أهدافه الباب الأول من القانون الأساسي عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013. وقد كان هذا القانون آخر قانون أساسي تقع المصادقة عليه قبل التصويت على دستور 24 جانفي 2014. هذا التواتر المختل هو أيضا من التفرد التونسي في معالجة القضايا الهامة والمصيرية, حيث كان يقترض كتابة الدستور في مدة سنة واحدة من تاريخ انتخابات أكتوبر 2011 ثم يصار إلى صياغة القوانين الأساسية أو العادية لتنزيل روح ومفاهيم وأهداف الدستور الجديد في النظام التشريعي. لكن ما حدث هو العكس تماما حيث بدا الطرف الذي وصل إلى السلطة بتحقيق أهدافه قبل تحقيق أهداف الثورة التي أتت به من خلال سن قوانين ملائمة لتحقيق الأهداف الحزبية سابقة على كتابة الدستور ثم تحصين تطبيق هذه القوانين في الدستور الذي كتب لاحقا. وبهذا المعنى أصبحت القوانين الأساسية السياسية أعلى مرتبة من الدستور باعتبار سبق كتابتها والمصادقة عليها قبل الدستور وتحصين تطبيقها بفصول في الدستور الذي لم يولد بعد وهذا أيضا استثناء تشريعي تونسي يرجع الفضل فيه إلى العقل الحزبي الذي تمكن من المجلس التأسيسي.
نرجع الآن إلى الباب الأول من قانون العدالة الإنتقالية وتنظيمها الذي نص في فصله الأول على تعريف العدالة الإنتقالية ولخصها في 5 نقاط وهي : كشف الحقيقة وحفظ الذاكرة, المساءلة والمحاسبة, جبر الضرر وإعادة الاعتبار, إصلاح المؤسسات والمصالحة الوطنية.
هذا على مستوى النص, اما على مستوى التطبيق فلن نحتاج براهين ولا ادلة للقول ان ملف العدالة الانتقالية تحول إلى نقطة تفجير لكل التوافقات السياسية التي أنتجتها إنتخابات 2014 وأصبحت مكسر الحجر لكل الصراع السياسي القائم في البلد. حيث نجحت الهيئة ورئيستها في خلق التوتر في كل مرة اطلت فيها خارج مجالها وجرت كل الأطراف إلى إحياء الأحقاد وإذكاء الخلاف وزرع الفتنة والفرقة بين كل مكونات المجتمع التونسي تماما بعكس اهدافها القانونية المتمثلة في الوصول بالفرقاء إلى مصالحة وطنية. ولا نعتقد ان تداعيات عمل الهيئة على وحدة المجتمع التونسي ستتوقف بنهاية اعمالها. بل ربما يتعمق الصراع ويحتد عند رحيلها لأنها نجحت في تفخيخ مسار الإنتقال الديمقراطي وزرع الألغام التي ستنفجر حتما في وجه كل الأطراف المعنية ووضعهم امام الأمر الواقع وتوريط المؤسسات بالملفات التي رمت بهم دفعة واحدة في نهاية عهدتها, ولن يكون بمقدورها مراجعة او تعديل الأخطاء او الخطايا التي ضمنتها في التقارير أو في الملفات التي أحالتها إلى الدوائر القضائية المختصة وفق منطق التعبير الشعبي «أشرب وإلا طير قرنك».
أما الجانب المتعلق بشرعية عمل الهيئة وقراراتها, فقد كرست هيئة الرئيسة مفهوم دكتاتورية المنتصر من خلال الحزام السياسي اللامشروط الذي تمتعت به الهيئة حتى تدوس كل القوانين وتخرق كل المواثيق بما فيها قانونها المنظم لعملها. وأول الخروقات وأفحشها تعمدها تطهير البيت الداخلي لهيئتها من الأعضاء الذين لم يسيروا في منطق توظيف الهيئة والاستيلاء على مؤسسة من مؤسسات الثورة.
ولعل دفع رئيسة الهيئة لعدد من الأعضاء إلى الاستقالة – المرحومة نورة البرصالي مثلا- ثم إعفاء عضوين من مجلس الهيئة دفعة واحدة – ليليا بوقيرة ومصطفى بعزاوي - مع تحمل تبعات فقدان النصاب القانوني أكبر دليل على التهور الناتج عن فائض القوة الذي كان يشكله الحزام السياسي للرئيسة وتحديدا حركة النهضة. حتى أصبح خروج رئيسة الهيئة للعموم عنوانا لأزمة سياسية بين مكونات المجتمع مثل ما شهدته جلسة مجلس النواب المخصصة للنظر في قرار تمديد الهيئة يوم 26 مارس 2018 وكيف إنفجرت كل الأحقاد بين الكتل النيابية وتحولت قبة المجلس إلى ساحة حرب وتصفية حسابات فضحت هشاشة التوافق-التنافق بين مكونات الحكم وكشفت المخاطر الحقيقية التي تهدد مسار الإنتقال الديمقراطي.
ذلك دون ان ننسى الجدل الذي أثارته الرئيسة حول نهب فرنسا للثروات الطبيعية بموجب إتفاقيات يعود تاريخها إلى ما قبل الإستقلال واتهام زعماء الحركة الوطنية وعلى رأسهم الزعيم بورقيبة بتورطهم في بيع ثروات البلاد للمستعمر بحسب ما روجته الرئيسة وداعميها. وكذلك ما نشرته على بوابة الهيئة من وثائق وصفتها بالحصرية تحصلت عليها بطرق خاصة – كأن البلاغ لوكالة استخبارات - حول معركة بنزرت التي رمت بها في وجه العموم للتشكيك في كل النضال ضد الاستعمار والقدح في كل قادة الحركة الوطنية, وكأننا امام حملة دعاية لإنتاج فلم جديد. ما دفع نخبة المفكرين والمؤرخين للتدخل والرد على مزاعم ما تروجه الرئيسة في محاولة للدفاع عن المعلومة التاريخية العلمية حتى تحول السجال إلى حرب بيانات بين المؤرخين وبين رئيسة الهيئة التي وللمفارقة تذكر في كل مرة ان عملها لا علاقة له بكتابة التاريخ لكنها تصر على إخراج وقائع تاريخية بموقف واضح وهو ضرب إرث النضال الوطني من خلال زاوية العداء لهذه النضالات وإسقاط تاريخ تونس في وحل التشكيك والخيانات.
ماذا لو كانت رئيسة الهيئة على رأس لجنة من لجان الحقيقة في بلدان أخرى ؟
لو تمكنت رئيسة الهيئة ومن معها من الإشراف على هيئة الحقيقة في جنوب إفريقيا لتسببت في حرب اهلية ولقسمت دولة جنوب إفريقيا إلى دولة للبيض ودولة للسود. كما لو أنها كلفت بالإشراف على لجنة الحقيقة في بولونيا أو في ألمانيا الشرقية او حتى في المغرب لأدى ذلك إلى انقسام شعوب هذه البلدان وتهديد وحدتها الوطنية.
كلنا يعرف الصراع الدموي الذي دام 10 سنوات بين النظام العسكري في بولونيا وبين نقابة تضامن لكننا لم نر مسؤولين أو عسكريين أو أمنيين أو قضاة آو محامين أو غيرهم وقعت محاكمتهم أو تتبعهم مع أن الصراع كان دمويا وأودى بحياة الكثيرين مدة الصراع, هذا دون ذكر جرائم الاستبداد قبل بروز نقابة تضامن.
في ألمانيا الإشتراكية كانت البلاد كلها تحت رقابة النظام الواحد وكان الألمان في خدمة نظام الاستبداد من الغفير إلى المدير وبعد سقوط حائط برلين لم تشهد ألمانيا محاكمات وتصفيات وتجاوزت أحقادها ووضعت تاريخ الاستبداد وراء ظهرها. رغم أنهم إلى اليوم لا يزالون يعيدون تجميع وترتيب كل وثائق الدولة الاشتراكية التي وقع إتلافها ويستمعون إلى كل التسجيلات حتى أنهم صنعوا آلة خاصة لقراءة الأوراق والوثائق التي وقع حرقها. نعم لا يزالون فعلا يقرؤون ما وقع حرقه أو تدليسه آو ما كتب جديدا فوق تقارير أصلية قديمة. ورغم هذا الكم من المعلومات لم نشهد محاكمات ولا تهديدا بالمحاكمة والمحاسبة والتشفي كما يقع ترويجه والدعوة إليه في تونس.
كل هذا للقول أن فلسفة العدالة الانتقالية التي أخذناها عنهم لا علاقة لها بهذا الفلكلور الانتقامي الذي نشهده في كل جلسة للدوائر القضائية المختصة الذي تروج له هيئة الرئيسة وحزامها السياسي. لأن العدالة الانتقالية قامت على قاعدة «أربح خصومي دون أن أذلهم » وهي قولة تنسب لمانديلا. ولأن العدالة الانتقالية هي عدالة للتجاوز, هي عدالة لرد الإعتبار وليست عدالة لاسترداد الحقوق. الله غالب هي هكذا....
في التجارب المقارنة لم تستعمل الأحزاب المنتصرة التي وصلت إلى الحكم هيئات الحقيقة لتصفية حساباتها القديمة بل كان دور هذه الهيئات بعيدا كل البعد عن السجال السياسي. وجدت هذه الهيئات للدفاع عن قطاعات من الشعب ذهبت ضحية الصراع السياسي بين طرفين او أكثر وخاصة القرويين والفلاحين او الأقليات العرقية والدينية . كان دور الهيئات كشف حقيقة ما تعرضت له فئات معينة تحت أنظمة دكتاتورية من تصفية عرقية أو دينية أو أثنية. وتتفرد التجربة المغربية بأنها كانت خيارا من داخل السلطة نفسها التي أرادت تغيير نهجها في تعاملها مع ملف الحريات والضروريات القانونية التي يفرضها الانتقال الديمقراطي. تعامل السلطة في المغرب مع دعاة الانفتاح والمدافعين عن الحريات بضرورة تطعيم النظام الملكي بالتعددية السياسية كانت خيارا حدد مهمة هيئة الحقيقة في المغرب ورغم ذلك تشكلت لجنتان للحقيقة بعد فشل التجربة الأولى, وأصبحت فترة الاستبداد في المغرب وراءهم رغم ان تاريخ القمع والاستبداد في المغرب لا علاقة له بتجربة دولة الاستقلال في تونس وعلى جميع الواجهات. ولمن يريد التأكد عليه قراءة كتاب Notre ami le Roi.
ولئن جاءت تجربة هيئة الحقيقة في المغرب خيارا فوقيا أشرف عليه القصر لتجديد النظام السياسي وإطالة عمره والاستجابة للمتغيرات في السلوك السياسي مع ما يقتضيه تطور المجتمع فإن السلطة التي نتجت عن انتخابات 2011 في تونس لم تكن هي من أسقطت نظام بن علي بل الشعب هو من أسقط النظام لصالح طبقة سياسية كانت غائبة او في أحسن الأحوال لم تكن تسعى لإسقاطه لو إستجاب لها نظام بن علي في وقت من الأوقات مثل ما وقع في المغرب. لذلك جاء قانون العدالة الانتقالية بإرادة الحكام الجدد الذين وصلوا إلى المجلس التأسيسي ولم يكن مطلبا من مطالب الثورة ولم نسمعه شعارا من شعارات المنتفضين يترجم هذه الرغبة الشعبية في المحاسبة والمساءلة وجبر الضرر. كان يجب أن تكون العدالة الانتقالية ترجمة للتسامح والبناء المشترك وتنزيل الممارسة الديمقراطية إلى واقع الناس بعيدا عن كل تصفية حسابات بين من سمحت لهم الثورة بالوصول إلى الحكم دون ان يكونوا فاعلا أساسيا في تغيير النظام وبين بقية مكونات المجتمع الذي أعادهم إلى الفعل السياسي بالانتخابات التي أوصلت المغتربين والمساجين قبل الثورة إلى الحكم بعد 14 جانفي. فلن يكون لائقا ولن يكون أخلاقيا أن ينتقم ضحايا الاستبداد من رموز النظام القديم بعدما أسقطهم غيرهم.
هل ستكون مصالحة وطنية عبر هيئة الرئيسة ؟
لن يستطيع أحد الإجابة عن هذا السؤال مع كل ما رافق تجربة هيئة الرئيسة من لغط وصراع واختلافات حادة في المواقف ووجهات النظر بين الفرقاء السياسيين حول الموقف من اداء هيئة الرئيسة مع ان هناك إجماعا على مبدإ العدالة الانتقالية وضرورة تجاوز أحقاد الماضي لبناء مجتمع متعدد وترسيخ الممارسة الديمقراطية وخاصة تعميم الحريات الأساسية واحترام الدستور وعلوية القانون. ومن المفارقات الكبرى ان هيئة الرئيسة في تونس كانت أبرز المعتدين على القانون وعلى الدستور برفضها علنا عدم الإنصياع لقرارات القضاء في الوقت الذي كان يجب ان تكون مثالا لروح الدستور الجديد وترجمة
حقيقية لمبدإ إستقلالية الهيئات. مع انها كانت ترتمي بين يدي نفس هذا القضاء عندما تستحقه لرفض قرار مجلس النواب او إجبار مصالح رئاسة الحكومة لنشر قرار التمديد أو حتى إسترداد جواز سفر دبلوماسي.
الإصطفاف الحزبي لهيئة الرئيسة إلى طرف سياسي دون غيره أساء كثيرا لمبدإ إستقلالية الهيئات وألحق ضررا فادحا بالمهام التي أوكلت إليها. حيث تجلى ذلك في النقاش الحاد حول سد الشغورات داخل الهيئة أو حول التمديد لعملها وكيف تسببت في شق وحدة مؤسسات الدولة وشق صفوف الأحزاب السياسية التي تدير مع بعضها النظام السياسي الجديد لكنها تصبح متحاربة حول الموقف من هيئة الرئيسة. حيث يصوت مجلس نواب الشعب على عدم التمديد ويصار إلى منشور من رئاسة الحكومة بانتهاء أعمالها. ثم يوقع وزير في الحكومة على التمديد في عملها ثم منشور تفقدية وزارة العدل لعدم قبول إحالات ملفات إلى الدوائر القضائية المختصة بعد تاريخ 30 ماي 2018, ثم يلغي وزير العدل منشور مدير إدارة التفقد لوزارة العدل...ثم تواصل هيئة الرئيسة عملها....يعني سريالية سياسية بأتم معنى الكلمة.
لن تكون هناك مصالحة بعدما انتصرت هيئة الرئيسة لشق سياسي دون غيره بل ستكون هذه الهيئة وما ستتركه بعدها من ملفات مفتوحة مثل الملفات التي أحيلت على الدوائر القضائية المختصة عنصر تفجير لمشروع المصالحة الوطنية. واكبر دليل على ذلك المساحة التي أعطيت حول أحداث الخبز او حول أحداث الرش في سليانة مقارنة بما أتيح لبقية الضحايا من مساحة للحديث عن المحرقة و أيام الجمر. كما كان ملفتا للنظر غياب كلي لملفات الاغتيال السياسي لشكري بلعيد ومحمد البراهمي أو أحداث الثورة التي لم تخصص لها الهيئة أية مساحة ولم تخصها بجلسة استماع علنية مثل ما قامت به لعرض شهادات فردية عن إنتهاكات لحقوق الإنسان. كان يجب ان تكون هناك جلسات إستماع علنية للمعنيين بأحداث الثورة وعائلاتهم والذين لا ينتمون للطرف السياسي الذي تسير في ركبه هيئة الرئيسة. هذا دون ان ننسى ما وقع يوم 7 نوفمبر 1987 وما قبله وما بعده وربما لو فتح هذا الملف لكنا ننظر في مسؤوليات أطراف متعددة عن ما وقع من إنتهاكات بعد هذا التاريخ. ربما كان القصد من دفن هذا التاريخ هو عدم الزج بمسؤولية أطراف لا ترغب هيئة الرئيسة في نفض التراب عنهم أو كشف ملابسات ربما تدين بعض الأطراف التي تسعى رئيسة الهيئة لتغطيتهم. لذلك وقع تجاهل هذا الحدث الذي يعتبر حدثا مفصليا في تاريخ تونس لأنه إنهار ذات 14 جانفي 2011.
والغريب ان أحدا من كل المعنيين المساندين والمعدين لم يشيروا من بعيد ولا من قريب كيف تتجاهل هيئة الحقيقة تاريخ الثورة الذي كان له الفضل في وجودها. كيف تغفل هيئة الرئيسة عن فتح ملف الثورة وشعاراتها وملابساتها والفاعلين فيها وضحاياها وجرحاها. وهذا دليل إضافي على التوظيف السياسي لهيئة الرئيسة وتحويل وجهة بسابق إصرار وترصد لتمرير رؤية وحيدة للحقيقة وفرضها على وعي الناس وتأكيد ان هيئة الرئيسة تعمل في أجندة خارج أجندة اهداف الثورة وأصحابها وخارج أجندة الشعب وأولياته.
• هل نجحت هيئة الرئيسة في توظيف العدالة الانتقالية للأهداف التي رسمتها؟ قطعا لا.
• هل نجحت هيئة الرئيسة في تحقيق أهداف العدالة الانتقالية مثل ما وردت في القانون المنظم لعملها ؟ قطعا لا.
• كيف ستتعامل الأطراف مع ما ستتركه هيئة الرئيسة بعد إنهاء وجودها ؟ هذا ستجيب عنه انتخابات 2019 .