هي الأستاذة منية محمودي على صخرة في ساحة القرية المنسية المغيلة بعد فاجعة السبّالة لتخطب في الناس و ترفع غطاء تستعمله المرأة الريفية فوق رأسها طيلة ساعات الكدّ أو لحماية رضيعها لتتحوّل دلالة قطعة القماش مما كانت تعنيه سابقا في سيميولوجيا التواصل الاحتفالي إلى ما صارت تعنيه في سيميولوجيا التواصل بعد الموت القاسي لنساء خرجن قبل الفجر بحثا عن لقمة عيش يؤثرن فيها أبناءهن وربما آبائهن وأمهاتهن وأزواجهن قبل أنفسهن .
مرة أخرى تصنع عفوية الجمهور الغاضب والمنتفض والحزين رمزية لمقاومة لا تقدر بثمن مرة أخرى تصوغ حساسية التعبير الشعبي سرديتها المقاومة.
«التقريطة» كما «الكردونة» وقبلهما «البرويطة» وغيرها من الرموز المبتكرة الأخرى للمقاومين وللمقاومات تقطع بنا خطوات جديدة في معركة المعنى التي نخوضها، ومعركة المعنى والدلالة هي واحدة من المعارك التي تستطيع فئة قليلة ان تنتصر فيها على من يفوقها عدة وعتادا لأنها تخترق الوحدة الصماء للتّسلط وتنتج المعاكس والمختلف وغير المتوقّع مخياليا ثم واقعيا لأن معنى الأشياء ليس في الأشياء بل في ادراكنا لها وفي نفاذها الى وجداننا.
فالترميز ملكة إنسانية متألقة قد تساعدها سياقات الانتروبولوجيا والسياسة والمأساة والألم أن تصير طاقة انبعاث حيوية لأجيج الغضب ولقوة التحدي فديناميكية كل طاقة تظهر للوجود من خلال الدلالات ونحن في محصّلة القول لا نتعامل مع الوقائع كما لو كانت ميّتة بل من خلال نظام رمزي والنظام الرمزي المبتكر يقلب العلاقات القديمة بين الدال والمدلول لينشئ علاقة جديدة.
في هذا المجال استطعنا ان ننتصر على التسلطية مرتين مرة حين ابتكرنا الرمز فصار جسرا بيننا وبين أنفسنا وخط الفصل بيننا وبين خصومنا ومرة أخرى حين لم نتوقف عن ابداع الرموز فكأن إرادة عليا لا تريدنا ان نستسلم لميزان القوى المادي المختل وتوقظنا على تفوقنا الروحي.
ولان الجماهير تقدر على ان تبدع وتعرف ما تريد وتستطيع الكلام أفضل من المثقفين أنفسهم خاصة حين يصرّون على احترام قواعد المشهدية السطحية. لقد أنتجت هذه الجماهير سيلا من الرموز سنقف من بينها على ثلاثة أمثلة هي بمثابة مثلث ابداع متخيل رمزي لا يزال حيا منذ شرارة 17 ديسمبر.
المثال الأول هو فاتحة الملحمة «البرويطة» في إشارة الي عربة البوعزيزي والتي تحولت من وصمة تلاحق قاطن الريف وساكن الهوامش المقصي في عالم التسوق المعولم المادي والافتراضي الى مكمن كرامة لمن تشبث بالحياة الى درجة أجبر معها على صهد جلده حتى الموت رفضا للإهانة ولفتا لانتباه العالم نحو جسده المحترق وعربته الباقية. الساخرون من الثورة او المنقلبون عليها مؤخرا وأعداؤها الأولون يستهجنون البرويطة فهي معرة للمجتمع المديني وللشارع السياحي والنموذج المجتمعي النمطي على الرغم من ذلك استمرت البرويطة طوال السنوات الأخيرة في الإحالة الى ابعد من حضورها المادي فغدت عند المنصف الهوايدي بائع الهندي المتجول والمثقف العصامي عنوان تمرد وهوية. وهي الى اليوم تنتصب في الأمكنة التي تريد لتبيع الخضر أو «الكسكروت عياري» أو الملابس القديمة أو تجرّ قوارير البلاستيك التي يجمعها «البرباشة» من القمامة.. هي اليوم ليست مكمن إهانة بل علامة على انغلاق منظومة الإنتاج. ورمز حضور المقصيين على تخومها وهي عند سكان الدواخل والمهمشين بوصلة انتماء وهوية جماعية لا تزال تشحن الارادات المشتتة المعتزة بالثورة
المثال الثاني هو «الكردونة» بعد ان كشفت الدولة مدى احتقارها لشعبها وهي تقدم لعائلات مكلومة رضّعا لدفنهم بعد أن ماتوا في مؤسستها الصحية بسبب اهمالها و منذ ذلك التلقي المادي للاحتقار المرّ استخدمت «الكردونة» كرمز للتشهير في عدة حملات شبابية وفي دخلة الباك سبور في عدة معاهد, هذه الرمزية جعلت من معركة الحق في الصحة والحق في الحياة ومعركة الاحتجاج ضد سياسات حكومية أنهكت الشعب معركة جماهيرية وخاصة معركة شبابية فهي جزء من الأدوات التي صارت مستخدمة في نقلة الوعي المواطني وفي درجة اهتمامه بحقوقه التي هي ليست فقط نصوصا خالية من مضمونها بل حقوقا مادية تنتزع في الصراع وبالصراع بين مجتمع يريد دولة عادلة وحكومة تتبنى التصور الأيديولوجي النيوليبرالي للدولة اللاّ - اجتماعية، فما أحقر مثل هذه الدولة وما أروع المقاومة.
المثال الأخير الذي نتوقف عليه أكثر هو «التقريطة» وهي اليوم تتقدم لأخذ مكانها في سرديات التعبئة المقاومة للضيم والإحساس بالغبن ولعلنا نقف منذ أيام قليلة عند الثراء الذي خلقه هذا التحويل الدلالي للرمز المبتكر في الساحة العامة والخطاب الذي رافق ولادته مؤكدا استطاعة المنسي الكلام بطاقة محرّرة .
فالرمز رابطة جماعية مبتكرة أيقظت مجتمع الذكورة في الساحة العامة على ما في عطاء المرأة الريفية من معنى وقوة مكابرة قلبت معادلة التفوق الجائرة بين مجتمع ذكوري مرئي معترف به ومجتمع النساء المخفي والمنسي فالضحية هذه المرة امرأة والمتحدّثة من فوق الصخرة في مغيلة امرأة وصانعة الرمز امرأة والرمز ذاته كان كما السيف في غمده مؤنث منذ قرون قبل أن ينتفض ماردا متمردا.
استطاعت هذه المرأة ان تحوّل حزن الفراق بعد حادثة الموت الى لحظة قادحة لابتكار الرمز الذي لا يموت بل ينتفض ويسري في شرايين الحياة الباقية ليلهم الشّاعر والمعتصم وقريبا مغني الرّاب ومجموعات الالتراس في الملاعب والسينمائيين والمسرحيين ...
أنه عنوان الوصية الحية الى الفتى ينتظر أمّا لن تعود بنصف رغيف يسد به رمقه قبل السير نحو مدرسة الجمهورية البعيدة عن مرقده الصغير هو الوصية التي يتربى عبرها على احترام النساء والثورة على الفقر والخزي التقريطة اليوم مفخرة الرجال قبل النساء بل أمكن القول إنها عنوان تفوق العطاء النسوي الصامت على فحولة صاخبة ومسلوبة الكرامة.
التقريطة في مدلولها المبتكر هي كذلك ثورة جديدة في معنى غطاء الرأس فهي ليست السفساري الذي عرفت به المرأة الحضرية في تونس وليست الحجاب الذي جاء مع تنامي حركات الإسلام السياسي الاخواني فهي لا تعني حجب جسد المرأة عن غرائز الرجال في ذهنية التحريم وفي منظومة فقه قديمة ترى المرأة مكمن شهوة غرائزية لا غير. هي اليوم عنوان تحررها الاجتماعي والطبقي فشرف غطاء الرأس صار علامة تجلي أي أصبح حمل التقريطة إعلانا لحضور الجسد المنهك للمرأة الكادحة ولفت انتباه الابصار له كجسد هش ضعيف يكابد ويقتلع مقوّمات بقائه من معاناته. هو كذلك ثار للتقريطة التي كانت لدى البعض موضوع وصمة وتهكم واحتقار في المجتمع المديني الحضري لتغدو رمزا يتعدى حدود المكان.
هذا الرمز هو اليوم عنوان تمرّد نسوي على سياسات التحالف الحاكم الليبرالية ذات الكلفة الإنسانية المجحفة يدفع الى تحويل الفاعلية النسوية شعبيا الى هذه الأرضية الاجتماعية والاقتصادية.
ليصبح حينها مكمن الشّرف في تقريطة العاملة لا ديني فهي أداة علمنة كاسحة وتحتية قادرة على الانتشار والتفوق لأنها رمزية لجسد الفقيرة والمنسيةّ ومؤجّجة لعاطفة الانتماء للمنسيات وراية جديدة في ساحات المعركة المستمرة من أجل الكرامة. نحن حقيقة في حضرة نسوية اخرى ليست أورومركزية هي نسوية ما بعد استعمارية تنحت في صخر واقعها هويتها المادية وتبدع من مخزونها الثقافي أدوات انعتاقها الرمزي.
الفاجعة بينت أيضا بعد تصريح مسؤولة حكومية سابقة برودة السياسي وهو يقف أمام الحدث فيجد الوقت الكافي للتفكير في مقتضيات كلفة الإنتاج التي تدفع نحو هذه العمالة وهو ما يؤكد ماهية الصراع اليوم بين رؤية ليبرالية للإنسان والاقتصاد ورؤية إنسانية عادلة .
فالعقل الحسابي الاقتصادي الهادف عموما لدى الليبراليين الجدد الى تخفيض كلفة الإنتاج من خلال جعل القيمة المنتجة اقتصاديا فوق قيمة الانسان نفسها بل هي تضحي به حين يتحوّل تعليمه وعلاجه وتنقله مكلفا وتتركه لقوانين السوق الجائرة مثل هذه العقلانية تقبل استغلال النساء كما برّرت سابقا استغلال العبيد في مزارع كبار الفلاحين في أمريكا وجنوب أفريقيا ولا تزال تبرّر إلى اليوم استغلال العمالة الأجنبية في دول الخليج والنساء والأطفال في الهند وعدة دول آسيوية.
من هنا تصبح هذه الرمزية المتخلية والمروية دافعة للتعبئة ولاحتجاجات لا حد لها نابعة من تحت وستسكن الذاكرة وستغذي المخيال الجماعي لقوى الانعتاق حتى لا يتحول الغبن الى إحساس دفين بالدونية قد ينفجر عنفا مدمرا.
للفلسطينية كوفيتها توشح صدرها وللشيّاباسية المكسيكية منديلها الأحمر وللأرجنتينية قرع وعاء الاكل في الشارع وللفرنسية أخيرا سترتها الصفراء ولنا بعد موتهن شهيدات الخبزة «تقريطة دادة» ولنا رموز أخرى قادمة .. فهل نحن بهذا شعبويّون أم جزء من قوى مجتمعية عالمية حيّة ترفض الهزيمة ؟ التقريطة توصيكم ان تحذروا الاعتدال في طلب الحق وان تستمروا ساخطين وأن ترفعوا رؤوسكن ورؤوسكم. فالتقريطة هي راية الحرية القادمة تخرج من عمق الماضي ومن عمق آلام الناس. ضموّها الى صدروكم ستتنشقون عبق الحرية كل صباح .