ما بعد «معسكر الرقاب الطالباني»: الجمعيات ملف أمن قومي بامتياز !

بقلم: محجوب لطفي بلهادي
جامعي وباحث فى التفكير الاستراتيجي

1) السّياقات والحيثيّات
( Le contextuel & l’argumentaire)
فى إعادة تشكيل ارادى وممنهج لمفردات السلطة ما بعد 14 جانفى 2011 عمدت بعض الدوائر الخارجية المتنفذة فى الداخل الى تسليم مفاتيح المدينة بالكامل الى كيانات سياسية وعقائدية وحقوقية هجينة يحوم حول عدد منها الى اليوم سيل من التحفظات والشبهات.. فكانت النتيجة الحتمية حينها فقدان الدولة لجسمها المناعي المتمثل فى حلّ جهاز "أمن الدولة" عوض العمل على تصويب مساراته الاستعلامية وتكاثر خلوى غير مسبوق une prolifération cellulaire sans précédent لعدد الجمعيات متجاوزا عتبة 22 ألف جمعية فى مستهل هذه السنة الجديدة بعد ان كان فى حدود 8 ألاف فقط سنة 2010 أي بزيادة تقارب ثلاثة أضعاف وبمعدل وطنى قياسي يناهز جمعية واحدة عن كل 540 مواطن ؟ ! فمن نظام الترخيص المسبق قفزنا دون أجنحة أو المرور بمرحلة وسيطة الى نظام التصريح الحرّ والمفتوح من خلال اصدار مرسوم الجمعيات عدد 88 لسنة 2011 ...

• وحيث:
- أن الكشف عن «معسكر الرقاب الطالباني» يشكّل فقط «الجزء المرئي من جبل الجليد» uniquement la partie visible de l’iceberg وما خفي كان أعظم...
- أنّ المشهد العام يشوبه الكثير من حالات الانتصاب الفوضوى والتداخل بين مختلف الفاعلين بفعل حرب «المقاطعات» و"الكنتونات"الوهمية والخاسرة...
- أنّ جميع المراحل الانتقالية المقارنة دون استثناء وبدرجات متفاوتة عرفت حالات من التجاذب وحتى التناحر السياسوي بين مختلف القوى المتحزبة والمستقلة للظفر بكعكة السلطة المغرية القابعة فى مكان ما ...
- أن عدد الحكومات التي تداولت على «كعكة السلطة» قضما والتهاما فى السنوات الثماني الأخيرة تجاوز العشر حكومات والبقية تأتي وما يعنيه ذلك من مساس مباشر بمبدأ حيادية العمل الرقابي على الجمعيات.. فمن وصاية وزارة الداخلية السلطوية التي تواصلت لعقود طويلة تم وضع ملف إدارة الجمعيات تحت وصاية أحزاب السلطة ذاتها الموجهة للسياسات الترتيبية والعمومية للبلاد ...
- أنه اتّضح بما لا يدع مجالا للشكّ من التقارير الصادرة عن عدد من الأجهزة الرسمية للدولة أن قسما من النسيج الجمعياتي يستخدم كواجهة لتمويل الأحزاب السياسية بشكل مقنع ومنها أيضا من عليه شبهات جدية فى تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ينبغي التذكير فى هذا الصدد، بأنه تم إدراجنا من قبل البرلمان الاوروبي بتاريخ 07 فيفري 2018 فى القائمة السوداء لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.. وانه منذ ذلك الحين أصبحنا نترنح بين مطرقة الاتحاد الاوروبي وسندان مجموعة العمل المالي GAFI...
- أن هناك قناعة عامة بأن غياب حكامة رشيدة للجمعيات بات يهدد بإسقاط المسار الانتقالي برمته بعد أن ساهمت فى إرباكه أيّما ارباك من داخل وخارج صناديق الاقتراع وكهوف «طورا بورا الشعانبية»...

• • وحيث أيضا:
- أنّنا فى حرب مفتوحة على الإرهاب مما استوجب وضع البلاد فى حالة طوارئ ينظمها الفصل 80 من الدستور المتعلق بإعلان الحالات الاستثنائية وأحكام الأمر عدد 50 لسنة 1978 بالخصوص ...
- أنّ قرار التمديد فى حالة الطوارئ يصدر عن رئيس الجمهورية بصفته رئيسا لمجلس الأمن القومي وذلك بعد التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب...
- أنّ هناك شبه إجماع من لدن المختصين فى القانون العام أنّ مرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظم للجمعيات يتضمن العديد من الثغرات مما يسّر عملية تطويعه توظيفا واختراقا من العديد من الجهات المعلنة والخفية...
- أنّ منطوق الدستور (النص الأعلى فى تراتبية هرم «كلسن» الشهير) فى الفصل 77 نص صراحة على تولّي رئيس الجمهورية لرئاسة مجلس الأمن القومي ...
- أن الفصل الأول من المرسوم الحكومي عدد 70 المؤرخ فى 19 جانفى 2017 تضمن ما يلي : «يسهر مجلس الأمن القومي على حماية المصالح الحيوية للدولة فى إطار تصور استراتيجي يهدف الى صون سيادة الدولة واستقلالها وضمان وحدة ترابها وسلامة شعبها وحماية ثرواتها الطبيعية»، وان استخدام عبارة «يسهر» Veiller à... فى مستهل النص بما تحمله من دلالة اصطلاحية قانونية قوية وشحنة إجرائية عالية يجيز «لمجلس الأمن القومي» الحق فى ممارسة اختصاصات "الرصد والتدخل والمتابعة" علاوة على صلاحيات التداول والتقييم وتوجيه الاستراتيجيات المسندة له بمقتضى نفس المرسوم الحكومي...
- أن قرار رئيس الجمهورية الصادر بتاريخ 30 أكتوبر 2017 المتعلق بتشكيل لجان قارة وأخرى ظرفية «لمجلس الأمن القومي» جاء بجغرافيا قطاعية ووظيفية واسعة، فاللجان القارة تغطي كافة مجالات الأمن القومي من استخبارات - شؤون الدفاع - شؤون الأمن والدفاع المدني- الشؤون الخارجية - تامين الحياة السياسية والحياة العامة – أمن المنشات الحساسة – الأمن الاقتصادي والمالي – البيئة – الأمن والسلم المجتمعي- الثقافة والتعليم العالي والبحث العلمى – الأمن الغذائي والمياه – الصحة – أمن النقل – أمن الطاقة والثروات الطبيعية وأمن الاتصالات والمعلومات، جميعها تشتغل (وفق منطوق الفصل الثاني) كهياكل إسناد ومساعدة «لمجلس الأمن القومي» كلّ فى مجال اختصاصه وأن حوكمة الجمعيات والمجتمع المدني (موضوع المقال) مدرجة ضمن اختصاصات لجنة «تأمين الحياة السياسية والحياة العامة» ...
حيثيات واقعية وقانونية متعددة تؤشر دون لبس بأن المنظومة المشرفة حاليا على الجمعيات وضعت فى المكان والتوقيت الخطأ في ساعة زمنية انتقالية شديدة الهشاشة، وأن لحظة إحالة حوكمة ملف الجمعيات الى «مجلس الأمن القومي» أصبحت مؤكدة قبل فوات الأوان.. لكن السؤال الكبير الذي يبقى معلقا كيف يمكن تحقيق ذلك بالنجاعة والسلاسة المطلوبتين؟

2) مسارات التجسيم الممكنة (Modus operandi possibles)
من المؤكد بأن تغيير مرجع نظر الجمعيات عملية مركبة شديدة التعقيد والحساسية تستوجب استيفاء العديد من الشروط والمقدمات منها:
- على المستوى التشريعي

من المعلوم أن المجتمع المدني بصدد تقديم العديد من المبادرات ومشاريع القوانين لإعادة تنظيم قطاع الجمعيات، لكن الأهم من حسن النوايا أن تنجح هذه الأفكار فى القطع مع أوجه القصور التي تصيب مرسوم عدد 88 لسنة 2011 فى مقتل من خلال:
• أولا: تغيير مرجع نظر الجمعيات الراهن بما يضمن مبدأ الحيادية والنجاعة والسلاسة.
• ثانيا: التنصيص على إحداث منظومات مراقبة وتدقيق صلب مشروع القانون الجديد المنظم للجمعيات.
• ثالثا: تمكين «مجلس الأمن القومي» من صلاحية حلّ الجمعيات التي تشكّل تهديدا جديا للأمن القومي مع إمكانية الطعن فى قرار الحلّ أمام المحكمة الإدارية.

- على المستوى البنيوي

من باب الحرص على تحقيق التواصل الأفقي السلس بين مختلف أذرع السلطة التنفيذية، من المحبذ إسناد مهمة الإشراف المباشر على الجمعيات الى لجنة "تامين الحياة السياسية والحياة العامة" التى يرأسها وزير «العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان» بعضوية مؤلفة من الكتابة العامة للحكومة، العدل، الداخلية، الوزارة المكلفة بالجماعات المحلية وأخيرا الوزارة المكلفة بالعلاقة مع مجلس نواب الشعب.

- على مستوى الخطط التنفيذية

بغاية إضفاء النجاعة والفاعلية المطلوبتين على عمل اللجنة فى إدارتها للملف الجمعياتي يتعين وضع خطط قابلة للتنفيذ على قاعدة عقد أهداف Contrat objectifs يتضمن مخطط ضبط للأولويات ملحق بروزنامة تواريخ انجاز محددة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115