كثرت العراقيل وتعدّدت الموانع. انسدّت في وجه الناس السبل. نحن اليوم في شبه قفص. في قفص من قصدير. أن تذهب إلى الغرب للفسحة، للتربّص، للتعلّم، للشغل...، فهذا غدا اليوم عسيرا، عصيبا. كلّ سفر يلزمه تأشيرة والتأشيرة يلزمها وثائق ومال وانتظار طويل. أحيانا كثيرة، ترفض التأشيرة وتبقى في القفص مهموما، مقطوع الجناحين...
ه
ذه مريم بنيّة متميّزة. في باريس، تعلّمت ونالت أحسن عدد. تحصّلت على شهائد عليا. تريد مريم تربّصا حتّى تزداد مهارة وخبرة. ترجو مريم شغلا يمكّنها من العيش فتمشي في الأرض مرحا وتحلّق في السماء بجناحيها. قلب مريم مفعم طموحا وأملا. لها اليوم قدرات وتريد أن تبيع ما كسبت. لمّا تلقى مريم شغلا أو تربّصا تفشل في تحقيق المبتغى لأنّها لا تقدر على كسب التأشيرة. هذه شركة انقليزية وأخرى فرنسيّة تدعوها إلى العمل فتفرح مريم وتعدّ الأوراق وتسعى وتستعدّ. يطول انتظارها. تعلمها الشركة أن بلا تأشيرة يغلق الملفّ وينتهي لدى مريم الأمل. لا شغل لمريم في هذا البلد. اختصاص مريم فنّ وصور متحرّكة. في غيض ودون يأس، تعيد مريم الكرّة وتراسل الشركات في الغرب وفي الشرق علّها تلقى منفذا. غلّقت في وجه مريم كلّ المنافذ. مريم حزينة، غاضبة. كانت المتفوّقة في الدراسة وهؤلاء زملاؤها من بلدان أخرى يتدبّرون، يشتغلون، يكسبون مهارة وخبرة. إلا هيّ. ها هي في تونس، في بطالة، منذ زمن. أحيانا، ألقاها في يأس بليغ. أحيانا، أخاف عليها ممّا تحمل من يأس. مريم حزينة لأنّها تحمل جنسيّة تونسيّة وللسفر يلزمها تأشيرة. ليست مريم وحدها في مثل هذا العسر. الكثير ممّن أعرف يعيشون المرّ لكسب تأشيرة ومغادرة البلد. مثل مريم، كثيرون، هم اليوم في انتظار، في محنة. تنظر إليهم فترى في أعينهم قلقا وحيرة وفي قلوبهم يأسا ونقمة. من يدري ما قد يحصل لمّا ينسدّ الأفق ويسكن الفؤاد ظلمة؟ في زمن العالم قرية، أصبح التنقّل في القرية صعبا. عصيبا. رفعت في الأرض الحدود وازدادت الموانع. أضحى أهل الجنوب في قفص. هم اليوم في شبه سجن. هم اليوم في شبه معتقل.
° ° °
لمّا كنت في عمر مريم، شابّا بهيّا، ما كان السفر أمرا صعبا، أبدا. كان العالم مفتوحا على مصراعيه. الكلّ يسافر حيث شاء، متى شاء، بلا تأشيرة، بلا رخص. كانت فرنسا، للتونسيين، البلد المفضّل. الكلّ إليه يرتحل. الكلّ يمشي إليه ليشتغل، ليأكل خبزا، ليكسب رزقا. أنا أيضا كنت أسافر إلى الغرب في كلّ زمن. للعمل، للزيارة، للتجوّل. لمّا كنت طالبا في كلّيّة الآداب 9 أفريل، لمّا كنت في عمر مريم، في كلّ صيف، أخذ جوازي وحقيبتي وأمشي في الدنيا. أجوب العالم كلّه. في كلّ صيف، ألبس حذائي وأذهب إلى فرنسا حيث ألقى الكثير من صحبي ومن أهلي. كلّ صيف، أراني أسافر إلى فرنسا وغيرها من الأمصار. أمرح فيها طولا وعرضا وكلّي طمأنينة وزهو. في فرنسا، أتفسّح في الأرض كما شئت. أزور القرى والمدن. أعمل ما ألقى من عمل. أربح مالا وأعود آخر الصيف مبهرا بما رأيت من نظام وفرحا بما اشتريت من أمتعة. في تلك السنين، كانت فرنسا هي موطني الآخر، هي ملجئي. في فرنسا، كنت والكثير من الناس مثلي، نعمل ونكسب ونتعلّم. أيّامها، كان الكلّ يحبّ «العكري» حبّا صادقا وفيها نرى حورا وغلمانا ونأكل فاكهة وموزا.
ما كنّا في تلك السنين نكره الغرب وأهله. بالعكس، كنّا نحبّ الغرب كلّه وفرنسا أوّلا. ما كنّا نرى أنّ الغرب هو أصل البلاء في ما نحن فيه من فقر ونكد. كنّا نقول إنّ تقدّمهم، أصله، ما بذلوه من حرص ومن جهد وأنّ تخلّفنا سببه ما كان فينا من عقم وجهل. كنّا ننظر في أهل الغرب. نأخذ أدواتهم. كنّا نؤمن أنّنا قادرون على الخروج من الفقر. بالعمل الدؤوب، بالنظر النيّر، نحن أيضا سنكون غدا أفضل. كنّا، على اقتناع، أنّنا سوف نتجاوز ما فينا من وهن وعلى التخلّف سوف ننتصر. كانت قلوبنا مفعمة ثقة وأملا وفي أيدينا عزيمة...
أنا أحبّ الغرب، لما كان لي مع الغرب من علاقة مميّزة. من الغرب، أخذت الكثير من فكري وألهمت حداثته بصري. تعلّمت الفرنسيّة وفتّحت لي الفرنسيّة أبواب الأفق. ما كنت أرى أنّ الفرنسيّة لغة أجنبيّة. ما كنت أعتقد أنّها لغة المستعمر. هي لغة عصريّة فيها أدب وفكر ومنهج. بالفرنسيّة، اكتشفت معارف لم أعهدها وطرقا في التفكير مغايرة. بالفرنسيّة، اتّسع عندي الممكن. أدركت رؤى ومفاهيم أخرى. حصلت لي منهجيّات. لمست خيالا وطرافة. مع الفرنسيّة، تغيّر نظري، تبدّلت قبلتي. أصبحت عبدا آخر. مع الغرب، تعلّمت حيرة السؤال. تأسّس لي نظر تجاه نفسي وتجاه الآخر المختلف... أيّامها، كنت والشباب مثلي، جميعا، نرى في الغرب منارة مشرقة...
° ° °
بعد الثورة سنة 2011، انقلب الحال. أصبح الكثير من العامّة ومن رجال السياسة والدين وغيرهم يكرهون الغرب ويرفضون فنونه وفكره. مع الثورة، طلع في البلد نمط آخر من البشر. ظهر للناس فكر بدويّ، ظلاميّ، مشاكس. من بين هؤلاء هناك أوّلا الجهلة. كم هم كثيرون الجهلة في بلدي. طلع أيضا قوميّون وأعراب ومستعربة ومتشدّدون ومن انغلقت قلوبهم وسكنهم حقد وظلمة. كلّهم، فجأة، انبعثوا من باطن الأرض. خرجوا كالدود من غابر الزمن. يقولون إن فرنسا هي سبب البلاء والغرب هو أصل الضرّاء والتخلّف...
أنا لست من هؤلاء. أنا أعتقد أنّ كلّ قطيعة مع الغرب هي سيّئة العواقب، فيها شرّ وضرر. كلّ تباعد بيني وبين الآخر المختلف هي خسارة لي ولكلّ البشر... قامت النهضة عندنا لمّا نظرنا في ما يعيشه الآخر المختلف من نظام وأدركنا ما كان له من عقل ونقد وفكر. يومها، دون عقد، انطلقنا نبحث، ننظر في أنفسنا وما كان في أنفسنا من جهل وسوء. يومها، انطلقنا نسعى، نبحث في سبل الخلاص وكيف الأخذ بالعلوم وبالفنون وكيف العيش في العصر...
انتهى ذاك الزمن. مع الثورة، كثر الصراخ. اضطربت الأحوال. عمّ الخوف. اشتدّت الريبة. انغلقت الأنفس. حصل التقوقع. أكل الناس تعصّب. ضاعت الفرنسيّة ومفاتيح الولوج إلى الآخر المختلف. قطعنا الحبال والروابط. قال الجهلة: يجب أن ننتهي من الغرب ومن الحداثة. علا صوت الغيب. انتصرت الخرافة. في المساجد، في الفضاءات العامّة، في الإعلام، أصبح الكلّ للغرب عدوّا. أصبح الكلّ به يندّد. كثرت البغضاء. عدنا إلى السلف. نأخذ منه تعاليمه وسننه. طلع الإرهاب يفجّر. ها نحن نقتّل الناس ظلما. ها نحن غدونا، بين عشيّة وضحاها، أباليس العالم.
اشتدّت الأزمة وهذا إرهاب يدكّ. أصاب العالم انكماش وتقوقع. في العالم، اليوم، قوميّة تتأجّج وشعبويّة تنفث سمّا. تفرّق. خفت نور العقل واشتعلت العواطف والهواجس. ارتفعت في الأرض الحدود وازدادت الموانع. أصبح الكلّ يخاف الكلّ. أصبح الكلّ يدّعي أنّ البلاد لهم ولا مكان فيها لغيرهم. «تونس للتونسيين» وحدهم. كلّ يدّعي جهلا وباطلا أنّ حضارته هي الأعرق ودينه هو الأحنف وجنسه هو الأرقى. كلّ يدّعي أنّه من خير أمّة أخرجت للناس. إلى غير ذلك من الخور واللغط...
اشتدت الكراهيّة بين الناس. عادت القبليّة وانتصبت الجهويّة. ها هي القوميّة تزمجر. تعمّق التعصّب. ها هي الشعبويّة تزجّ بالناس في التفرقة، في الفتن... من يدري، غدا، قد نعود لنحيا الحروب الصليبيّة. من يدري، غدا، قد نعود لنرى الغزوات/الفتوحات تشتعل نارا، تفتك...