إمضاء عملاق الاتصالات الصيني «هواوي».. أعراضه الترامبية تتمثل فى حالة القلق والاضطراب الشديدين عند اتخاذ القرارات نتيجة خوف داخلي رهيب من فقدان التفوق فى المجال الرقمى.. سندروم أقحم العالم فى مرحلة متفردة من العلاقات الدولية وصّفتها فى مقالي السابق بالحرب الباردة الجديدة فى نسخة رقمية.. «أرضها الموعودة» شبكة الانترنات و«أحبارها الكبار» les grands rabbins العمّ سام والتنين الصيني والدب الروسي...
من الأعراض «الهواوية» البادية للعيان للرئيس ترامب، إصداره لمرسوم ناري يحجّر على جميع الشركات الأمريكية التعامل التجاري مع «هواوي» لما تمثله من خطر للأمن القومي ثم وبسرعة التراجع عن التنفيذ الفوري للمرسوم بمنح هواوي فترة إمهال بـ90 يوما كاملة ! وتوجّهه للصحفيين بالقول بأنّ «هواوي شيء خطير للغاية. عندما تنظرون الى ما فعلوه من وجهة نظر أمنية، من وجهة نظر عسكرية، تجدون أنه خطيرا للغاية» ليتابع مستدركا فيما بعد «لكن من الممكن أن يتم تضمين هواوي في اتفاق تجاري. اذا توصلنا لاتفاق، فانا أرى هواوي مدرجة فيه بطريقة أو أخرى»!
بالعودة قليلا الى الخلف، فالتحرّش الامريكى بالشركات الصينية الرائدة فى مجال الاتصالات لم يكن وليد اليوم بل تزامن مع تقرير لجنة استخباراتية تابعة لمجلس النواب الامريكى سنة 2012 تضمّن حينها «أن شركتـــي هـــــواوي وZTE يمكنهما اعتراض الاتصالات وشنّ هجمات الكترونية على البنية التحتية الأمريكية كشبكة الكهرباء...»، كما حذّر مدراء وكالات الاستخبارات الأمريكية الستّ لدى استجوابهم أمام الكونغرس السنة الفارطة المواطنين والشركات الأمريكية من استخدام معدّات وتطبيقات هواوى.. وفى سنة 2017 تعرّض عملاق الاتصالات الصيني ZTE الى عقوبات أمريكية مالية مؤلمة من أجل خرقه للحظر الامريكى المفروض على إيران.. ليتواصل مسلسل مطاردة السحرة بإيقاف المديرة المالية وابنة الأب المؤسس لهواوي بمدينة Vancouver الكندية قبل ان يفرج عنها بكفالة، والبقية تأتى...
بما تفسر هذه الفوبيا الترامبية من شركة صينية صاعدة فى مجال الاتصالات لا يتم الى اليوم تداول أسهمها في أي بورصة للأوراق المالية في العالم على غرار عمالقة الواب الصينيين التقليديين ؟ لمَ لم يتم التحرش بعملاق التجارة الإلكترونية الصيني Ali Baba على سبيل المثال الذي تداول أسهمه فى أكبر بورصة فى العالم NYSE؟ ألم يكن الجيل الخامسG5 مجرد القطرة التى أفاضت الكأس لا غير؟
أكيد أنّ فى الأمر سرّا - يتجاوز مجرّد الصعود الصاروخي «لهواوي» فى التصنيفات والترتيبات الدولية - سنحاول تعقب تفاصيله قدر الإمكان...
أولا: اتهامات أمريكية موجهة للأب المؤسس Ren Zhengfei ورئيسة مجموعة هواوي Sun Yafang.
تأسست شركة هواوي رسميا سنة 1987.. مقرّها الرئيسي يوجد بمنطقة Shenzhen الاقتصادية جنوب البلاد التي تعدّ من أبرز عناوين نجاح سياسة الانفتاح الاقتصادي للصين بقيادة الزعيم السابق Den Xiaoping.. تتصدّر «هواوي» دون منازع مقدّمة قطاع المعدّات الإعلامية فى العالم والثانية فى حجم مبيعات الهواتف الذكية قبل العملاق الامريكى Apple.. تشغّل أكثر من 270 ألف موظف داخل وخارج الصين ولديها أكثر من عشرين مركز للبحوث والتطوير فى مختلف أنحاء العالم.. مؤسّسها Ren Zhengfei عقيد سابق بجيش التحرير الشعبي APL وعضو نشط بالحزب الشيوعي الصيني الى اليوم.. متحصل على شهادة فى الهندسة المدنية من جامعة Chongqingالشهيرة.. عمل فى بداية مشواره
بأحد المعاهد البحثية العسكرية قبل ان يتم ترشيحه بمناسبة الندوة الوطنية للعلوم سنة 1978 كمندوب لجيش التحرير الشعبي، خطة لا يحظى بها إلا المقربون من القيادة الصينية انذاك.. زوجته الأولى Meng Jun ابنة أحد كبار القادة النافذين فى جيش التحرير الشعبي الصيني .. مولع الى حدّ الهوس بكتاب «فنّ الحرب» للاستراتيجي العسكري الصيني الفذّ Sun Tsu .. يتمتع بعلاقات مميزة مع الزعماء الصينيين المتتالين بمن فيهم رجل الصين القوى الرئيس الحالي Xi Jinping .. وفى معرض تعليقه على علاقته القوية بالحزب الشيوعي واتهام شركته بالتجسس لصالح السلطات الصينية أجاب Ren Zhengfei بشكل مشفّر « أنا أحب بلادي، وأدعم الحزب الشيوعي لكن لم أسع مطلقا الى الإساءة الى بقية العالم» ...
أما رئيسة مجموعة «هواوى» Sun Yafang - المصنفة سنة 2016 من بين الخمسين امرأة الأكثر نفوذا فى العالم من مجلة فوربس الأمريكية - فان العديد من التقارير الصادرة عن «وكالة الاستخبارات الأمريكية» تؤكّد بأنها كانت تعمل بوزارة أمن الدولة (MSS) Ministry of State Security قبل ان تلتحق «بهواوي»، ولاتزال تحافظ على علاقات وثيقة مع هذا الجهاز...
ومن بين الشبهات التي لاتزال تتردد الى الآن حول علاقة هواوى بجهاز الاستخبارات الصيني MSS الدور المحوري الذي لعبته هواوي عند تصميم وتطوير «الجدار الناري الكبير للصين» Le grand firewall chinois إبّان فترة الرئيس Juan Zemin، مشروع صمّم بغاية فرض الرقابة الشاملة على البيانات والمعلومات المتبادلة داخل الشبكة ...
ثانيا: توجّس أمريكي كبير من سياسات «هواوي» فى مجال البحث والتطوير
وفق تصنيف أعدّته المفوضية الأوروبية للشركات الأكثر استثمارا فى العالم فى مجال البحث والتطوير لسنة 2018، احتلت «هواوي» المركز الخامس فى الترتيب العام من بين أكثر من 2500 شركة ضخمة، باستثمارات ناهزت 11,33 مليار أورو.
على امتداد العديد من السنوات، أنشأت «هواوي» قرابة 26 مركز للبحوث والتطوير تغطي جميع مجالات تكنولوجيا الاتصال والذكاء الاصطناعي.. تشغّل عشرات الآلاف من المهندسين فى علوم الحاسوب و700 مختص فى الرياضيات و800 فى علوم الفيزياء و120 مختص فى الكيمياء.. كما تمتلك «مركز للبحوث الإستراتيجية» مهمته الحصرية استقطاب نخب العالم فى المجالات العلمية الحيوية خدمة لمشروع الزعيم الصيني الجديد في قيادة العالم رقميا بحدود منتصف هذا القرن (يصادف هذا التاريخ الاحتفال بمرور مائة سنة على اندلاع الثورة الصينية سنة 1949)...
من مجموع براءات الاختراع les brevets d’invention المودعة على المستوى الاوروبى تحتل شركة «هواوي» المركز الأول كما تستأثر بنسبة 27 بالمائة من براءات الاختراع ذات العلاقة بالجيل الخامس من الاتصالات عبر الموبايل متقدمة على بعد سنتين أو ثلاث عن منافسيها المباشرين Samsung - Nokia - Ericsson ...
فى نفس المنحى، عمدت «هواوي» فى السنوات الأخيرة الى تكثيف روابط الشراكة بينها وبين العديد من جامعات الشمال والجنوب (بالمناسبة أبرمت «هواوي» اتفاقية شراكة لمدة ثلاث سنوات مع إحدى الجامعات التونسية الخاصة موفى سنة 2017 بموجبها تم بعث أكاديمية تابعة لهواوي).. استراتيجية ذكية كفيلة بأن تحقق لهواوي في المنظور المتوسط والبعيد إشعاعا واسعا في الأوساط الأكاديمية والعلمية فى العالم واستدامة أكبر لمنتجاتها فى مستوى الترويج والتجديد التكنولوجي...
من الملفت للانتباه أيضا أنهّ منذ انبعاثها، تنتهج «هواوي» إدارة تشاركية فى توزيع رأس مالها بحيث يمتلك الأجراء غالبية الحصص الاجتماعية، نموذج أثبت نجاعة عالية منذ أكثر من 25 سنة، وأمسى مصدر إزعاج للعديد من دوائر التفكير الأمريكية، فكيف يمكن لحوكمة تشاركية ان تنجح بهذا الحجم السريالي خارج المفاهيم النيوليبرالية المتوحشة ؟!
بمختصر الحديث، من الواضح أنّ حقيقة المخاوف الاستراتيجية الأمريكية المعبّر عنها «بسندروم هواوي» تتمحور أساسا حول مخاطر توظيف السلطات الصينية للخبرات الكامنة والرهيبة لهواوي باتجاه دعم وتطويرا قدرات الجيش السيبرني الصيني المعروف باسم «الوحدة 61398» المتخصّصة فى الحرب الالكترونية، خاصة وأنّ العالم على أبواب ثورة «انترنات الأشياء» Internet des objets التي لا تعرف الأخضر من اليابس !