يقوم على تحقيق التوازن بين الأبعاد الإقتصادية والإجتماعية والبيئية، سواء كان ذلك ضمن أنشطتها، أو في علاقاتها بمختلف الأطراف والجهات المرتبطة بها والمتعاملة معها.
ولم تحد البنوك والمؤسسات المالية من ناحيتها، عن مسار إدماج مقتضيات التنمية المستدامة ضمن نظم إدارتها وفي مختلف علاقاتها مع أطرافها الفاعلة، خصوصا أمام التحديات الإقتصادية والإجتماعية والبيئية الجديدة في مختلف أنحاء العالم.
وبهدف تعزيز العمل من أجل المناخ والتنمية المستدامة، وبمناسبة قمة الأمم المتحدة للعمل من أجل المناخ، أطلقت كلّ من البنوك الرائدة في العالم ومنظمة الأمم المتحدة، في 22 سبتمبر 2019 مجموعة من المبادئ تحت مسمّى «مبادئ الصيرفة المسؤولة»، Principles for Responsible Banking، حيث انضم 130 بنكًا تمتلك مجتمعة 47 تريليون دولار أمريكي من الأصول، أو ثلث القطاع المصرفي العالمي، إلى هذه المبادئ، التي تهدف بالأساس إلى تطوير مفهوم إدارة المخاطر لتشمل المخاطر البيئية والمجتمعية وإلى تشجيع البنوك على تمويل مشاريع تخدم البيئة، بالإضافة إلى إحكام تطبيق مبادئ الحوكمة والشفافية.
وتكمن أهمية مبادئ الصيرفة المسؤولة، في تدعيم تنافسية ومصداقية المؤسسات المصرفية، في إطار عالمي يشهد تحولا سريعا نحو التنمية والتمويل المستدامين.
وإسهاما منّا في التعريف بهذه المبادئ الجديدة، نتولّى في ما يلي تقديمها من حيث الأهداف والمحتوى، قبل التعرّض إلى أهم الخطوات العملية الواجب إتباعها من قبل البنوك قصد تفعيلها.
I- أهداف ومحتوى مبادئ الصيرفة المسؤولة:
تم تطوير مبادئ الصيرفة المسؤولة من قبل مجموعة أساسية تتكون من 30 بنكا مؤسسا عبر شراكة عالمية بين البنوك ومبادرة تمويل برنامج الأمم المتحدة للبيئة United Nations Environmental Programme - Finance Initiative. وتعد مبادرة تمويل برنامج الأمم المتحدة للبيئة بمثابة تعاون بين القطاع الخاص والأمم المتحدة، يشمل عضوية أكثر من 240 مؤسسة مالية حول العالم. أمّا برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فهو بمثابة السلطة البيئية الدولية التي تضع جدول الأعمال البيئي العالمي، وتعزز تنفيذ البعد البيئي للتنمية المستدامة داخل منظومة الأمم المتحدة، وتعمل كمناصر رسمي للبيئة العالمية.
وتضع «مبادئ الصيرفة المسؤولة» إطار عمل للنظام البنكي المستدام، من خلال قيام المؤسسات المالية بمواءمة استراتيجية أعمالها لتتوافق مع مصالح الأفراد والمجتمع، مع الحرص على تعزيز الآثار الإيجابية وتقليل الآثار السلبية الناجمة عن الأعمال سواء على مستوى الأفراد أوعلى مستوى المجتمعات. كما تحرص تلك المبادئ على العمل بشكل مسؤول مع كافة الأطراف ذات العلاقة، وتشجيع الممارسات السليمة لتحقيق الاستدامة مع حوكمة الأعمال والالتزام بالشفافية والمساءلة فيما يتعلق بالتأثيرات الإيجابية والسلبية للمؤسسة والمساهمة في تحقيق أهداف المجتمع.
ومن خلال الانضمام إلى مبادئ الصيرفة المسؤولة وإتباعها، تلتزم البنوك بمواءمة أعمالها استراتيجياً مع أهداف اتفاق باريس حول المناخ وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، المعروفة أيضا بـ «أجندا «2030، وزيادة مساهمتها بشكل كبير في تحقيق كليهما.
وتشمل هذه المبادرة ستة مبادئ وهي:
المبدأ الأول: «المواءمة» Alignement : أكثر من الملاءمة المبنيّة على التناسب والتقارب، فإن المواءمة مؤسسة على التوافق والتطابق. وبناء على هذا المبدإ تتعهد المؤسسات المصرفية المنضمة إلى مبادئ الصيرفة المسؤولة، بمواءمة استراتيجياتها لأهداف التنمية المستدامة لسنة 2030 وإتفاق باريس حول المناخ ومختلف الأطر الوطنية والإقليمية قصد المساهمة في تحقيق تلكم الأهداف والإستجابة لحاجيات الأفراد والمجتمع.
المبدأ الثاني: «التأثير وتحديد الأهداف» Impact and Target Setting : يشمل هذا المبدأ تكثيف الآثار الإيجابية للمؤسسات المصرفية والحد من الآثار السلبية على البيئة والمجتمع، بالإضافة إلى إدارة المخاطر البيئية والاجتماعية الناتجة عن ممارساتها ومنتجاتها وخدماتها المصرفية. ولهذا الغرض، تلتزم المؤسسات المصرفية بتحديد الأهداف التي يمكن لها أن تحقق في شأنها أكبر قدر ممكن من التأثير البيئي والإجتماعي.
المبدأ الثالث: «الحرفاء والعملاء Clients and Customers»: يتعلّق هذا المبدأ بأهمية عمل البنوك عن قرب مع الحرفاء لتشجيع الممارسات المستدامة وتمكين الأنشطة الاقتصادية التي من شأنها أن تخلق فرص نمو ورخاء للأجيال الحالية والمستقبلية.
المبدأ الرابع: «أصحاب المصالح» Stakeholders : تلتزم البنوك وفقا لهذا المبدإ باستشارة كل أصحاب المصالح والأطراف المعنية والتواصل والتعاون معها لتحقيق الأهداف المجتمعية.
المبدأ الخامس: «الحوكمة والثقافة Governance and Culture»: يتعلّق هذا المبدأ بتفعيل البنوك لسياسات الحوكمة وترسيخ ثقافة الصيرفة المسؤولة.
المبدأ السادس: الشفافية والمسؤولية Transparency and Accountability : ويتمثل في الإلتزام بالمراجعة الدورية للتنفيذ الفردي والجماعي لهذه المبادئ قصد ضمان شفافية ومسؤولية المؤسسات المالية بخصوص أعمالها وتأثيراتها الإيجابية والسلبية والمساهمة في أهداف المجتمع.
II- الخطوات العمليّة لتفعيل مبادئ الصيرفة المسؤولة:
بالرجوع إلى دليل تفعيل مبادئ الصيرفة المسؤولة الصادر عن مبادرة تمويل برنامج الأمم المتحدة للبيئة في جويلية 2019، أي قبيل الإطلاق الرسمي للمبادئ في شهر سبتمبر من ذات السنة، فإن تفعيل هذه المبادئ يتطلب إتباع البنوك المتبنيّة لها لثلاث خطوات عملية أساسية وهي تحليل التأثير و تحديد الأهداف والتنفيذ والمساءلة، حتى يتمكن البنك المعني من حسن تطبيق مبادئ الصيرفة المسؤولة وضمان التحسن المستمر لمساهمته في التنمية المستدامة.
1 - تحليل التأثير:
يتعين على البنك تحليل ما إذا كانت لديه تّأثيرات إيجابية أو سلبية معتبرة تجاه المجتمع والبيئة والإقتصاد، والبحث عن إمكانية تحقيق البنك لأكبر قدر ممكن من التأثيرات الإيجابية، مقابل التقليص من التأثيرات السلبية.
وتشمل العناصر الواجب أخذها بعين الإعتبار في إطار تحليل التأثير، حجم أنشطة البنك في ما يتعلق ببعض القطاعات والمناطق المعينة، وأهم التحديات المطروحة والأولويات المتعلقة بالتنمية المستدامة في البلدان والمناطق التي ينشط فيها البنك، وحجم التأثيرات الإجتماعية والاقتصادية والبيئية الواقع تشخيصها.
وبناء على هذا التحليل يتعين على البنك التعرف على الفرص الإستراتيجية التي من شأنها تمكينه من الترفيع من تأثيراته الإيجابيّة مقابل خفض تأثيراته السلبية.
2 - تحديد الأهداف وتنفيذها:
يتعين على البنوك المنضمة لمبادئ الصيرفة المسؤولة تحديد أهداف ذكية وطموحة للتعامل مع التأثيرات المعتبرة التي تقوم بتشخيصها في ما يتعلق بأنشطتها وقراراتها تجاه المجتمع والبيئة، والعمل على تحقيق تلكم الأهداف. هذه الأهداف، يجب أن تكون محدّدة وقابلة للقياس وللإنجاز وواقعية ومضبوطة زمنيا.
وفي هذا الإطار، يتعيّن على البنك أن يحدّد هدفين على الأقل، يتعلقان بأبرز تأثيراته السلبية و الإيجابية. ويتعين أن تكون الأهداف المحدّدة مؤدّية إلى تلاؤم عمل البنك وإستراتيجياته مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وأهداف إتفاقية باريس من أجل المناخ وأهم الأطر الدولية والإقليمية والوطنيّة.
3 - المساءلة:
يتعين على البنوك المنضمة لمبادئ الصيرفة المسؤولة أن تدرج في تقاريرها الدورية كل ما تقوم به في هذا المجال وأن تبرز مدى تقدمها في ما يتعلق بتطبيق المبادئ المذكورة مع ضرورة الحرص على الشفافية بخصوص تأثير نشاطها على الإقتصاد والمجتمع والبيئة.
خاتمة:
تعكس مبادئ الصيرفة المسؤولة لسنة 2019 توجها جديد للمؤسسات المالية في أعقاب الأزمة المالية لسنة 2008 وهي خطوة جديدة نحو الحد من الفجوة بين الممارسات المصرفية والأهداف البيئية والمجتمعية وتحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن بين مختلف هذه العناصر، حيث من المنتظر أن تساهم البنوك ولو بقدر طفيف في تحقيق أهداف التنمية المستدامة لمنظمة الأمم المتحدة في أفق سنة 2030.
وبوضع مبادئ الصيرفة المسؤولة، تكتمل منظومة مسؤولية القطاع المالي بأكمله، حيث سبق أن تم وضع مبادئ الأمم المتحدة للاستثمار المسؤول «Principles for Responsible Investment» سنة 2006 ومبادئ التأمين المستدام «Principles for Sustainable Insurance» سنة 2012.