذ عقود، منذ زمان وزمان. كذلك، جبلت الأنفس وتكلّست الأرواح. فلم النظر ولم السؤال وتلك هي عندنا الحياة تجري كعادتها وتلك هي الطباع استقرّت في رؤوس الناس؟ مع التعوّد تتكلّس الطباع والسلوكيّات. يرتخي العقل. ينتهي السؤال. يستساغ كلّ زيغ. تستقيم الخروقات. نقبل بكلّ اعوجاج وانحراف. نرضى بما أقرّته العادات. ولنا في العادات حياة. يومها، يصبح الإنسان حيوانا. يمشي على أربع...

الكل تراه يرى، على بيّنة بما في شهر الصيام من خور وانخرام، لكن، لا أحد يصدّ. لا أحد يعارض ما شاع وكان. الكلّ مطمئنّ، راض. يبرّر الخروق والانحرافات. يشرح الزيغ بالحجّة وبالفرقان. يؤكّد أنّ شيئا لم يتغيّر في شهر الصيام وأنّ الصيام صبر وجهاد وصحّة للأجسام. ثمّ يأتونك بالأحاديث وبالآيات وبما أتاه الرسول الأعظم ومن سبقه من الأنبياء. كلّ يغرّد كما شاء. يتفنّن في الزور والنفاق. يمشي به الجهل والخيال في كلّ باب وهو مدرك خور ما يفعله والناس في شهر الصيام. يقول الأيمّة إنّ الصيام ركن من أركان الإسلام. أتاه آباؤنا والأجداد. هو سنّة. هو عادة. هو الأصل وهو الذات... هل ينقلب الإنسان العاقل على أصله، على ذاته، على ما ترك السلف «الصالح» من عادات؟ هل في الأرض عاقل يخالف ما أتاه أجدادنا وما كتبته السماء...؟

كفاك حديثا عن الدين وعن رمضان فأنت يا رجل في جهل، في ظلام. لا تدرك ما كان في الإسلام من نبل مقاصد ومن فضل غايات. لا تصم الشهر إن شئت ودعك من هذه الشؤون وكفاك ثرثرة وتطاولا على الديانات. شهر الصيام شهر مبارك. جاء نعمة للعالمين ونقمة للجاحدين، الكافرين. فهل أنت واحد من الجاحدين، من الكفّار؟

أعمت بصائرنا العادات. لا أحد يرى كيف تمكّن منّا السوء وكيف ضرب السوس اللحم وأكل العظام. لا أحد يتبيّن، يبيّن، ينبّه المسلمين إلى ما نحن فيه من خسران، من ضلال... من حولي، الكلّ يحمد الله على ما نحن فيه من نعمة. يشكر السماء وكلّه رضى واطمئنان. ماسك، متمسّك بما كان لنا من ظلام ومن عادات. الكلّ يقول: كذلك، شاءت السماء. ذاك قدرنا مع الزمان. فانتبه وتضرّع وارفع يديك إلى السماء علّ السماء تغفر لك ما أتيت وما تقول من جنحة، من آثام...

نبّه الكثير، من قبلي، إلى ما نحن فيه من خور، من سوء عادات. قال الكثير من قبلي ما أقوله اليوم من كلام. لكن، لا شيء تغيّر بل تعمّقت عندنا العادات. لا ينفع مع المسلمين كلام. لن يتغيّر لهم حال. هم صخر قطعت من حجارة صمّاء. كلّ شيء هنا يجري كالمعتاد. كلّ شيء هنا يعاد. لا شيء تبدّل منذ أوّل الزمان. نحن حجر هذا الزمان. نحن جبال شمّاء. لا يهزّنا ريح ولا تغيّرنا أيّام. أوفياء. دوما في نفس السبيل. مخلصون إلى الأجداد إلى يوم يرفع الله الأرض والسماء... لن ينفع ما أقول من كلام. لن ينفع الكلام مع أنفس أفرغها الزمان...

يقول الكثيرون إن الدين والعادات محفوظة في السماء. لن يقدر على مسّها أحد. يقول الكثيرون إنّما العادات هي المؤسّسة للذات. انّما بالعبادات يعود للمسلمين عزّهم وترفع لهم الأوتاد. هل بالصيام سوف ينهض المسلمون ويعود للإسلام ضياء؟ هل بالسجود وبالقيام سوف يعلو نجم المسلمين ويكون لهم عزّة وأوتاد؟ لا أعتقد. كلّ هذا لن يصلح للمسلمين حالا. صام المسلمون الشهر وأكثر وصلوا الخمس وأكثر وسجدوا وكبّروا وحجّوا وتهجّدوا واعتكفوا وتضرّعوا السنين والقرون... ولم يتمكّنوا. المسلمون اليوم، شرقا وغربا، كما نرى، هم في الدرك الأسفل. هم في جهل، في بؤس، في خسران... هذا يعلمه الناس جميعا والناس جميعا يواصلون السير في نفس المنهج وفي ذاك الصراط. في غيب. قاعدون. بين صوم وصلاة، ينتظرون رحمة تأتي من السماء ويد السماء مغلولة منذ أوّل الإنسان.
° ° °
لا أرى ضررا في الصوم، في الصلاة، في العبادات. في ما أرى، لم ينفع المسلمين تديّنهم ولم يصلح حالهم بتقواهم. في ما أرى، أضرّت بالعباد هذه العبادات. في أرض الإسلام، بما نحمل من خرافة، من سوء فهم، قتلنا الفكر والحياة. حصل في الناس توكّل وتكاسل. حصل تطرّف ومغالاة. أدمن المسلمون على الدين. أنهكوا فيه العزم وأضاعوا فيه الأعمار. كلّ إدمان هو مضرّ وفيه بلوى وخسران. في الإدمان فسخ للإرادة وقتل للطاقات. في الإدمان، حسر للنظر وحصر للإمكانات. أقعد المسلمين التديّن. أضاع المسلمون العمر بين سجود وصيام. لا حياة لمن ولّى وجهه كلّه إلى السماء. لا حياة في الأرض لمن تعلّق فؤاده كلّه بما وراء السماء. عند المسلمين، الآخرة هي الحياة. أمّا الدنيا فهي دنيئة، هي سراب. هي دار ابتلاء واختبار... إلى غير ذلك من الكلام.

وراء الإدمان الديني هذا هناك جهل ضارب. يجهل المسلمون مقاصد السماء. لم يتبيّنوا ضرورات الحياة. ما خلق الإنسان للصوم، للصلاة. ما الحياة اعتكاف وزهد وعبادات. بعث الإنسان ليحيا، ليتدبّر، ليكدح، لينعم بالحياة. خلق الله الأرض والسماء تكريما للإنسان. حتّى يحرثها ، طولا وعرضا،الإنسان..
المسلمون اليوم في الدرك الأسفل من الفقر والجهل والشقاء. يحسب المسلمون أن بالعبادات سوف تتحقّق لهم الغايات. غدا الدين عند المسلمين ملجأ إليه يلوذون خوفا من مواجهة الحياة. يسخّرون الدين خوفا من الدنيا. يرجون الآخرة وهي خير وأبقى وفيها حور وغلمان. في كلّ أمر، تجاه كلّ عسر، قبالة كلّ محنة، ترى المسلمين يدعون السماء، يتمتمون، يقولون تعاويذ، يتوسّلون رحمة وعونا من صاحب السماء. يعتقد المسلمون أن بالصوم وبالصلاة وبالدعوات يكون الفوز وتتحقّق المقاصد والغايات...

الجهل مصيبة. الجهل بلاء. لا صلاح لمن عشّشت في رأسه جهالة. لا دين ولا إيمان لمن غلّقت فؤاده الظلمات. تديّن الجهلة مفسد للدين ومخرّب للحياة. جهلة الدين عمي، صمّ، لا يتبيّنون. هم أدوات. هم همّج ومعاول خراب. هم عراقيل وعقبات. هم عنف وإرهاب. هم قنابل موقوتة. ألغام مبثوثة في البلاد... يعتقد الكثير من المؤمنين في هذه الربوع أنّهم الحقّ وكلّ الناس غيرهم في ضلالة. لا مكان عندهم للمراجعة، للنقد، لإعادة البصر في ما كان. هم لا ينظرون ولا يتدبّرون الحياة. الحياة من فعل ربّي وهو وحده المقرّر والمحدّد لسيرورة الحياة. هو الموزّع للحظوظ وللأرزاق. في بلاد المسلمين، كلّ شيء بقضاء ولا مردّ لقضاء السماء.
° ° °
الجهل لا يعني الجهل بالكتابة وبالقراءة. العديد من حامليّ الشهادات العليا هم أحيانا جهلة، لا يفقهون. العديد من المدرّسين هم أحيانا جهلة. في المدارس هم يعلّمون الجهل. هذا طبيب مختصّ، هذا مهندس خبير، هذا قاض ذاع صيته، هذا رجل أعمال له باع وذراع... تنظر في ما يقوله هذا والآخر من نظر وما يأتيه هذا والآخر من فعل، تحكّ بإصبعك ما يحمل في رأسه من مخزون ومن معرفة، فلا ترى غير جعجعة ولا تسمع غير صفير رياح محرقة... الجاهل ليس الجاهل بالكتابة والقراءة بل هو ذاك الذي تحجّر فكره وانغلق فؤاده وانسدّت أفقه. هو من آمن أن له ثوابت لا تتغيّر وله قناعات منتهيّة لا يمسّها مكان ولا زمن. من اعتقد أنّه يملك الحقّ. دينه يقين، حنيف وغير دينه زور وبهتان. قيمه هي الأرقى والأفضل وغير قيمه هي سوقيّة، لا تصلح. الجاهل هو ذاك الذي لا يمسّه شكّ ولا يسكنه سؤال. يؤمن أنّ الحقّ بيّن والباطل بيّن. فكره مكتمل وتراه في غنى عن كلّ إنسان، عن كلّ نصح...

المسلمون في الأرض هم اليوم في جهل بليغ. في ربوعهم، انتشر الفقر وعمّ الصخب وفي كلّ يوم، هناك حروب وانشقاقات وفتن. في العالم، العرب هم في أسفل السافلين. ذاك حال المسلمين اليوم ومنذ أوّل الإسلام. هذا يعلمه الناس جميعا والأيمّة ونحياه كلّ ساعة ويوم، منذ أوّل الزمن... لماذا نحن في الدرك الأسفل من السوء والبؤس؟ كيف الخروج من البلاء الذي نحيا؟ لا أدري كيف معالجة ما نحمل من بلاء، من تخلّف. لا أدري متى ينتفض المسلمون حتّى يجدّدوا الفكر وينزعوا ما سكنهم من تعاسة، من خراب...

ما من شكّ، في المجتمع المظلم هذا الذي فيه نحيا، هناك اليوم منتفعون من هذه الظلمات، من هذا الجهل. ليس الناس كلّهم في نفس الوضع. حفاظا على مصالحهم، ترى المنتفعين في دفاع مستميت لإبقاء الحال على حاله. يصدّون كلّ تغيير ممكن. يرفضون كلّ سؤال ونظر. يقف المنتفعون في وجه المسلمين صفّا منيعا حتّى لا يتغيّر للمسلمين أمر. حتّى يظلّ الفكر الدائر والسلوك العامّ قائما أبد الدهر. حتّى تبقى الحياة على شاكلتها، كما أسّسها السلف في غابر الزمن، كما يراها الأيمّة اليوم...

يتشبّث الأيمّة والشيوخ وأهل القرار بما نحمل من سنن ومن معتقدات. لا أحد من أولي الأمر يحبّ تغيير الحال. لا يرى أهل القرار في الدين وفي الدنيا نفعا في تجديد النظر وتغيير ما نحمل من جمود، من عماء، من جهالة. في تجديد النظر تجديد للموازين وتعديل لما كان من مصالح بين الناس وحكم. في الإبقاء على السنن والعادات، في المحافظة على ما راج من معتقدات إبقاء ليد أوليّ الأمر وحفاظ لما لهم من سلطان وكسب. لا يحبّ الأيمّة والشيوخ وغيرهم من المنتفعين تغيير الحال ورفع الجهل عن أعين الأتباع. لن يرضوا أبدا بفسخ الظلمات... هم اليوم، يرتزقون، يكسبون، يغنمون من تلك الظلمات.

ما لقلمي يحشرني في مضامين خطرة، محرّمة؟ ما لي أدقّ على أبواب مغلّقة؟ لا ينفع مع الجهلة الكلام. كلامك مع الجهلة نفخ في الرمل. هو مضيعة للعمر. في ماذا تكتب يا شيحة؟ ما لك تحشر نفسك في سبل مسدودة، كلّها نار وألغام مدسوسة؟ كم من واحد من قبلك أهلكه العقل فحشر نفسه في المحرّمات فأحرقه الشيطان حرقا؟ الإسلام عقيدة وعادات. هو معتقدات محفوظة، ثابتة، ثبوت الزمان. هو عادات ولن يقدر أحد على مسّ العقيدة ولا العادات. بما أنت تقول، تلقي بنفسك في الجحيم، في التهلكة. أنت تلعب بالنار. سوف ترى السبّ واللعنة. سوف يلعنك القرّاء وأباك وأمّك وما كان لك من حيّ وميّت. هناك خطر في ما كتبت. راجع يا شيحة ما كتبت...

صحيح، ما كتبت فيه خروج عن الناس، فيه أخطار. هل أحذف ما كتبت وأجنّب نفسي اللعنة وسوء المصير؟ هل أعود للنصّ وأراجع ما حمّلته من فكر؟ يجب أن أفعل. في ما قلت هناك خطر محدّق. ربّ حذر نافع خير من ألف كتاب... ماذا أفعل؟ لا أدري. سوف أرى. سوف أقرّر. لن أغيّر حرفا...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115