وأعتقد أن هذا الملف لا بد أن يخرج من التوظيف السياسي البدائي من جميع الأطراف، لأن هذا الملف يتجاوز المعطيات التاريخية الآنية والظرفية ويطرح العديد من الأسئلة التي لم نجد لها إجابة ثابتة إلى اليوم وتبقى غالبا مؤشرات غير متكاملة لفهم هذا الملف بمختلف جوانبه ، وما أكتبه اليوم ضمن هذا المقال تحاورت فيه سابقا مع زوجة الفقيد قبل وفاتها.
- أولا: تونس عرفت بعد الاستقلال كالعديد من دول العالم الثالث صراعا بين المعسكر السوفياتي والمعسكر الغربي لإكتساب هذه الدول المستقلة حديثا ضمن إستراتجيتة في الصراع الجوسياسي بين المعسكرين(الحرب الباردة) وفي هذا الإطار بالذات كان جمال عبد الناصر يبحث عن ترويج وجهة نظره في هذا المجال حيث كان يعتقد أنه من الأفضل أن تتحالف دول العالم الثالث والدول العربية خاصة مع المعسكر السوفياتي وأقنع جزئيا بهذا الطرح كلا من أحمد بن بلة وصالح بن يوسف
ولكن جاء هذا التوجه متأخرا بالنسبة إلى تونس حيث إختار الحزب الحر الدستوري التونسي منذ الخمسينات، أن ينتمي إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة ، وكانت قيادة الحركة الوطنية تعتبر أن مقاومة فرنسا تحتاج إلى قوة دولية قادرة على التأثير والضغط عليها حتى تتخلى على استعماراتها.
وكما هو معلوم اغتنم بورقيبة فرصة التقارب بين الإتحاد العام التونسي للشغل والكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة (CISL) لمرافقة فرحات حشاد وأحمد التليلي إلى كل من سان فرانسيسكو وميلانو لتوظيف هذا الرابط من أجل قضية إستقلال تونس ومن خلاله بنيت تدريجيا علاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة بداية من سنة 1952 ولم يقع رفضه أو نقده من طرف قيادة الحركة الدستورية ولم تقع معارضته من زعمائها بدون إستثناء بما في ذلك الفقيد صالح بن يوسف.وفي هذا الإطار يظهر موقف صالح بن يوسف سنة 1955 /1956 مخالفا نسبيا للتوجه المذكور حيث أعلن تقاربه مع الأطروحات السياسية التي إعتمدها جمال عبد الناصر في مقاومة الإمبريالية.
وكان هذا الموقف غير منسجم مع موقف بورقيبة والإتحاد العام التونسي للشغل إذ كانا يعتبران تموقع جمال عبد الناصر لا يخدم القضية الوطنية و العمل النقابي الحر وهو يمثل تداعيات إيديولوجية بدون جدوى وغير منسجمة مع أهداف الحزب الحر الدستوري التونسي الليبرالي.
إن هذا التباين في التموقع السياسي في ظل الصراع السوفياتي الأمريكي كان أول مصدر خلاف حقيقي بين الرجلين بورقيبة وبن يوسف.وإنني أعتبر أن نوعية هذا الخلاف أهم من الصراع الداخلي حول آليات كسب الإستقلال (من خلال المعركة الشاملة أو في مراحل ).
وذلك لأن هذا التباين يتجاوز شخصيتي بورقيبة وصالح بن يوسف لأنه يتجاوز الاشخاص ويخضع إلى ضغوطات إستراتيجية عالمية تقيد السيادة الوطنية الحديثة وتجعلها تابعة للقطب الشرقي أو القطب الغربي ويبقى بالتالي مصيرها مرتبطا بمدى تفاعل هذا القطب أو ذاك مع الحاجيات الإقتصادية للدول الناشئة..
إن إختيار صالح بن يوسف التحالف مع جمال عبد الناصر ودعم توجهه لم يكن مبنيا على مرجعيات فكرية وإيديولوجية قد عبر عنها سابقا في مواقفه السياسية وهي غير معروفة من طرف رفقائه وأصدقائه، الأمر الذي جعل الصراع بين الرجلين يلخص في صراع ذاتي أناني سلطوي.
- ثانيا: إن علاقة صالح بن يوسف بالمنفى مع جمال عبد الناصر لم تكن واضحة حيث تبين أن هذا الأخير عاش في مصر في حالة نفي لا يتمتع بالحريات الضرورية التي تمكنه من تعاطي أي نشاط سياسي وأي تنقل من مكان إلى أخر إلا بإذن مباشر وإستثنائي من طرف جمال عبد الناصر. وكانت هذه الظروف الصعبة لم يمكّن صالح بن يوسف من بناء نظرية فكرية بديلة واضحة المعالم لمعارضة البورقيبية وقد أكدت لي ذلك زوجة الفقيد.
هذا الوضع يجعلنا نطرح الأسئلة التالية : كيف ولماذا غادر صالح بن يوسف مصر وهل بموافقة جمال عبد الناصر أم لا؟ بجواز سفر تونسي أو مصري ؟ولماذا كان الإتجاه نحو ألمانيا الفيدرالية علما أن هذه الدولة كانت آنذاك على أبواب الإعتراف بدولة إسرائيل وتمر بأزمة حادة مع جامعة الدول العربية التي طالبت بمقاطعة العلاقات الدبلوماسية معها. ولماذا إستقبلت ألمانيا صالح بن يوسف، وكيف تم إستقباله وبأية صفة بصفته الشخصية أو كزعيم تونسي معارض لنظام بورقيبة. يناضل من أجل مواصلة ثورة الاستقلال بجانب الشعب الجزائري؟ أو كمواطن مصري جاء إلى ألمانيا الفيدرالية لأسباب صحية دون ذلك؟ وكيف كان موقف المخابرات المصرية؟ هل إهتمت بمرافقة وحماية بن يوسف أم لا؟ وفي كلتى الحالتين
السؤال يبقى مطروح:هل شن خلاف بين صالح بن يوسف وجمال عبد الناصر. الأمر الذي جعل وجود صالح بن يوسف بدون حماية في ألمانيا وخاصة في تلك الظروف التي تعرف أزمة ديبلوماسية خانقة بين ألمانيا الفيدرالية والدول العربية أدت إلى قطع العلاقات بينهما(إعتراف ألمانيا الفيدرالية بإسرائيل وتشجيع بقية الدول الغربية الأوروبية على ذلك، شرط من شروط الإنضمام للإتحاد الأوروبي). أما السؤال الثاني فيدخل من خلال هذه الظروف الغامضة.
ومن خلال هذه الظروف الغامضة يطرح سؤال ثالث ، لماذا لم تأخذ المخابرات المصرية الإجراءات الكفيلة بحماية صالح بن يوسف مع العلم أنه مستهدف جسديا من طرف (بورقيبة)؟ وهل تمت إتصالات سرية بين جمال عبد الناصر وبورقيبة في ما يتعلق بوضعية صالح بن يوسف؟ ولماذا لم تأخذ المخابرات المصرية كل الإجراءات الضرورية حتى تمنع كل محاولات إغتياله. كل هذا الغموض يجعلنا نتساءل هل أبرم إتفاق سري بين جمال عبد الناصر وبورقيبة للتخلص من صالح بن يوسف؟
وأخيرا من خلال دراستي لبعض الملفات حول الإغتيالات السياسية وما قرأته من بعض رسائل والدي أحمد التليلي الذي يصف فيها ملاحقته من أطراف مجهولة تعمل على إغتياله إنه لا يمكن إطلاقا أن يكون إغتيال صالح بن يوسف وبقية الإغتيالات التي تمت في الخارج بالنسبة لزعماء الحركات الوطنية الجزائرية والمغربية، بن بركة كريم بالقاسم خذر .... أن تكون صادرة من طرف واحد حيث تتم دائما هذه الإغتيالات باشتراك مع مخابرات محلية وأخرى أجنبية معنية أو حتى في بعض الحالات مخابرات تعمل لصالح الدول العظمى.
ولذا أطلب من كل المؤرخين والباحثين أن يواصلوا العمل لكشف حقيقة كل خلفيات هذا الإغتيال دون الوقوع في السرديات الإيديولوجية والسياسية.