حديث الفرد: كلّ عاجز يرتهن

أنا موظّف في القطاع العامّ. لي أجر شهريّ قارّ. رغم أجريّ القارّ، صادف أن لقيت نفسي وعائلتي في عسر، في ضيق ماليّ.

عادة، أنا مقتصد في إنفاقي. دوما أحسب للضيق حسابا. دوما، أتهيأ لما قد يطرأ من مصاريف و إنفاق. أنا أخاف الضيق ومن عادتي أن لا أتّكل أبدا على أحد من الناس. أنا لا أأتمن الناس. لا ثقة لي في الناس. حتّى في عائلتي، لا أرى من كان على استعداد لمدّ يد العون إن شدّني ضيق أو أصبت بمرض مفاجئ. أنا لا أومن بصلة الرحم ولا بمعاضدة الأهل ولا بعون الإخوان. هذا كلام هراء يقال في المناسبات، أيّام اليسر، في الأعياد. في ما أرى، قتلت الأنانيّة الإنسان. كلّ يوم لنفسه ناظر. كلّ لغايته يسعى. كذلك، أصبحت الحياة، مكابدة وجهادا. الإنسان فرد عاقل، حسّاب. وحده يختار ما شاء من سبيل ومن قرار. وحده عليه تحمّل التبعات. لكن، أحيانا، قد يحصل ما لم يكن في الحسبان. أحيانا، قد ألقى شدّة وضيقا ككلّ الناس وأستنجد مكرها بالناس.

في مرّة من المرّات، التجأت الى أحد إخوتي وكان له مال وفير وإرث معتبر. دعوت أخي الأكبر أن يقرضني مالا أرجعه، بعد زمان. هو أخ عزيز عليّ وقد طالت أزمتي ولم ألق لها حلّا ولا مخرجا. ذهبت الى بيته في الساحل. دعوته أن يمدّ لي يد العون. بيّنت له أسباب الشدّة وكيف ضاقت بيّ الحال. شرحت له مخطّطي وما أنوي اتّخاذه من تدابير لتجاوز الأزمة واستخلاص الدين في الأوقات. كنت في حرج كثير وكان هو في بعض امتناع وتكبّر. كنت مطأطأ الرأس، في غمّ، أستمع لما يقول أخي الأكبر. في بعض لوم، ذكّرني أخي أنّ المال عزيز وأن عليّ أن أتثبّت في ما آتي من شراء وإنفاق. ذكّرني بما في الحياة من عسر وعليّ أن أنتبه وأتجنّب ما لا يحمد عقباه. أكثر من ساعة وأنا أستمع الى درس أخي في الوعظ وفي الإرشاد وكيف العيش وكيف الكفاف بما كتب الله من أرزاق. مع النصح، هناك طبعا لوم وتأنيب وكلام فيه ظاهر ومجاز. بعد الضيق جاء الفرج. مدّني أخي أخيرا بما طلبت وكنت قبلها عبّرت له عن ندمي وأكّدت له بصريح اللفظ والعبارة أنّي أخطأت التقدير وأنّي لن أعيد الخطيئة ثانيّة ووعدته بصدق تامّ أنّي سوف أعيد له ماله في اليوم الموعود دون تخلّف أو نقصان. أعلم أنّ أخي جدّي في المعاملات وعزيز عنده المال. بعد شرح واستعطاف، أخيرا،انتفض أخي واقفا.

ذهب الى غرفة نومه وكان فيها ظلام. ها هو يعود إليّ ثقيل الخطى. أحيانا، يتأوّه وأحيانا يحمحم. وقف أمامي وقال بصوت فيه حزم وارتفاع: «أنا أعلم أنّ الفلوس تفسد العلاقات. أنا لا أحبّ قرض الناس. كم واحد أقرضته هرب، اختفى من البلاد. أنا قدّرت ظرفك الخاصّ. أنت أخي الأصغر وهذه هي المرّة الأولى التي فيها تطلب مالا. على كلّ حال، أرجو أن تكون المرّة الأخيرة وأن تتجنّب مستقبلا الوقوع في مثل هذه الأحوال. أنت رجل اليوم يا شيحة وعليك أن تتّكل على نفسك ولا تخطيء السير والحساب... هاك المال ولا تنس أن تعيد الأمانة إلى أصحابها دون تخلّف أو نقصان». اتّفقت عشيّتها مع أخي الكبير في كلّ التراتيب ووضّحنا معا كلّ الجزئيّات. ها هو المال في جيبي. انتهى العسر. انتهى العذاب. أقفلت عائدا الى بيتي فرحا، غير مسرور، مكسور الجناح...

بعد أسابيع من عمليّة الاقتراض وقبل حلول موعد الخلاص، جاء أخي لزيارتي في العاصمة. يسكن أخي الساحل وزياراته الى تونس قليلة، نادرة. كلّي حرص، اشتريت يومها دجاجة وخضرا وثمارا وأوصيت زوجتي أن تعدّ لنا ما لذّ من الطعام حتّى أكرمه وأردّ له الإحسان. لم تشتغل يومها زوجتي. هي والبنيّة في المطبخ منذ الصباح لإعداد فطور بهيّ يليق بالمقام. في منتصف النهار، حلّ ركب أخي. قبّلته بحرارة. فرحنا به جميعا وقلنا له ما يشتهي من حلو الكلام. وضعناه فوق رؤوسنا، احتراما وإجلالا. كان يبتسم وينظر في وجوهنا وفي ما كان في البيت من تحف، من زينة، من أثاث.
وضعنا الطاولة بعد أن فرشنا فوقها لحافا مزيّنا وردا وتفّاحا. حطّت البنيّة ما أعدّت من أطباق. امتلأت الطاولة خيرا ولذّات. كنت أمشي بين يديه. أملأ كأسه ماء. أمدّ له المنديل. أنظر في عينيه وكلّي تودّد وانتباه. بدأنا نأكل ما طاب. أعطيته أفضل قطعة دجاج وزدته خضرا كما اشتهى وأراد. كنت وإياه نأكل في زهو وفي نهم. كنت فرحا بقدوم أخي الأكبر الى داري. كنّا نتحدّث في كلّ شأن. نتذكّر يوم كنّا صبية في القرية وكيف كانت أمّي بهيّة وكيف كانت يومها الحياة.

نهضت زوجتي والبنيّة ودخلتا المطبخ تعدّان، في ما أعتقد، الثمار. ها أنا وأخي الاكبر وحيدان. كنّا نأكل في نشوة واطمئنان، لمّا، فجأة ودون سابق إنذار، اقترب منّي وهمس في أذني، مسرعا: «في ما أرى أنت في خير ونعمة يا شيحة. طاولتك فيها كلّ الفضائل والخيرات... قل لي، متى ترجع لي ما أقرضتك من مال؟» قلت مندهشا: «سيّدي، لا تخف عن المال. هذا الفطور أعددناه لك خصّيصا. أنت قادم من بعيد ولإكرامك اشتريت لك دجاجة. في سائر الأيّام، نحن نكتفي بما ستر. بالخبز وبالكسكسي وغيرها من بخس الأطباق...» عادت إلينا زوجتي وبين يديها طبق فيه ثمار. سكت أخي عن الكلام ورأيت في عينيه بعض امتعاض. انتهى الفطور وحان وقت الرجوع الى الساحل. قبّلت أخي الأكبر وودّعته وطمأنته أنّي سوف أدفع ما أخذت في اليوم الموعود، دون تأخير أو نقصان...

بعد شهر أو شهرين، على غير العادة، عاد أخي الأكبر الى تونس مرّة ثانيّة. له ولا شكّ في تونس شؤون عقّاريّة أو عقود للامضاء أو لا أدري ماذا من المعاملات. هاتفني يومها وقال: «سأمرّ اليوم على الدار وإن شاء الله نفطر معا». رحّبت بقدومه وسألت عن حاله وأحواله وقلت له نحن في انتظاره. في الحين، دون تردّد، هاتفت زوجتي وقلت لها: «اليوم يزورنا أخي فلا طهي ولا لحم ولا دجاج. يزورنا أخي الأكبر وعليك أن تظهر ما نحن فيه من ضيق ومن فقر ومن شقاء. عليك أن تعدّ لنا اليوم «شكشوكة» بلا بيض وفيها ماء بلا حساب»...

منذ تلك الحادثة، كلّما شدّني ضيق، أتحاشى اللجوء إلى أخي الأكبر أو الى غيره من الناس. وحيدا أسعى. وحيدا، أنظر كيف التجاوز. إن لم أستطع، أبحث عن صديق حميم يقرضني دون أن أكون محلّ رقابة وحساب. من العسير، لقاء صديق حميم يمدّ لك العون دون أن يسألك عن الأسباب والمسبّبات ومتى وكيف يكون الخلاص... لا أحبّ أن أقترض وكلّما اضطررت الى الاقتراض أعلم أنّي سوف أرتهن. أصبح حبيسا، تابعا. ألقاه في الشارع فأرى في عينيه، مكتوب على جبينه، ما كان أقرضني من مال. أشرب وإيّاه قهوة أو ماء فأسمعه ينادي: «هل انتهت الأزمة يا صاحبي؟ متى يعود المال لأصحابه؟»...
  
في السنوات الأخيرة، اقترضت تونس من اليمين ومن اليسار. منذ الثورة، اختلّت الموازين وعرفت البلاد في ضيق. تفاقمت الأزمة بسبب ما أتينا من سوء تنظيم ومن سوء نظام. منذ عشر سنوات، نحن نعيش فوق قدراتنا وننفق ما لا نملك وندفع بالمال يمينا وشمالا. بعد الثورة، انتدبنا من الشغّالين أكثر من اللازم وزدنا في الأجور مرّات ومرّات. تفاقم الدعم. بعثنا عديد الهيئات الدستوريّة وغيرها من التنظيمات. منحنا التعويضات لمن ناضل ولم يناضل وأنفقنا في ما ينفع وما لا ينفع، بلا حساب. في الميزانيّة عجز كبير وليس للدولة مال يكفي لسدّ العجوزات. لمواجهة ما كان من تبذير ومن إنفاق لا ينفع، ها نحن نقترض من صندوق النقد الدولي ومن عديد الدول والهيئات...

كما فعل أخي، وهو من أمّي وأبي، لمّا سألني عن سبب العجز وكيف أنوي تسديد القرض وكيف السبيل لتلافي العجوزات، يسأل أهل صندوق النقد الدولي وغيرهم من البلدان والهيئات عن سبب العجز وكيف ومتى سيكون ارجاع المال. لصندوق النقد الدولي الحقّ في النظر في سبل عيشنا، في ما نأتي من إنفاق، في كيفيّة تصرّفنا في المال العامّ. للمقترضين الحقّ في التدخّل في عيشنا، في وضع الشروط وتحديد الحدود والأولويّات. لهم الحقّ في ارتهان سياسة البلاد وفي النظر في ما تأتيه الحكومات من تنميّة ومن إنفاق ومن اختيارات...

لو لم ننتدب ما لا حاجة لنا به، لو لم ننفق في ما لا ينفع الناس، لو لم نزد في الأجور، لو دعونا الحكومات المتعاقبة الى التقشّف في المصاريف، الى مكافحة المتهرّبين والفسّاد، الى إعادة النظر في الأولويّات، لو أحسنّا التصرّف في المال العام...، لما حصل في البلاد مثل هذه العجوزات، لما ارتهنّا كما هو الحال.

نعم، كانت الحكومات فاسدة التصرّف، عاجزة على مواجهة الوضع وأخذ ما يلزم من قرار. نعم، الحكومات المتعاقبة هي المسؤولة عمّا نحن فيه اليوم من خور، من سوء حال. لكن، هناك الأطراف الأخرى من اتحاد شغل وأحزاب ومنظّمات وأنا وأنت والآخر... هي كلّها مسؤولة بدرجات عمّا نحيا اليوم من تبعيّة، من وهن، من اترهان. نحن من طالب بالزيادة في الأجور وبإبقاء الدعم وبالتشغيل الفاسد وبوضع كل هذه الهيئات. نحن من أسّس للعجز بما أتينا من تسيّب، من إضرابات، من سوء نظر، من رداءة إنتاج. كلّ في موقعه، كلّ حسب جهده، ساهم في ارتهان البلاد، في خراب البلاد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115