وكل ما يعرفه عن برنامجه ( ويبدو أنه تم تحفيظه إياه بعد تعب كبير) هو أن ذلك المرشح سيحسّن من أوضاع الناس الاقتصادية ، ويقول عنه بأنه ليس مع السلطة وضد الحرامية الفاسدين!!! ، ويصفه بأنه وطني مخلص.
كان ذلك خلال سهرة مع بعض الأصدقاء ، لم أشأ على غير عادتي أن أتكلّم فيها كثيرا ، رغبة منّي في سبر أغوار ما يختلج في عقل ونفس شريحة اجتماعية هامة لم تتحوّز على مراتب عليا من المعارف والتعليم وينحصر همّها الأول في تحسين أوضاعها المعيشية والاجتماعية .
شعرت بالشفقة على هذا الرجل الذي أعرفه منذ زمن كشخص عادي لا هو فقير ولا غنيّ وغير متعلم حيث لم تصل دراسته لأكثر من نصف المرحلة الثانوية ، في الخمسينات من عمره ، لكنه مهووس بالعمل السياسي وجرّب أكثر من حانوت حزبي.. أشفقت عليه كيف دفعته الحمّى السياسية التي تعيش على وقعها البلاد منذ تسع سنوات للعمل كداعية سياسية وهو شبه أمّي ، وأعتقد أنه لم يحلم أبدا بمثل هذا العمل وهو الذي لم يكن له فيما مضى أي اهتمام أو انشغال بأمور السياسة والسياسيين ..
سألته معتمدا على معرفتي السابقة به واطمئنانه إلي ، إن كان ينتمي حقا لتنظيم ذلك المرشح الذي يدعو الناس للتصويت إليه، أو إن كان يؤمن بصدق الأفكار التي ينشرها، فأجاب أنه لم ينتم في أي يوم لأي تنظيم سياسي، ولا يعرف حتى معنى العمل التنظيمي ، هو فقط سائح سياسي قاعدي يذهب مع من يدفع أكثر .. فقلت له وهل تعرف ذلك المرشح شخصيا، فقال بأنه فقط يسمع من بعض الناس عنه، وأنه رآه فقط مرة أو مرتين على شاشة التلفزيون .. فسألته وما الذي دفعك لمثل هذا العمل ولماذا تفعل ذلك ؟؟ فقال الجميع في البلاد فاسدون، والمرشح الذي اخترته هو أقلّهم فسادا وهو يغدق على مريديه وأتباعه بالعطايا والمال ، وهو يعتبر نصير الفقراء والمحتاجين يوزّع عليهم الصدقات والحسنات بمناسبة وبغيرها..
سألته كيف يقبل مثل هذا العمل الغريب عن حياته، فأجاب أن الحاجة إلى المال تدفعه للقبول بهذا العمل وغيره ، وأنه على الرغم من أنه يجهل كل شيء عن ذلك المرشح ، وليس لديه ما يكفي من المعلومات عن تنظيمه ، وبالرغم من عدم وجود قناعة بأفكاره ومبادئه ، فإنه قبل العمل ما دام ذلك ليس عيبا أو حراما .. وأن الكثير من أمثاله لن يكون بمقدورهم رفض الحصول على مبالغ مالية محترمة مقابل عمل لمدة شهر واحد ، تصل إلى خمسين دينارا يوميا عارضا عليّ الانخراط في اللّعبة معه إن كانت لديّ رغبة في الحصول على بعض الأموال !!!
تركته وأوقفت معه الحديث ، وأنا أرثي لحاله وألعن الزمان الذي يجبر الفقراء وغير الفقراء على الرضوخ لإملاءات أصحاب الضمائر الغائبة الذين يملكون المال ويسخّرون المحتاجين للمال وللمعرفة ، لخدمة أهداف لا يفقهون منها شيء .. وتذكرت حينها ذلك الصديق الذي قال لي إن أتباع أحد التنظيمات الحزبية عرضوا عليه في انتخابات سابقة ، وعلى عدد كبير من الشباب الآخرين مبلغ مائتي دينار ، كي يقفوا يوم الاقتراع كمراقبين ومندوبين عن إحدى قائماته على صناديق الاقتراع .. تذكرت كيف تحدث ذلك الشاب بتهكم واستهزاء عن المرشح الذي سيكون هو ممثلا عنه ، واصفا عمله بأنه لا يتعدى كونه مصلحة مادية فقط .. وكيف قال بثقة عالية بأنه من حقه ومن حق الجميع استغلال موسم نثر الأموال وتوزيع الهبات والمكارم وأن الأذكياء هم فقط من يستطيعون استغلال حاجة المرشحين إليهم في هذه الأيام أحسن استغلال .. فالفرص كما قال لا تتكرر … سألته كيف تقبل العمل لصالح ذلك المرشح وأنت كنت حتى بضعة أيام تصفه بأبشع النعوت ، فأجاب يا حبيبي الدنيا مصالح وما دام هذا المرشح يدفع لنا فلا يوجد ما يمنعنا من العمل معه ، والمسألة كلها دجل بدجل وضحك على اللّحي والذقون.
إنه لأمر عجيب أن تكون كل برامج المرشحين مليئة بالشعارات الطنانة الرنانة ، التي تسهب في الحديث عن ضرورة القيام بعملية إصلاح داخلية جذرية، وعن أهمية تصويب الأداء المالي والإداري ، وعن مكافحة الفساد المستشري في مؤسساتنا الوطنية الحكومية وغير الحكومية ، والمدهش أن كل البرامج تستفيض في الحديث عن قيم الفضيلة والاستقامة والنزاهة والشفافية ، والحريات الشخصية والعامة وعن التضحية والفداء والعطاء … وفي نفس الوقت وعلى أرض الواقع ، نرى أن الانتخابات التي عملنا كل ما نستطيع من أجل إجرائها في مواقيتها الدستورية ، تتحول على أيدي بعض المرشحين إلى أداة لترسيخ قيم أخرى رديئة ونتنة ، ويتدخل المال ليمارس سطوته بأبشع الصور ، حيث يتم استغلال حاجة الفقراء والعاطلين عن العمل - المسلوبي الإرادة بفعل الحاجة - ليتم استعبادهم وتحويلهم إلى أناس مأجورين ، مكرهين على القيام بأعمال الدعاية لمرشحين مقابل القليل القليل من المال ، ويتم تضليل الجماهير بوعود تحسين أوضاعها الحياتية ، أو بإشاعة أجواء الخوف والقلق بينهم تجاه أمنهم الوظيفي ومستقبل أعمالهم بل وأمن بلدهم .. وترتفع وتيرة الإنفاق المالي الضخم على أغراض الدعاية في ظل الوضع الاقتصادي الحرج الذي تعيشه الجماهير.. إن كل هذه الأعمال تسهم في الإساءة إلى جوهر العملية الانتخابية ، باعتبارها الأداة الديمقراطية للتغيير ، وتقتل كل القيم النبيلة السامية ، وتتعزز عقلية السوق التي تعتبر كل شيء سلعة قابلة للشراء، وتقتل روح التضحية والعطاء ، ويتم المساس بكرامة الإنسان التونسي وشموخه واعتزازه بذاته ليصبح ضعيفا متسوّلا أمام أصحاب رؤوس المال وتجار المبادئ والوطنية.. إن هذه الأساليب الرخيصة أسهمت وستسهم في إفساد الضمائر الحية وستنزع الثقة كثيرا من مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ، مثل الحق في التعبير والحق في التنظيم والحق في الاختيار الحر، وستعمل على تلويث الأفكار وحتى البشر..
وفي النهاية يمكن القول إنه من المؤكد أن الانتخابات إذا لم تتم المسارعة إلى تصويب مسارها، وممارسة رقابة حازمة عليها وخصوصا على مصادر تمويلها ، ستنقلب من أداة للتغيير إلى أداة للإفساد ...