كان لي طرح منته ونظر ثابت وحجج من صخر. كان لي رأي، لا أتزحزح عنه. كنت واثقا من أمري. لا يغامرني شكّ ولا تأخذني ريبة. كنت أحمل، بين أضلعي، يقينيّات منتهيّة. في حماسة وبعض من البراءة والسذاجة المفرطة، كنت أستميت في الدفاع عمّا أحمل من قناعة ومن فكر...
تمّر الأيّام والسنون تجري فألقاني، فجأة، عبدا آخر، مختلفا. أمن بما لم آمن به، من قبل. أعتقد في ما لم أعتقده. مع الزمن، أراني انقلبت. تراجع عنديّ اليقين. تغيّر فيّ الفكر. ها أنا اليوم أومن بأفكار أخرى. ها أنا أعتقد في أشياء مختلفة. تتألّف عندي حجج ثانيّة وأرى الدنيا مغايرة. تغيّرت وتغيّر الناس من حولي وكذلك صلاتي بالسماء والأرض وبالتاريخ والعرش. لا أعلم من أين أتى فكريّ المختلف ولا كيف هو، فيّ، استقرّ. في بعض من الزمن، تبدّلت الرؤى وكذلك القول والفعل...
أنا أسأل ما الذي أصاب نفسي ولم انقلب فيّ العقل؟ لا أدري سبب التحوّل ولماذا كان التغيير ولا كيف حصل وتمّ؟ أحيانا، أقول هو التطوّر. أحيانا أخرى، أقول هو الفكر ينضج، هو العقل يكتمل. أحيانا، أنكر التغيير أصلا وأؤكّد أنّي مازلت على العهد. كما كنت. أحيانا،أرجع ما أصابني من تقلّبات إلى الزمن وما كان لي مع الزمن من أحوال، من عيش، من أحداث خصوصيّة...
لماذا أنا في تغيّر دائم، لا أستقرّ على رأي؟ لماذا أنا دوما على نفسي منقلب؟ لماذا في كلّ حقبة من الزمن، يتأسّس لي نظر بعينه وتكون لي قيم وثوابت أخرى؟ هل أنا ريح تجري؟ هل أنا سيل، أنساب طولا وعرضا، كما شاءت الظروف، كما شاءت الصدف؟ لا أعلم. لا أدري. أعلم كيف كنت في سابق العمر. أعلم ما كان في رأسي من فكر وفي قلبيّ من معتقد. أعلم ما أحمل اليوم من فكر ومن نظر. ما أتي من سلوك ومن نحو. أنا عبد راشد، عاقل. أدرك كيف كنت ومن أنا اليوم. لكن، لا أدري كيف سأكون غدا؟ لا أدري ما سوف أحمل، في قادم الأيّام، من فكر، من رأي. أعلم أنّي في تغيّر مستمرّ وأن فكري حركة، لا تهدأ. لكن، لا أدري من أين سوف ينطلق التغيير ومتى سوف يبدأ وكيف ستشكّل. فجأة ودون علم منّي، أرى أنّي تغيّرت. تغيّرت شيئا فشيئا، جزءا بجزء. كلّ يوم، لو نظرت، أنا عبد جديد. أنا عبد مختلف. هل كتب الربّ على الإنسان أن يحيا مقطّع الأوصال، متغيّر الفكر والحسّ؟ هل شاءت السماء أن يظلّ الإنسان في اضطراب، في ترحال مستمرّ؟
أنا في ترحال مستمرّ. لا أدري إلى أين ستحملني قدميّ ولا أعلم أين سوف ينتهي رأسي. لا أدري ما سوف أحمل غدا من نظر. أنا ورقة بيضاء فيّ أهبة، مستعدّة لتلقّي كلّ بصمة، لتقبّل كلّ رسم. أنا فكر متقلّب. كيف لي أن أكون ثابتا وكل شيء من حولي في مخاض، يأكل بعضه بعضا؟ كيف لي أن أبقى مستقرّا وهذا فكري ماء ينساب، يجري؟ أنا لا أملك ثوابت. أنا لا أملك حقيقة. أنا رمل تنفخ فيها الرياح فتهزّه شرقا وغربا. مع كلّ ريح، يتغيّر الرأس فيّ والنظر والحسّ، أيضا. في كلّ لحظة، أهدم وأبني. ألقاني آخر وهذه الدنيا أمامي مختلفة... أنا تقلّب. أنا نشاز. أنا حركة. أنا تناقض مستمرّ. أحيا بين نور وظلمة، بين خير وشرّ، بين إيمان وكفر...
أندهش لمّا ألقى من حولي بشرا امتلأت قلوبهم إيمانا لا يمسه شكّ ولا ريبة. أندهش لمّا يقول صاحبي إن له ثوابت لا يمسّها ظرف ولا زمن. أندهش من بعض المسلمين وقد سكنهم إيمان مطلق. الحقّ عندهم بيّن والباطل بيّن وكلّ ما في الدنيا يمشي في صراط مستقيم، مستقرّ. لا أدري كيف هم يرون الحقّ والباطل وبين الحق والباطل جدليّة وتكامل؟ كيف يرون الإيمان والكفر وللإيمان والكفر نفس الأصل. هما من نفس الشجرة؟
أنا أخاف الناس، من آمن منهم بالثوابت. أنا أخاف الناس، من رأى الحقّ بيّنا وآمن بالحقيقة المطلقة. أنا أخشى من الناس من امتلأ قلبه إيمانا وسكنته قناعات منتهيّة. هؤلاء، يعتقدون أنّهم لا ينطقون عن الهوى وأنّ فكرهم هو الأصحّ والأبقى... كيف لي أن أشاركهم إيمانهم وفي كل إيمان غلق وصدّ؟ كيف لي أن أومن بما آمنوا والإيمان أساسه ردّة؟ كيف لي أن أنزع الشكّ والشكّ ماهيّتي. ساكن في قلبي، ماسك بنفسي؟
لو أراد الربّ أن يملأ قلوب الناس إيمانا ويقينا لما خلق الله الإنسان ليحيا. كي يحيا، كتب على الإنسان الترحال في الأرض والتقلّب في المسعى. كتب عليه الشكّ والردّة. ألم يبعث الإنسان ليمشي بين السماء والأرض؟ ألم يقذف في صدره عقلا نورا حتّى يبحث ويسأل علّه يرى ويلقى؟ الإدراك تأرجح. هو مراوحة بين اليقين والظنون، بين الشكّ والحيرة. الحياة بناء وهدم.
أنا إنسان من ماء. أنا ريح تهبّ. لا قيم عندي قارّة ولا فكر لي مستقرّ. لا إيمان لي راسخ ولا كفر عندي ضارب. لا أقدر على ملك الحقيقة وأنا دوما في شكّ. في كلّ مطلع فجر، أعيد النظر في ما كان من أمر. أقلّب، أجتهد علّي أتبيّن، علّي أرى من الزاويّة هذه ومن الزاويّة الأخرى. في ظلّ كلّ زاويّة، يتأسّس فيّ فكر مغاير وأرى أبعادا وسبلا لم أرها من قبل... لن يمكنني الإدراك ولا التبيّن. لن أقدر وهذه الزوايا عديدة ومختلفة وأنا محدود الفكر، ناقص العقل. كلّ سؤال يحمل في طيّاته أسئلة وكلّ شكّ يحمل بين جنبيه شكوكا أخرى.
رغم العسر وما كان فيّ من نقصان وعجز، لن أيأس. أنا دوما أكدّ وأسعى حتّى ينضج فكري وتتّضح عنديّ الرؤية. مهما كان لي من نضج فهو نضج محدود، فيه ثغرات وشوائب عدّة. كذلك، إن قلت رأيا وخالفته، إن أتيت فعلا ونقضته... فهذا هو أنا. فهذا هو الكنه.