مكثف يسمح لنا بتسجيل استخلاص مزدوج، يتعلق جانبه الأول برحيل آخر «القادة» السياسيين في تونس المنتمين لمشروع الدولة الوطنية التي تكفّلت عبر رافدها الإصلاحي باستيعاب الثورة وتحويلها الى مسار انتقالي بطيء يشمل المؤسسات والقوانين والمجتمع السياسي حتى يكون تعدديا ومفتوحا ومتحرّرا من تركة التسلطية. وحتى إن اعتبرت قراءات يسارية وجذرية أنّ زعامة قائد السبسي لم تفعل غير وقف المدّ الثوري، وبأن مسؤوليته جسمية في تفكّك حزبه، وفي أزمة عائلته السياسية الواسعة، وفى التطبيع مع الثورة المضادة، فإنه يبقي آخر من نجح في توظيف الزّعامة الفردية من فوق لجمع المبعثر ومنع المجهول . فلا باجي ولا بورقيبة آخر ممكن بعد اليوم حتى وإن اجتمع الإنس والجنّ من أجل صناعته لأنّنا نعيش عصر ما بعد البورقيبية، وما بعد الزعامة التقليدية المسقطة. وحتى إن صُنع زعيم آخر فسيتخّذ شكل المهزلة لأن التاريخ لا يعيد نفسه مرتين.
في حين يتعلق الجانب الثاني من الاستخلاص بصعود أوّل زعامة بعد الثورة من المجتمع التحتي لها شرعية الناخبين، ومعبرة عن فضائل الديمقراطية في فتح الطريق أمام كل الناس للوصول الى السلطة. مثل هذه الجسارة الشعبية والاقتدار على الخروج من الهامش وعلى منافسة الصّلف، والمال، ومنظومة الحكم القديمة، و دعاة توريث الوجاهة الرمزية داخل نفس السرايات والعائلات لا تروق لمن لا يقرّ بالثورة و ارتداداتها. وهى صدمة لكلّ من أعماه التوّحد، ورفض أن يرى قدرة المقاومات السائدة والمتعددة على أن تصمد، وتبتكر، وترفع صوتها، وتبرز قادتها الجدد محليا وقطاعيا وتبدع أيقوناتها وتراكم .
و عندما يستمر جزء من النخبة في إنكار الواقع وإنكار ما حدث، فذلك لا يلغي استمرار الصّراع بين رؤيتين متضاربتين، واحدة تستمر في مهاجمة الثورة وألقها وصداها ، وهى مهاجمات بدأت خجولة ومتحفظة ثم مسايرة لخط التوافق ولكنها اليوم قد تسير بالبعض إلى حد الاقتراب من أفظع تعبيرات الفساد والتسلطية والمجاهرة بكرهها الدفين للثورة.
في مقابل هذا الخطّ خطّ آخر غيّبه الإنكار، ووصم بالسّلب، ولكنه استمر تحت مسام الجلد وفي شرايين الجسم الاجتماعي، هو خطّ ثورة الكرامة المجيدة. وهو خطّ تغذي مؤخّرا من مناخات انتفاضات العزة في الجزائر والسودان «الكنداكا» وفي عدد من دول العالم . خطّ «الشعب يريد» لم يلق المنديل ولم يستسلم.
ليس التصويت لقيس سعيد حسب هذا الخطّ الأخير لغزا بل رسالة وثمرة عمل مضن مع من هم تحت ، هنا يصحّ القول أن صعود قيس سعيّد رسالة متعددة الدلالات من اليسير تلقفها من قبل من غادر التحاليل البنيوية والماكروسوسيولجية. وانتبه للجزئي والى خطى السّاخطين يمشون على المسامير سكوتا .
أوّل هذه الرسائل أن الحكم واقتدار الحكم لا ينال بالمال وبخبرة السنوات الطوال في إدارة الأعمال بعقل أداتي ، ولا بنجاح استراتيجيات التسويق السياسي، بل هو يستلزم قيم النزاهة، والصدق، والمتحمّس إلى التغيير الديمقراطي الرّاديكالي. ثانيها ان شتات المقاومات المتنوعة، ومظاهر السخط، والقلق، والحلم بالتغيير والأمل المستمر قابل للتّمفصل في لحظة عاطفية ساخنة محورها الأساسي التمييز بين «نحن» و«هم». وهو التمييز الذي يُفهم منه الفصل بين نقيضين ، بين الثائرين والمغيبين والثورة و الثورة المضادة، و بين أصحاب الأيادي البيضاء والمتخمين وبالفساد المتحصنين من العقاب.
هذا الدّفع العاطفي لتحويل الأستاذ قيس سعيد الى مرشّح كل هذا الشّتات يصدم من لا يفهم سردية الانفعالات والحماس والتلقائية أو من يعتقد أن المشاعر نفسها تُصنع وتُسَوَّق كما يتم ذلك في دنيا الإشهار. لا نقول هذا من أجل حصر تصويت الناخبين لفائدة المرشح المنتصر في دائرة الحماسة والرومنسية بل فقط لنفهم جزءا من فاعلية هذه الحماسة التي ساهمت في انتصاره السياسي. فمن الواضح أنّ تصويت العديدين هنا لا يخلو من تدبّر وتفكير بل من تخطيط لجعل هذا التّرشح قِبلة المؤمنين بالثورة حيثما كانوا. ولأن تكون هذه القِبلة رابطة عاطفية جامعة. هذا التّرشح سيّس المقاومة الحينية التي ارتبطت بتلك التفاصيل الصّغيرة من حياتنا ومن تجربة وجودنا وتلك التي رافقت صرخات الغضب حين يموت الرّضع بدم بارد، وتغرق سفن المهاجرين، وتستمر شاحنات الموت في نقل النساء العاملات إلى المزارع، وحين تعطش القري والمدن، وحين يستمر الفاسدون حيث هم في مواقع نفوذهم وحين يشتدّ إحساس المستضعفين بألم الاحتقار . «ارحلوا» ليس اليوم شعار في مظاهرة واعتصام هو قرار شعبي ديمقراطي تكلم عبر صندوق الاقتراع وليس قفزة في الفراغ بل هو دخول الثورة الى الدّولة بقوة الإرادة العامة .
رسالة سعيد الثانية و المعلنة في خطابه هي أفقية حركة التعاطف والانتماء والتعبئة الما بعد حزبية التي رشّحته وصعدت به إلى هذا المقام. كلّ من وجد في هذا المرشّح جزءا من صوته وصورته انحاز اليه وتخلّى عن احتكاره لنفسه وقبل أن يكون المرشّح صوت غيره أيضا. هذا التفاعل بين صدى الذات وصدى الآخر، اللذين يلتقيان في الخطاب المركّب لنفس المرشح، كان عاملا حاسما في المعركة لأن الفضاء المشترك المتاح الذي وفّرته رمزية الأستاذ سعيّد لم يكن معمارا حزبيا، ولا معمارا أيديولوجيا، ولا هرميا، وليس لخوض معركة صغيرة الحجم ضيّقة الأفق. بل معركة تاريخية الآن وهنا عنوانها كيف نعيد لشباب الثورة ولمهمشيها ولأحرارها ثورتهم المجيدة ؟.
بتعبير أدق لم ينزعج المحافظون الداعمون لسعيد من أن يكون مرشّحهم شريكا في مشروعه لعدد من رموز اليسارالتاريخيين ، وأن ينتخبه أو يلتحق به يساريون وعلمانيون منتصرون له، في المقابل غضّ اليساريون الطّرف عن طيف المحافظة المخيم على الحملة والخطاب، واهتموا بحل التناقض الرئيسي بين مسار الثورة ومسار
الارتداد عليها بقيادة تحالف الحكم . الجامعيون لم يستنكفوا من عامة الناس المشتركين معهم والعكس بالعكس. قوة الشباب الداعمة للرّجل لم تجد صدًّا، ولم تُحتقر، ولم تُنهر بل فجّرت كل طاقتها كما لو أنّ الجميع يضعون ثقتهم في المرشح الذي منحهم الاعتراف واحترام ذواتهم العميقة ، فاذا بالجميع قد انتبه إلى أنّ مشتركا ممكنا بينهم رغم عمق اختلافهم، وأن انتصارهم يفترض هذا اللّقاء بحدس أو بوعي مسبق , غيّب الكلّ تناقضاته الثانوية مع الآخر، وأمسك، عبر رمزية المرشح، بالتناقض الرئيسي بين الثورة والثورة المضادة. وبمطلب مركزي هو رفض الخزي ونشدان الكرامة وانتزاع الاعتراف .
لا نملك اليوم ما يكفي من الموّاد لتحليل هذا السلوك التصويتي لفائدة الأستاذ سوسيولوجيا ، وهو ما سيتوفر في قادم الأيام، ولكن من المهم الوقوف أوّليا عند نتيجتين لانتصار سعيد، أولها انتصاره على منظومة الحكم ومنظومة المال السياسي، ثمّ انتصاره على حملة أو ورثة حلم الثورة المفترضين من اليساريين والديمقراطيين الذين تقاتلوا إلى حدّ الموت الجماعي رمزيا وانتخابيا .
الانتصار الأول يحمل عنوانا مفاده أنّ صوت ثورة الكرامة قد عاد من جديد، والانتصار الثاني، والذي يهمني التّوقف عنده، هو تفوّق سعيد على مرشّحي اليسار لا من جهة كمّ الأصوات بل من جهة تحوّله إلى قِبلة للمصوتين من ناخبي اليسار التقليدي والجديد، ونعني به مصوّتي مجتمع المقاومة التحتي الذي أنكره اليسار التقليدي وترفّع عن بذل الجهد اللازم لفهمه وتغاضى عن زخمه الصاّعد من خارج البني التقليدية الحزبية والنقابية والمدنية .
كيف صوّت ديمقراطيون وديمقراطيات لمرشّح يرفض المساواة بين الجنسين، ويتصادم مع القيم الكونية لحقوق الإنسان، ويحيل إلى المرجعية الدينية قبل القانونية في حسم آرائه ويثير الخوف على المكاسب ؟ كيف صوّت تقدميون لرجل لا برنامج اقتصادي واجتماعي له، ولا رؤية واقعية لديه للعلاقات الدولية؟ كيف صوّت كلّ هؤلاء الرفاق لهذا الرّجل العادي جدّا. هذا سؤال محرج ومحيّر لمن يقتصر على فهم متابعة الشأن العام من خلال وسائل إعلام منحازة، ومحللين أغلبهم منشغلون بمصالحهم أو لا يملكون عُدّة الفهم اللّازمة. أو لمن ظنّ ان قوس ثورة البرويطة قد أغلق .
الثقة، التّخلّي عن النّرجسية الأيديولوجية، البحث عن مشترك ديمقراطي راديكالي عشق الثورة الساكن شغاف روح اليافعين واليافعات , دماء الشهداء التي لا تنسي : تلك هي بعض العناصر التي حرّكت هذا الطّيف من اليسار المساند لقيس سعيد. وهذا الطّيف من اليسار الوطني الحر المجالسي والشبكي والتجريبي ، المؤمن بفاعلية التنظم الذاتي أفقيا لقوى التحرر والانعتاق، مثل هذا اليسار المرافق لسعيّد انتصر اليوم على أطياف يسارية أخرى ألهاها تكاثر الزّعامات ، وهو انتصار يافع وحينيّ ولكنه محمّل بأكثر من دلالة.
هذا الطيف اليساري أعاد إلى الصّراع السياسي البعض من دلالاته الطبقية والأخلاقية بعد أن كاد التوافق ينهي كل صراع، وكادت البراغماتية أن تذهب بكل القيم وتقدم السياسة كسلوك كلبي غاياته تبرر وسائله. مثل هذه الهجرة اليسارية، الهاربة من فضائها الطبيعي نحو قيس سعيّد، لا بدّ أن تُلفت انتباهنا نحن معشر اليسارين فلا نكتفي بسلوك النعامة تجاهها.
لا أشترك مع الأستاذ سعيد في أفكار عدة، وأحلم بتونس أخرى لا تتطابق مع كلّ ما يطرحه وسأستمر في حلمي المغاير بلا خوف من أحد ، ولكنّني أنتفض أمام حملات التّشويه التي تطاله . فهذا المربي الفاضل تدرّج من قاعة الدّرس إلى ساحات الثورة وهو يتقدم عبر صندوق الاقتراع نحو قصر قرطاج شاكرا للثورة وشبابها فضلهما، ويعيد للسياسة نبلها الأخلاقي.
ليس قيس سعيّد أسير مقولة «الإسلام مصحف وسيف» المهزومة ، وليس مرشّح الجهاديين. إنّه مرشح طيف واسع من الناس منهم أيضا يساريون وساخطون وحالمون لا بدّ من تهنئتهم على انتصارهم معه حيث أخفق آخرون. فما يطرحه سعيد من تفكير في آليات الديمقراطية التشاركية و علاقة المركز بالأطراف و محاربة الفساد وآليات المساءلة و المحاسبة والسيادة الوطنية على الثروة الطبيعية والمنتجة .. أفكار جديرة بالبحث.
انهيار البيت اليساري القديم، وانهيار وحدة العائلة الجمهورية الديمقراطية في هذه اللحظة على الأقلّ، في انتظار تركيبة البرلمان , لا بدّ أن ينبّهنا إلى أنّ يسارا آخر بصدد خوض معركة نصف الطريق المتبقية لوصول الرجل النزيه إلى قرطاج. يسارغير نمطي آمن بالمجتمع التحتي، وبالبناء الأفقي، ورفض التوافق المغشوش. وهو جزء من قوة شعبية موّحدة رغم تباينها حول ترشّح سعيد. هذا التوحيد أو هذا التقاطع الراهن يختلف عن سابقيه لأنه انخراط شعبي تحتي، ولأنه، هذه المرة، تحالف غير دفاعي غايته إسقاط الحكومة، بل هو تحالف ينازع على السلطة. إنّ فهم هذه الرّوافد اليسارية المتنافرة والمتمفصلة حول حملة سعيد يعني فهم مسارات الأفراد والديناميات الصّغرى والانفلاتات وقابليتها للتّصادي والتّقارب حين تتحول معركة الكرامة الكبرى الي معركة مشتركة , حتى وإن اقتضي الأمر التظاهر بنسيان عناوين الفرقة. وما الفهم سوى جزء من مهام المناضل، إذ له مهامّ عملية حاسمة خاصّة عند المنعطفات
لذلك فمن يري تونس أخرى أفضل رئيسها للعهدة القادمة قيس سعيد من اليساريين هو اليوم علي حق بل هو لم يبدّل جلدته اليسارية ولا يستحق دروسا من أحد . وهو مدعو غدا الى التفكير داخل عائلته الموسعة في مشروع بديل وطني ديمقراطي شامل.