كلّ العرب هم اليوم في ضياع، في الظلمات... لا شأن لي بالعرب وما هم فيه من بؤس ومن تخلّف. المهمّ عندي هي تونس. حيرتي وسؤالي هي كيف إخراج بلدي ممّا هو فيه من بؤس وفقر؟ ما السبيل حتّى أخرج نفسي من ورطة دامت واستقرّت؟ يجب أن أنسى العرب. جميع العرب. لكلّ بلد خصائصه. فلينهض كلّ بلد بشأنه. لا فائدة ترجى من التوحّد مع العرب. في جمع المتخلّفين تعميق للتخلّف. يجب أن ينظر كلّ في أمره. أن يمشي كلّ في سبيله جاهدا، مجتهدا، علّه يلقى، علّه ينجو...
كلّ فرد عليه أن يكدّ ويجتهد حتى ينقذ نفسه. ليس من الضرورة أن يحيا العبد في وطنه. انتهى زمن الأوطان والأديان. العالم اليوم قرية وحيث تلقى حرّيّة ونعمة، عش ولا تنظر إلى الخلف. أنا أتفهّم ما يأتيه الشباب الفارّ من البلد، الغارق في البحر. أنا أتفهّم من هجّ من البلاد وغيّر الأفق والدين والوطن. لا لوم على الأطبّاء والأساتذة وغيرهم من الكفاءات الأخرى الذين هجّوا من البلد وآثروا العيش في غير البلد. لولا العمر، لهاجرت أنا أيضا. لذهبت إلى الشمال، إلى أرض الأمم المتقدّمة. العيش في البلاد المتخلّفة عذاب أزرق. العيش مع المتخلّفين سواد وكدر.
° ° °
ما معنى التخلّف؟ التخلّف هو عندما يكون الفرد أو الجماعة في الخلف. غير مواكبين لما يجري في العصر من حدث ونحو. المتخلّف هو الذي أعرض عن العصر وسار فكره في ما فات من الزمن. ذاك الذي ظلّ عقله حبيسا في ما انقضى وانتهى أمره. عيناه مشدودتان إلى الخلف، يحيا خارج الزمن، خارج الظرف. المتخلّف هو عبد جاهل بالدائر في الدنيا وبما فيها من جديد، من حركة. سمة المتخلّف انغلاق وتحجّر. عيشه انكماش وغيب. فكر المتخلّفين ماضويّ. يسبح في غابر الزمن. غالبا ما يعتقد المتخلّف أنّ الدنيا تسير بأمر من السماء العليا وأنّ الحياة قضاء وقدر. لا يؤمن المتخلّف بالعقل. عقله موصد. قناعاته منتهيّة...
لا يعلم المتخلّفون ما يجري في العصر من حركة، من تطوّر. هم يرفضون العصر وما فيه من تجديد، من حركيّة، من تنوّع. الكثير من شعبنا يحيا خارج العصر. مغمض العينين. يرى كما يرى السلف ويحيا على صراط الأوّلين. مازال الكثير من التونسيّين يعيشون مع الرسول والصحابة. نحن اليوم في الجاهليّة وهذه المعلّقات وهذا عنترة...
على عكس التخلّف، كان التقدّم. التقدّم هو ذاك الفكر المتقدّم، المتّقد، الناظر إلى الأمام لاستجلاء الغد، لإدراكه وكسبه. لا شأن للتقدّميين بما كان مضى وبما حصل في أوّل الزمن. الفكر التقدّميّ هو فكر ضارب في العصر، منه يستلهم أدواته ومنه يؤسّس فكره. هو بحث وسعي لتجديد ما كان دائرا من معتقد ومن قيم. تؤمن التقدّميّة بقدرات الفرد والمجتمع في بناء نظم عيش أخرى، أرقى. فيها حرّيّة ومساواة وعدل. يسعى التقدّميّون إلى اعتماد العقل في كلّ أمر. لا مكان للتقليد وللغيب. الإنسان الفرد هو سيّد نفسه وله الحرّيّة في تأسيس الفعل وفي اختيار الفعل والفهم. ينشأ التقدّمي من صلب العصر. هو عصريّ، حداثيّ، أصلا وفصلا. الحداثة هي أن تنتهي من الغيب وما كان للسماء من أثر وتعمل العقل في كلّ إشكال ومسألة. العقل عند التقدّميين، هو المركز وهو المرجع...
في تونس، مازال التخلّف قابعا، ضاربا. تراه كلّ يوم، في كلّ طريق، في كلّ بقعة. تراه عند الدهماء خاصّة وعند المثقّفين وجلّ الخلق. العادات والتقاليد لدى التونسيين هي أركان ثابتة، لا تتزحزح. السلف عندنا هو مصدر الإلهام والفعل. مازال الغيب، عند التونسيين، هو المسيطر وهذا الدين ماسك برقاب الناس كلّهم. مازال القضاء والقدر سمة الحياة الدنيا وترى الناس إلى السماء تشتكي، تتضرّع. لم تحصل في تونس حداثة. لم ينشأ عندنا بعد هذا العقل الناهض، السائل. يعيش التونسيّون كما عاش أجدادهم. يحملون أسفارهم، دون إدراك بما فيها من حقّ ومن ضلالة. توقّف منذ أوّل الزمن عندنا الزمن.
° ° °
كيف السبيل إلى الخروج من التخلّف؟ ما العمل للنهوض بهذه الأمّة؟ كتب الكثير من قبل حول هذه السبل. قيل الكثير حول ما يلزم من فعل ومن فكر للدخول في العصر، لتحرير الفرد من غيّه وغيبه، للعود إلى العقل. لم يفلح المصلحون في إصلاح الحال. فشلنا. ضاع الكلام. عاودنا التخلّف. ها نحن نعود إلى الظلمة... أنا اليوم أعيد ما قيل وما كتب، منذ عقود، مرّات عدّة. ما سوف أكتبه هو رجع صدى لما قاله الكثير من الناس، قبلي. أعلم أنّي أصرخ في الفيافي. أعلم أنّي وحدي. أنا محبط. ما أكتبه الآن هو ثرثرة ولا أمل لي في أن يتغيّر شيء. أنا أحمل يأسا ورغم يأسي سأبدي رأيي وأقول كيف الخروج ممّا نحن فيه من بلاء وبؤس...
في ما أرى، هناك ثلاثة أطراف هامّة لها الأثر البليغ في تشكيل فكر الفرد التونسيّ، في تحديد سلوكه. هذه الأطراف هي التي تؤسّس لنظر العباد وترسم ما يحملون من فهم ومن فعل. في ما أعتقد، لو أهّلت هذه الأطراف وأدركت وارتضت الحداثة وأعادت للعقل مركزه، سوف يتغيّر في الناس النظر وسوف يدخل التونسيون العصر وينتهون ممّا هم فيه من وحل. هذه الأطراف الثلاثة هي: التعليم والدين والإتّصال...
° ° °
1 ) في ضرورة إصلاح التعليم :
أمّا التعليم بمراحله فقد بان فشله منذ سنين في تكوين نشء حامل لنفسه، واع بالعصر، قادر على المسك بالزمن، فاعل. خريجو المعاهد والجامعات التونسيّة هم اليوم، غالبا، ناقصو عقل ونضج. هم صبية قاصرون، يعيدون ما حفظوا حفظا دون فهم أو بيان. في النشء اليوم وهن بليغ وهشاشة كبرى. يسكنهم إحباط وتأكلهم ظلمات. يعتقد الكثير منهم أنّ الحياة جميعا قضاء محتّم. كلّ شيء يجري بمشيئة الله وحده ولا دخل للبشر في ما تحمله الأيّام من أحداث. تكوين النشء ضعيف، هشّ. هو ريح تجري. تتكلّم مع الكثير من خرّيجيّ الجامعات فتلقاهم في فراغ. هم صلف وخواء...
المدرّسون هم السبب في ما نرى لدى الشباب والصبية من فراغ وعجز. بعد أن أهملوا وظلّوا لعقود بلا تكوين وبلا متابعة، أصبح المعلّمون والأساتذة، الكثير منهم، أشباه أمّيين. يجترّون، دون علم، ما حفظوا من نظريّات وكلام. معارفهم قديمة تجاوزها الزمان. رؤوسهم خاويّة. دروسهم رداءة. اليوم، لا يعلّم المدرّسون النشء. لا ينيرون لهم سبيلا. أحيانا كثيرة، غدا الأساتذة والمعلّمون معاول إفساد وهدم. في تونس، لا ينشر التعليم فكرا نيّرا وقدرات للفعل وللتدبّر. غدا التعليم عندنا أداة لنشر الجهل، لإفساد الطبع والنظر... فشلت المعاهد والمدارس والجامعات في الرفع من مستوى الفرد والدفع به إلى التقدّم، الى الحداثة. هي نجحت في تعميق الجهل وعقلنة ما كان في الدهماء من عبثيّة وغيبيّة وخرافة...
أفسد المعلّمون والأساتذة التعليم. بما يحملون من جهل وبؤس، أصبحوا معاول هدم. أغرقوا التعليم العموميّ في السوء، في الرداءة، في ما هو مضرّ بالنشء. في ما أعتقد، يجب طرد الكثير من المدرّسين وقد أصبحوا بلا نفع بل في ما يأتون هناك ضرر وبأس. يجب رسكلة ما تبقّى منهم وتكوينهم تكوينا صحيحا. يجب تمكينهم من قدرات العصر ومناهجه وأدواته. يجب أن يحفظوا اللغات الأجنبيّة ويتعلّموا الفلسفة والعلوم الإنسانية وتقنيّات الإعلامية والبيداغوجيّا وغيرها من المعارف المعتمدة في الشرق والغرب المتحضّر. يجب توطيد العلاقة مع الغرب وغيره من البلدان المتقدّمة وقطع الصلات مع من كان مثلنا في بؤس، في تخلّف، في جهالة. لا فائدة ترجى من لقاء المتخلّفين والفقراء، بعضهم بعضا...
من تمكّن من المدرّسين من أدوات العصر وانفتح فؤاده وسكنته حيرة، لهؤلاء تفتح الأقسام حتّى ينفخوا النور في أنفس النشء. أمّا من غلّقت قلوبهم ومسكهم حنين إلى ماض انتهى وولّى، وانبرت ألسنتهم على «علوم» تجاوزها الزمان وعلى لغة ميّتة، باليّة... فلا مكان لهؤلاء في المدارس ولا حقّ لهم في تعليم الأجيال... مع تكوين الأساتذة تكوينا صحيحا والإبقاء فقط على من كان فيه تطلّع وتحفّز وتمكّن، يجب إعادة النظر في البرامج والمناهج والأخذ بكلّ نفس عصريّ. أمّا أدب الجاهليّة والفتوحات وكلّ كلام ثرثرة وهراء، لا جمال فيه ولا خيال فهذه يجب أن تلغى وتبقى لمن أراد اختصاصا. في الأدب العالمي، لنا اليوم نصوص بهيّة. فيها خيال وطرافة. كما يجب أن نمشي إلى العالم نأخذ منه دون ريبة ولا خوف ما فيه من نصوص بهيّة ومن فكر نيّر. يجب على المدرسة التونسيّة أن تتفتّح على الدنيا. أنّ تنصهر في العالم وتنسى الهويّة وما تحمله الهويّة من ضيق وقتل للأفاق... أمّا جامعة الزيتونة وقد غدت معرقلا في وجه كلّ نظر وكلّ تجاوز وكلّ تحرّر، فهذه مدعوّة الى تغيير المنهج والغايات أو غلقها غلقا نهائيّا، إن هي استمرّت في نفس التشدّد والتحجّر واعتمدت الإقصاء ورفضت الآخر...
بالتعليم المواكب للعصر، بالأخذ من العالم المتقدّم معارفه ومناهجه، بامتلاك العلوم، بحذق اللغات وأيضا بالرقابة الحازمة وبالتمييز بين المدرّسين في الأجور وفي الترقيّات وكذلك بالتكوين المستمرّ يمكن إنشاء تعليم عصريّ يكون فيه العقل وحده هو المرجع وتكون فيه النجاعة هي المقياس والأصل...
قد يرى بعضهم في ما أقول «مبالغة» أو «تجفيفا للمنابع» أو استئصالا أو تنكّرا للهويّة. قد يقول بعضهم إنّي مسلوب الثقافة، أحنّ إلى الغرب المستعمر وأنا من «أيتام» فرنسا ولي عداوة مع العروبة والإسلام، إلى غير ذاك من الصدّ والسبّ. كلّ هذا لغو. هو هراء. أنا لست من أيتام فرنسا ولست من أعداء العرب. هذا ما أراه وأسوقه بلا خلفيّات وبلا حسابات. ما كنت أبدا من أتباع الغرب ولا أريد أبدا استئصال الهويّة. أنا تونسيّ أبا عن جدّ وهذا رأيي ورأيي يحتمل الصواب والخطأ...
في ما أرى، انتهت الهويّة وما كان من وطن ومن خصائص ومن أصالة مميّزة. اليوم، بفضل الحداثة وما كان للعقل من مركزيّة وبفضل العلوم وما ظهر من أدوات اتّصال، أصبحت الأرض قرية صغيرة. لا مكان فيها للوطن، للحدود، للهويّة. كلّ البشر اليوم يحملون نفس الهويّة. هويّة الإنسان اليوم هي الإنسانية. كلّنا جميعا إخوة في الإنسانية. قدرنا واحد. همومنا وغاياتنا واحدة...
° ° °
2 ) في ضرورة إصلاح الخطاب الديني:
أمّا المساجد فهي الأخرى تلعب اليوم دورا مهمّا في صياغة العقل وفي تحديد الرؤى والتمثيليّات. ما يأتيه الأيمّة من خطب أيّام الجمعة وفي المناسبات الأخرى هو مهمّ بل هو خطير جدّا. في هذه الخطب، لا يكتفي الأيمّة بشرح قواعد الدين وذكر مناسكه بل هم يبيّنون للناس كيف الأخذ بالدنيا وكيف العيش المشترك وكيف النظر في ما كان من نظر ومن سلوك. في بيوت الصلاة، هناك تأسيس للفهم وتحديد للقيم وضبط للقواسم المشتركة. في المساجد، هناك، تعميق لنوع من القيم ودفع بالناس في سبل حلال وسبل حرام. ما يقال فوق المنابر وفي أركان المساجد هو مهمّ. هو مهمّ جدّا.
ولأنّها ذات أهمّيّة كبرى، من غير الممكن أن تظلّ الخطب الدينيّة خارج كلّ رقابة ودون تقييم ودون متابعة. من الخطر ترك الأيمّة سائبين، يقولون في الناس ما شاءوا من القول. في ما أعتقد، يجب أن يكون الأيمّة في خدمة مشروع الحداثة وأن تكون المساجد تتمّة لدور التعليم وسندا للمشروع المجتمعي الذي نريده. يجب أن تكون خطب المساجد مناصرة لحرّية الفرد، محفّزة، منهضة، دافعة لبذل الجهد والرفع من الهمم. على الأيمّة أن يشرحوا النصوص بما يساير الحداثة، بما يعيد للعقل سلطانه، بما يمشي مع العصر... النصوص لا تتكلّم. النصوص يؤثّثها المتكلّمون ويؤوّلونها بحسب ما أدركوا وبحسب مصالحهم ومنافعهم. القرآن والأحاديث لا تتكلّم. لم يقل القرآن شيئا محدّدا، منتهيّا. كلام القرآن هو ما جاء على ألسنة الأيمّة وغيرهم من المتكلّمين باسمه من شيوخ وساسة وأهل فكر وأهل جهالة. كذلك، أوّله الأوّلون كما شاؤوا وحيث كانت منافعهم. كذلك، جاء القرآن متنوّعا، مختلفا...
إضافة إلى ما قلت، أعتقد أنّ الأيمّة وأهل الدين عامّة لا يتبيّنون ما يجري في الدنيا من علوم ومن تطوّر وما يحصل اليوم من تنافس وصراع. أعين الأيمّة مشدودة إلى ماض غابر، انتهى. يعيد الأيمّة خطبا قديمة، باليّة. يكرّرون سرديّات لا تنفع المؤمنين، لا تصلح للعصر.
حتّى لا تظلّ المساجد زوايا مظلمة، يجب تكوين الأيمّة ورجال الدين تكوينا عصريّا، سليما. يجب تكوينهم على أيدي من لهم نظر حداثيّ ودراية بالعلوم الإنسانية وإلمام بما يجري في الأرض من تطوّر وتغيير. من لم يتمكّن من كسب هذه العلوم والمعارف العصريّة، لا مكان له في المساجد ولن يخطب في الناس. لن يتولّى الإمامة من حفظ الدين عن ظهر قلب وتلا الآيات دون فهم أو تبيّن. مثل هؤلاء أفسدوا الدين وغلقوا البصر وسدّوا الأفق...
لمّا كنت طفلا في قريتي، منزل كامل، كنت مولعا بالدين. أستمع كلّ يوم جمعة إلى خطب الإمام. إلى يوم الناس هذا، أتذكّر ما كان يقوله الإمام فوق المنبر من وعد ووعيد وهذه نار جهنّم تزمجر غضبا مفزعا. انتهى ذاك الزمن الجميل... منذ سنة أو سنتين وبعد نحو أكثر من خمسين سنة، في منزل كامل، في نفس مسجد القرية، استمعت إلى خطيب الجمعة. كان الإمام شابّا عتيّا. يلبس رداءا طويلا وله لحية كثّة. أصغيت لما جاء في خطاب الإمام الشابّ فوق المنبر. رجعت إلى الصبا. تذكّرت خطاب الشيخ لمّا كنت طفلا صبيّا. لم ألق بين الخطابين اختلافا يذكر. لقيت في الخطابين نفس الصراخ والتهويل. وجدت نفس المضامين والصور والأحاديث. هو نفس الوعد والوعيد يتكرّر...
دور المساجد عظيم، هامّ حتّى يترك بين أيدي الشيوخ والأيمّة. لخطب المساجد أثر بليغ على نظر المؤمنين وتأثير كبير على سعيهم في الدنيا. لذلك، يجب متابعة خطب المساجد وتعديلها حتّى تكون للمسلمين داعمة، منهضة، محفّزة. ما كلّ خطب الأيمّة، اليوم، تسعى إلى ترشيد المؤمنين والحثّ على الإيمان وفعل المعروف. أحيانا، ما يقال في المساجد ينفخ الغلوّ في الأنفس ويدفع الناس إلى التطرّف، إلى الغباوة، إلى طمس ما طلع من نور وما ظهر من همّة... كلّ خطاب هو، في النهاية «دعاية وإشهار». يحمل بصمات صاحبه. يخفي في طيّاته نظم الخطيب ونحوه. خطاب الجمعة هو خطاب إمام له خيارات ومقاصد ومصلحة. الإمام إنسان وككلّ إنسان همّه الأوّل تحقيق ما يرنو إليه من نفع ومصلحة...
أنا لست ممّن يدعو إلى تحييد المساجد. أنا أدعو إلى إقحام المساجد في الحياة، إلى جعلها سلاحا في المعركة. أداة لتحقيق الحداثة، للدفع قدما بهذه الأمّة. يجب أن تكون المساجد معاول لبناء إنسان جديد، متحفّز، له نظر وعزم، له رشاد في السعي وفعل نافع في الدنيا. إنسان متفتّح على العصر. لا يخاف العصر بل هو فيه مساهم، فاعل، مؤثّر...
تأقلمت الديانات السماويّة الأخرى وتغيّر فهمها للحياة ونظرها للدنيا. هي اليوم، أغلبها، معاصرة. هي اليوم غير معرقلة. هل حان الوقت حتّى يغيّر المسلمون نظرهم ويراجعون ما يحملون من إيمان ومن معتقد؟ حان الوقت حتّى يدخل المسلون العصر، حتّى يتطوّروا ويعملوا العقل. لماذا تخلّف المسلمون دون سواهم من البشر؟ ليس القرآن هو السبب. ما كان القرآن نصّا محدّد المعنى، بيّن الغايات وأحكامه منتهيّة. لا تحمل النصوص، كلّ النصوص، في طيّاتها فحوى محدّدا ولا دلالات تامّة، منتهيّة. النصوص لا تتكلّم وعلى المسلمين قراءة النصوص على ضوء نور العقل، بما كان من علوم عصريّة، متيسّرة. يجب فهم الآيات وتأويل الأحاديث في ظلّ حداثة وعولمة.
° ° °
3 ) في ضرورة إصلاح الإعلام:
أما الإتّصال وأعني به كلّ أدوات الإتّصال، من قنوات تلفزيّة وإذاعات وجرائد ورقيّة وإلكترونيّة...، فهي الأخرى، باعتبار ما لها من أثر وتأثير على الناس، مدعوّة إلى الدخول في العصر، إلى السير ضرورة على سكّة الحداثة... بعد الثورة، حصل في البلاد انفلات وذهب كلّ إعلام إلى غاياته. كلّ يقول ما شاء ويدّعي ما أراد، دون تحفّظ، دون رقابة. كثر اللغو في البلاد. ازداد الصخب. عمّت الفوضى وأصاب الناس ضبابيّة في التبيّن وتشويش في الفهم.
أدوات الاتّصال، كالأيمّة في المساجد، كالمدرّسين في الأقسام، لها مصالح خصوصيّة، لها هموم ذاتيّة. كذلك، ترى كلّ أداة إعلام تدعو إلى سبيلها. تكدح سرّا وجهرا لتحقيق ما لها من مآرب ومن غايات. هذا أمر عاديّ. لا أحد في الدنيا يسعى في سبيل الله، في سبيل الوطن، في سبيل الآخر. كلّ فرد، كلّ تنظيم، كلّ أستاذ، كلّ إمام، كلّ وسيلة اتّصال تراها تعمل لصالح نفسها، تسعى إلى كسب المزيد من القوّة والنفاذ. قتلت الأنانيّة الإنسان... اشتدّ الصراع بين الأطراف. كثر التنافس. تفرّقت السبل. تقطّع الحبل الجامع. في تونس اليوم هناك تشتّت. غدا الكلّ في مناورة، في مخادعة، في تحيّل. تسمع، ترى، تقرأ أدوات الإتّصال فتراها كلّها تسعى لتحقيق مآربها، للدفع بذاك الشقّ أو للدفاع عن ذاك الفريق. أفسد الإعلام الحال. أنهك المجتمع. أدخل بلبلة في رؤوس الناس...
مع ضعف الدولة وباسم حرّية التعبير، تعاظم شأن قطاع الإعلام وأصبح هو اليوم الفاعل الأهمّ. هو المرجع... في بلد متخلّف مثل تونس، من غير المعقول، من الخطر، ترك قطاع الإتّصال يقول في الناس ما أراد ويفعل في الناس ما شاء والكلّ يعلم ما لهذا القول من كبير أثر في تشكيل النظر، في توجيه الرأي العامّ...
لإنقاذ البلاد من هذه الفوضى، يجب تنظيم قطاع الإتّصال وضبط مناهجه وتحديد أطره. الإعلام اليوم منفلت، يبثّ فوضى وخرافات. الإعلاميون اليوم فيهم جهالة وبؤس، يبثّون سموما ويقولون سرديّات مضرّة، تفتّن بين الناس. حفاظا على البلد، يجب الحدّ من طلعات الإعلام، من مناوراته، من غوغائيّاته. يجب إعادة النظر في ما يأتي من إنتاج. يجب تأسيس، بناءه من جديد علّه يلقى وعيا ورشدا واعتدالا. على الدولة والمجتمع والمنظّمات التدخّل ورسم السبل الكبرى، ما يلزم من حدود و أولويّات...
إضافة إلى التهافت الإعلامي الذي نحياه اليوم وما كان من تناوش وسباب، أرى في الكثير من أهل المهنة عجوزات يجب سدّها. بعض الإعلاميين أو جلّهم هم اليوم في شبه أمّيّة. لا دراية لهم ولا معرفة بما يجري في الدنيا من صراعات ظاهرة وخفيّة ولا بما يحصل في الأرض، كلّ يوم، من مناورات ومن إشكالات. للإعلاميين، جلّهم، تكوينهم ضعيف ولهم نقص في الفهم وفي الإدراك. هذا نراه في المسموع والمكتوب والمرئيّ...
حتّى يساهم قطاع الاتّصال في رفع الغشاوة عن أعين التونسيين، يجب أن ترفع عن أعين الإعلاميين ما كان من ضبابيّة ومن نقائص. يجب تكوينهم حتّى يدركوا ويؤدّوا المهمّة على أحسن حال. على الصحفيين تعلّم اللغات وكذلك العلوم العصريّة الأخرى مثل الفلسفة وغيرها، علّهم يدخلون العالم وينظرون في ما يأتيه زملاؤهم في الدنيا من عمق التحاليل ومن الإبداعات. كان لي أن اشتغلت في عديد الصحف ورأيت ما يعانيه أهل الإعلام، جلّهم، من ضعف التكوين ومن ضحالة النظر...
• الخاتمة:
هذه هي الأطراف الثلاثة الفاعلة في تحديد الفهم لدى التونسيين، في تأسيس العقل لديهم. هذه الأدوات الثلاث هي اليوم، في ما أرى، مختلّة، فيها سوء وضياع. هي ناقصة وعي، ضعيفة القدرات. غير مواكبة للعصر. معرقلة للمسار. حتّى تنهض وتمشي إلى الحداثة وتدخل في العولمة من بابها الكبير، دون وجس أو خوف، يجب ترشيدها وتنظيمها وتكوين أهلها تكوينا عصريّا، صحيحا. دون ذلك، ستبقى تونس في تخلفّ وسيظلّ التونسيّون في بؤس وفي ظلمات.