الى السعي إليه. كلّ عبد راشد هو مسؤول على نفسه، على شغله، على عيشه. ما كان دور الدولة توفير القوت للناس ولا السهر على ما هم فيه من خير ومن شرّ. دور الدولة حماية البلد. ضمان أمن الناس. دور الدولة هو التعديل. هو التنسيق بين الشرائح المختلفة. أمّا تدخّلها في حياة الخلق فهذا غير محمود. أمّا تدخّلها في شؤون الاقتصاد فهو غير محبّذ بل فيه مضرّة. الدولة، كما يعلم الكلّ، سيئة الإنفاق بالطبع. فاسدة التصرّف بالفعل وتدخّلها في الاقتصاد كان دوما مخيّبا، وخيما... انظروا في ما تملك الدولة التونسيّة من دواوين ومن شركات. جميع ممتلكات الدولة وتنظيماتها المختلفة هي اليوم في سوء حال، في إهمال بيّن...
غاية رجال الدولة الحكم والتمتّع بما في الحكم من لذّات وأبّهة. ما كانت الدولة، لو أمعنّا النظر، في خدمة الشعب، ولا هي تسعى لتوفير الرفاه للخلق... ليس كمثل الدولة أنانيّة. لا شغل للسياسيين غير غنم المصلحة. لهم ولذويهم. كذلك، يفعل راشد الغنّوشي رئيس النهضة اليوم. كذلك يفعل الباجي منذ تولّيه الرئاسة... انتهى زمن الدولة الربّانيّة. انتهى زمن الخلافة. لا صحّة في ما كنّا نتخيّل: هذا خليفة رسول الله يمشي في الأرض متنكّرا، يتفقّد الرعيّة. يطعم الأرامل والجياع، يسقي بيديه اليتامى والعجّز. هذه خرافة قديمة. مازال الكثير منّا في الخرافة غارق.
ثمّ هل نحن في حاجة الى خليفة في الأرض؟ هل نحن في حاجة الى زعيم فذّ، «يقود الكفاح ويضمن النجاح»، يوفّر الشغل ويعطي المسكن والكهرباء والماء الصالح للشراب والملح؟ نحن لسنا في حاجة الى خليفة، الى منقذ، الى نبيّ يهدي. حان الوقت لنكبر، لنبلغ الرشد، لنتوكّل. كلّ فرد هو دولة. كلّ عبد هو حامي حمى نفسه...
الدولة الحسنة هي تلك التي تترك الناس يتدبّرون. تدفع بهم لتحمّل شؤونهم، لخدمة مصالحهم. الدولة الناجعة هي التي خفّ ظلّها في الأرض. قصيرة اليد. قليلة العدد. لا أحد يراها. لا أحد ينتظر منها شيئا... الدولة، دورها الأوّل، رعاية القوانين وتطبقيها بحزم. بلا حبّ، بلا كراهيّة. بلا انتقاء بلا تشفّ. هي التي تحترم التراتيب وترعى الناس جميعا دون تمييز أو تفرقة... أمّا سوى ذلك من الشؤون فهذا ليس دورها.
***
يبقى التعليم والعدل والصحّة. فهذه لما لها من أهمّية كبرى، يجب أن تبقى من صلاحيّات الدولة. مهما كان التوجّه ومهما كانت النظريّة المتّبعة، يجب على الدولة الأخذ بالقطاعات هذه وتنظيمها والانفاق فيها ومراقبة ما تأتي وما تعطي من ثمر. الدولة الناجحة هي التي تجتهد حتّى توفّر للنشء تعليما ممكّنا وللعموم صحّة ناجعة وللناس كلّهم عدلا لا انحياز فيه ولا حيف...
في ما أرى، فشلت حكومات الثورة في إنقاذ التعليم وقد أصاب التعليم بمراحله إفلاس محبط. سقط التعليم في تونس منذ زمن، منذ عقدين أو أكثر. خرّيجو المعاهد والجامعات هم اليوم، جلّهم، ناقصوّ قدرات، محدود والمعرفة. غدت الجامعات مراكز لمحو الأمّيّة. لا أكثر ولا أقلّ. أمّا المدارس وقد تعاظم التشويش فيها وتعمّقت الرداءة، فهي اليوم فضاء قفر. لا حياة فيها ولا نفع... لا أحد يعلم اليوم كيف الخروج من الورطة. لا أحد قادر على تحريك الماموث وقد مات الماموث وانتهى أمره...
لم توفّق الدولة في إرساء منظومة صحّيّة عموميّة قادرة على ضمان سلامة الناس وتوفير عافيّة وصحّة. في ما مضى، كان لتونس نظام صحّيّ موحّد. فيه نجاعة. يلقى الناس في المستشفيات ما يرضي. انتهى ذاك الزمن. اليوم، كلّ يوم، نرى القطاع العام في انهيار. يأكله إهمال وسوء ولا أحد اليوم ينهض، يقدر على وقف النزيف والبؤس.
أمّا القضاء فهو الآخر يشكو، بعد الثورة ومن قبل، اختلالات كبرى. كثر لعب السلط، في ما مضى، بالقضاء. اعتمدوه طولا وعرضا لتحقيق مآربهم، للنيل من خصومهم. كذلك، أصبح القضاء أداة في يد السلطة... مازال القضاء في تونس محلّ شكّ وريبة. لم ينهض بعد ولم يتحرّر. الكثير من الناس يشكّكون في أحكامه، في نزاهته. انقطع، بين المواطن والقضاء، الحبل. حبل الثقة...