أنا المكلّف بشراء الخبز. هي مهمّة يسيرة. لا شقاء فيها ولا إنفاق. الخبز في تونس له أبخس ثمن. يكاد يباع مجّانا للناس أجمعين... في الحيّ، لنا عطّار صغير يبيع مواد غذائية مختلفة وخبزا رخيصا. من ذاك العطّار، أنا والكثير مثلي نشتري خبزا. في ذاك العطّار، أحيانا، ألتقي بجارتي وأفرح.
في يوم مضى، في ظهيرة محرقة، ذهبت أشتري خبزا. في عائلتي، لا أحد غيري يمشي إلى العطّار يشتري خبزا. لا أحد غيري يفعل. أحيانا، آتي متأخّرا فلا أحد يشتري خبزا. أحيانا، أتغيّب. يومها، يحصل في البيت اضطراب. يبقى الكلّ في حيرة. يسأل عنّي ومتى أعود ومتى آتي ومعي خبزا...
في ذاك اليوم، في الظهيرة، كالعادة، ذهبت إلى العطّار أشتري خبزا. من حسن الحظّ، حانوت العطّار قريب من بيتي. ها هو يوسف كعادته واقفا يلبّي. ها هو كعادته يستمع إلى آيات بيّنات من الذكر يرتّلها في التلفاز مرتّل شيخ. ازدهرت صناعة الترتيل في هذا الزمن. كثرت قنواتها المختصّة. أصبح الترتيل وظيفة مربحة. ترتيل القرآن في المحلاتّ جالب للخير وللبركة. في تونس، في الصباح، وفي العشيّة أحيانا، تسمع في الدكاكين وفي المقاهي آيات من الذكر. لا أحد تراه خاشعا لما جاء من آيات من الذكر. لا أحد يتبيّن ما يقوله المرتّل من آيات وسور. لا أحد يسمع. الكلّ في شأنه يسعى. القرآن في الحوانيت فقط لجلب البركة...
في ذاك اليوم، في حانوت يوسف، لم أسمع ترتيلا ولا ذكرا. على غير العادة، لقيت عياطا وصخبا. هناك جدال وصراخ وضوضاء. في بهو الحانوت، تجمّع خلق كثير. خمسة أفراد أو أكثر...
° ° °
من عادتي حبّ الاطّلاع. دوما، أريد أن أعرف ما يجري بين الناس من جدل وما يحصل هنا وهناك من عراك وصخب. بسماع الناس لما يقولون، أعرف ما يحملونه من رأي وما يخفونه من نظر. عند كلّ حلقة صخب، تراني أقترب. أنظر في المجتمعين وأسمع ما هم فيه من هرج. أصغي إلى ما كان من قول ومن ردّ. في الهرج أحيانا تعلّم ومعرفة. مع الهرج، ترى وجه الخلق دون قناع وتعلم ما يخفيه الخلق من بغضاء وجهل.
في الحقيقة، عندي عادات كثيرة. منها السيئة ومنها الحسنة وما يؤسفني هو أنّني، مع السنين، أصبحت للعادات عبدا. أنا اليوم عادات تعاد وسلوك يتكرّر. في كلّ مرّة ألقى جماعة تتصايح في أمر إلا واقتربت لأرى، لأتبيّن ما جاء من حجة وما طلع من رأي. أنا اليوم متقاعد. لا عمل لي ولا شغل. من شدّة الضجر، تراني أمشي في الأرض، هنا وهناك، دون غاية أو قصد. أتجوّل في الشوارع. أنظر في الذكر والأنثى. أتابع البشر. أجلس الساعات في مقهى. أبحث كيف أقضي اليوم وكيف أقتل الوقت...
هذه المرّة، أنا مضطر إلى سماع الجدل القائم، إلى معرفة فحوى المعركة. كنت في الحانوت لأشتري خبزا. كان الكلام عاليّا بفرنسيّة مكسّرة، مرّة، وبدارجة معطّبة، مرّات أخرى. هل هناك سائح غريب أكلته الدهماء فضاق ذرعا؟ اقتربت لأرى الحلقة. في سمعيّ بعض ثقل. يجب أن أقترب أكثر. كان الشجار بين العطّار يوسف وشابّ عتيّ، أسود. كان يوسف يقول وكلّه فخر وفي وجهه ازدراء وحمرة: «أنا أبيض. أنا أبيض... أمّا أنت فأنت «كحلوش»، لونك أسود. لونك فحم». كان يوسف في غيظ وجاء كلامه خليطا بين فرنسيّة مكسّرة ودارجة مبهمة وإشارات مضطربة. لا يحسن يوسف الكلام بالفرنسيّة. لا أظنّه يفهم لغة خصمه الأسود. كان الشاب الأسود هو الآخر في حنق. يصرخ وفي صوته توتّر. يقول في فرنسيّة مهذّبة: «كلّنا أفارقة ولا فرق بين الأبيض والأسود. أنت أبيض ولكنّك لا تتبيّن ولا تفهم شيئا. أظنّك لم تدخل إلى المدرسة... في بلادي الكوت دي فوار، عديد التونسيين يعملون ولا أحد يمنعهم ولا أحد يقول شيئا... أنت لا تعرف الدنيا ولا العولمة. أنت لم تدخل قطّ مدرسة». ثمّ، يعود يوسف ليؤكّد من جديد للشاب ولمن أراد سماعه أنّه أبيض، أنّه الأفضل. في غيض، يشدّ يوسف جلد ذراعه بأصابعه، مبيّنا لخصمه الأسود أنّه أبيض البشرة...
في عديد المرّات، في سوق أريانة وفي أماكن أخرى، شاهدت بعينيّ كيف يسخر التونسيون من الأفارقة السود. بسبب وبغير سبب، تراهم يتضاحكون، يسبّون، يقولون قولا بذيئا. تلقى النساء السود، في تونس، معاملة سيّئة. هنّ دوما محلّ استهزاء وسقط فذلكة. طلبتي في الجامعة الحرّة كلّهم سود. كلّهم يشتكون المرّ ممّا يلقونه في تونس من بغضاء ومنكر... مرّة، في محطّة الوقود، رفض العون المكلّف صبّ الوقود لصاحب سيّارة فخمة. فقط، لأنّه أسود البشرة. أحيانا، في الأحياء الشعبيّة، يشدّ القلق بعضا من الشباب فتراهم يسّبون السود بلا سبب ويرمونهم بصاقا وقولا فسقا...
° ° °
في حانوت يوسف العطّار، شدّتني حميّة وانطلقت في فرنسيّة بهيّة أساند الشابّ الأسود. ألعن العنصريين والمتخلّفين وكل من في قلبه غيض وظلمة. أبيّن ليوسف وللناس الحاضرين، ولا أظنّهم أدركوا ما قلت، أنّنا جميعا بشر. أنّنا كلّنا أفارقة وأنّ الألوان لا تعني شيئا ولا فرق بين أسود وأبيض إلا بالعمل، إلا بما كان من تربيّة وحسن أخلاق إلى غير ذلك من الكلام العامّ. ذاك الذي تلقاه في الخطب الرسميّة وفوق المنابر، في خطب الجمعة. كلام متداول. يقال قوالب في المناسبات ولا ترى له في الوجود أثرا...
لم يفهم يوسف العطّار ما قلت. لم يتبيّن إن كنت له مناصرا أو كنت له خصما. أظنّه أعجب بما قلت من كلام. في عينيّ يوسف، رأيت إكبارا لما أتيت من خطاب بالفرنسيّة. أظنّه اقتنع أنّي أستاذ كبير، لي علم ومعرفة... منذ تلك الحادثة، أصبحت عند يوسف مبجّلا، موقّرا. أصبح يوسف يحيّيني في الصباح وفي العشيّة. يلاطفني. يقول قولا جميلا وفي وجهه ابتسامة بريئة...
هذا التبجيل المفاجئ رأيته في مناسبات أخرى. أحيانا، ألقاني أخاطب الناس بالفرنسيّة. أحبّ التكلّم بالفرنسيّة والفرنسيّة، عندي، لغة وطنيّة. أحيانا وحتّى أفحم الحاضرين، إذا كان الحاضرون من كبار القوم، ألجأ إلى اللغة الفرنسيّة. يومها، أنتقي كلماتي وأقحم عنوة من المفردات ما كان عصيبا. أقول ما شئت من القول. أهزّ وأنفض وأعلم أن القوم، جلّهم، لم يفهم لي قولا. رغم ما أتيت من لغط، أرى في أعين المتلقّين شغفا وإعجابا. يحبّ الناس اللغات الأجنبيّة وما ثقل من الكلام وتعقّد. كل قول عسير الفهم، فيه غموض وإشكال، هو، عند العامّة، بليغ وفيه عمق وإعجاز. يهاب الناس القول المعقّد. يلقون فيه ظاهرا وباطنا وعبرا وحكمة. ترى الناس حوله كالذباب. كلّ يسعى. يذهب في شرحه مذاهب شتّى... كذلك، كتب محمود المسعدي سدّه. جاء السدّ كلّه غموضا وإبهاما. لا أحد يفهم ما جاء في الكتاب. سحر كتاب السدّ في ما ضمّه من كلام ظلام.