الثقافي في بلادنا ومساهمته في ظهور وبناء خصوصية وتفرد تجربتنا السياسية – لقد أثرت في جملة المقالات التي نشرتها منذ مدة عديد الجوانب والمساهمات التي لعبت دورا كبيرا في تشكل مشروعنا الثقافي . وسأحاول في هذا المقال العودة الى جانب هام لم يأخذ في رأيي حظه من النقاش والكتابة لنفض الغبار عليه والمساهمة في التعريف به. وهذا الجانب يخص مساهمة الهجرة في بناء وتشكل تجربتنا الثقافية ومشروعنا الإبداعي. يعلم ويعرف كل المتابعين للفعل الثقافي في بلادنا أهمية الهجرة والدور الذي لعبته خاصة منذ نهاية ستينات القرن الماضي وفي السبعينات في تطور تجربتنا في هذا المجال إلا انه وبالرغم من أهميته فقد بقي هذا الدور مغمورا وغير معروف ولم يجلب اهتمام الباحثين والمؤرخين للشأن الثقافي .
ولهذه الأسباب قررت تخصيص هذا المقال للحديث عن هذه التجربة الإبداعية وتأثيراتها على النشاط الإبداعي في الداخل.
يمكن بطبيعة الحال لهذا المقال استيفاء كل ثراء هذه التجربة الإبداعية التي لابد من تخصيص عمل بحثي كامل لكشف خباياها وأسرارها . إلا انه وبالرغم من صعوبة هذه المهمة فقد قررت تخصيص هذا المقال لهذه التجربة والخوض في أهم ملامحها وخطواتها العريضة . وقد توجهت إلى الصديق الهاشمي بن فرج الذي واكب هذه التجربة منذ سنواتها الأولى في بداية السبعينات في فرنسا وكان شاهدا على أهم مراحلها حتى عودته إلى تونس نهاية السبعينات . والى جانب تواجده في أهم مراحل هذه التجربة فقد تمكن الصديق الهاشمي من المحافظة على ارشيف هذه التجربة والعودة به إلى تونس مؤخرا حيث يزمع تقديمه إلى المكتبة الوطنية .انطلقنا من البدايات ونقطة الانطلاق تعود إلى الاهتمام بالعمل الثقافي الذي بدا يظهر في إطار منظمة برسبكتيف التي احتوت على عديد النصوص ذات الشأن الثقافي – ثم صدرت جريدة العامل التونسي والتي كانت في أعدداها الأولى تشبه المجلات الثقافية في ثلاثينات القرن الماضي والتي أثثها العامل المهاجر المولدي زليلة أو عم خميس بالكثير من الملزومات .
والى جانب هذه الاهتمامات الثقافية للحركة السياسية فقد ساهم الحراك الثوري والشبابي اثر ثورات الشباب في ماي 1968 في دخول عدد هام من الشباب إلى معترك العمل السياسي وكان للعديد منهم اهتمامات ثقافية مما سيدعم الشأن الثقافي في العمل العام .
وسينطلق العمل الثقافي عند الشباب التونسي في باريس في دار تونس اثر تكوين لجنة طلابية مستقلة فتحت الدار لكل التونسيين وللعمل السياسي والعمل الثقافي فاغتنم عديد التونسيين الذين كانوا يدرسون المسرح والسينما الفرصة للقيام بعدة أنشطة ثقافية.وقد تكونت أول مجموعة نشاط ثقافي من محمد إدريس وتوفيق الجبالي وعلي سعيدان ورشاد المناعي وتوفيق قيقة والحبيب المسروقي وخالد غربال . وقد انضم إليهم عديد المناضلين والطلاب ومن ضمنهم الهادي قلة وحمادي بو الأعراس ونعيمة المهدي .
وشكلت مسرحية «قاسم عزاز» أول عمل مسرحي هام تقوم به هذه المجموعة – وقد أثارت هذه المسرحية بطريقة نقدية مسألة النزوح وقدوم أبناء الريف إلى المدينة والمشاكل والرفض الذي يتعرضون إليه من أبناء المدينة والاضطهاد والتعسف الذي يعيشونه في أماكن العمل كالذي عاشه قاسم عزاز في بناء نزل أفريكا في العاصمة أدى الى مماته .
وقد لقيت هذه المسرحية نجاحا كبيرا . حيث تمت دعوتها إلى مهرجان المسرح في مدينة نانسي والذي كان يشرف عليه وزير الثقافة السابق جاك لانغ. كما تمت دعوة الفرقة لعروض في أمستردام في هولاندا .
وقد لقيت المسرحية الكثير من الاهتمام من قبل الإعلام والصحافة الفرنسية لكونها اول تجربة للعمل الثقافي في أوساط الهجرة . وقد نشرت عديد المقالات الصحفية في الجرائد المهمة كلومند وليبراسيون- كما تم تخصيص حلقة خاصة من البرنامج الثقافي المعروف «le masque et la plume» بإذاعة فرنسا الدولية والذي كان يشرف عليه pierre Bouteillez لهذه المسرحية.
وستعود هذه المجموعة الأولى إلى تونس لتلتحق برجاء فرحات الذي اشرف على ظهور فرقة قفصة ومنهم توفيق الجبالي وعلي سعيدان والحبيب المسروقي ومحمد إدريس.وسيتواصل هذا العمل الثقافي والمسرحي بوصول مجموعة أخرى من الطلبة في منتصف السبعينات ومن ضمنهم المنصف ذويب واحمد السنوسي وهيلان كاتزاراس وتوفيق قيقة والهاشمي بن فرج . وستقوم هذه المجموعة بإعداد مسرحية جديدة بعنوان «المداح» للمنصف ذويب وستعرف هذه المسرحية الكثير من النجاح لتشارك في أول مهرجان للمسرح المهاجر في فرنسا في 1975 كما ستقدم عديد العروض في الكثير من المهرجانات .وقد اهتمت هذه المسرحية بقضية الفلاحة وأزمة هذا القطاع وتم التعرض إليها بطريقة هزلية ونقدية .
وستعرف تجربة العمل المسرحي في الهجرة مرحلة جديدة مع «Fais pas le guignol jha» التي ستتطرق لأوضاع المهاجرين وستعرف هذه المسرحية نجاحا كبيرا حيث تم عرضها 90 مرة في عديد المهرجانات والكثير من المدن الفرنسية .
ولم يقتصر العمل الثقافي في الهجرة على المسرح بل شمل عديد الأنشطة الأخرى كالسينما حيث اخرج الناصر القطاري شريط «السفراء» والذي سيحرز على التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية لسنة 1976 إلى جانب عديد المخرجين الذين درسوا في باريس وكانت بداياتهم السينمائية الأولى هناك – كما نجد عديد التجارب في مجالات فنية أخرى كالرسم والشعر والأدب .
ولقد لعبت الموسيقى دورا هاما في هذه الحركية الثقافية في الهجرة . وبدأت مع الهادي قلة الذي لحن أغنية مسرحية قاسم عزاز . وقد تواجد في تلك الفترة في باريس عديد الموسيقيين أو المهتمين بالشأن الموسيقي نذكر منهم إلى جانب الهادي قلة محمد القرفي حمادي بو الأعراس وعبد القادر العسلي وعلي سعيدان – وقد عملوا على تكوين فرقة موسيقية الى جانب العروض المسرحية وقد بدأت المجموعات الشبابية الثائرة تتحصل على أغاني الشيخ إمام الثورية من مصر . ولكن هذه التسجيلات لم تكن جيدة. فتحول الهاشمي بن فرج إلى القاهرة حيث قام بتسجيل أول اسطوانة للشيخ إمام وهي بعنوان «عيون الكلام» والتي تم توزيعها في مجموعة «les chants du monde» ثم سيتم تسجيل اسطوانة مارسيل خليفة «وعود من العاصفة» ثم اسطوانة الهادي قلة مع حمادي بو الأعراس «البابور» لتبقى أغنية «بابور زمر خش البحر» من كلمات عم خميس النشيد الأكثر شهرة والذي يحكي بكثير من الحساسية مشاكل وانكسارات العمال المهاجرين .
وسيمكن اللقاء بين الهاشمي بن فرج والحبيب بلعيد الذي كان ينشط عديد البرامج في إذاعة تونس الدولية عديد الشباب من التعرف على هذه التجارب الغنائية .
وستؤثر تجارب الشيخ إمام ومارسيل خليفة والهادي قلة في الكثير من الشباب في بلادنا من خلال الأغاني التي أذاعها الحبيب بلعيد في الراديو من خلال شرائط الكاسيت التي تروجها شركة «نغم» والتي كان يديرها في ذلك الوقت الهاشمي بن فرج . وسيكون لهذه التجارب تأثير كبير في بلادنا وستشكل نقطة انطلاق لعديد التجارب الفنية كفرقة الحمائم البيض وفرقة البحث الموسيقي بقابس ومحمد بحر وغيرهم .
كانت أمسية ممتعة قضيتها مع الصديق الهاشمي بن فرج في إحدى مقاهي شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة عدنا فيها إلى تجربة العمل الثقافي في الهجرة وتأثيراتها على المشروع الثقافي في بلادنا . كانت رحلة حميمية عبر التاريخ الثري لهذه التجربة وفي نفس الوقت كنا نشاهد حوالينا العديد من الشباب ينتظرون أمام القاعات لمشاهدة الأفلام المعروضة في مهرجان قرطاج أو يناقشون ويتبادلون الآراء حول هذه الأفلام وكأنهم يذكروننا بهذا التواصل بين الأمس واليوم والذي جعل المشروع الثقافي والإبداعي خير ضامن للمشروع السياسي الديمقراطي.
ومن هذه الرحلة عبر التاريخ ومن عبق الممارسة الثقافية في الهجرة لابد لي من الإشارة إلى بعض النتائج والنتيجة الأولى تهم ضرورة إعطاء هذه التجربة الأهمية التي تستحقها ودراستها وتوثيقها حتى نجعل منها جزءا هاما من ذاكرتنا الثقافية الجماعية .
المسألة الثانية تهم تأثير هذه الحركية الثقافية في الهجرة في المشروع الثقافي في بلادنا وخصوصيته.
وفي رأيي فقد لعبت هذه الحركة دورا هاما في دعم ركائز المشروع الثقافي في بلادنا من خلال دعم جانبه النقدي واللجوء إلى اللغة العامية والمزج بين الجانب الهزلي والجانب الجدي والدراماتيكي . كما ساهمت هذه الحركة في التعريف بالتجارب الفنية في العالم ومكنت مبدعينا من الاستفادة منها . وسيساهم مبدعو الهجرة بطريقة مباشرة عند عودتهم الى تونس في المشروع الثقافي الوطني .
المسألة الثالثة تخص الانعكاسات السياسية لهذه التجارب الثقافية عند الشباب الثائر. وفي رأيي انقسم هذا الشباب وهذه الحركات إلى ثلاثة توجهات كبرى .
التوجه الأولى هو التوجه الإصلاحي والذي اختار خوض تجارب سياسية من خلال أجهزة الدولة قبل الثورة لتطويرها وإصلاحها . التوجه الثاني وهو التوجه الثوري والذي اختار نهج العمل السياسي الثوري من اجل تغيير المجتمع . أما التوجه الثالث فهو الذي اختار المراهنة على العمل الثقافي من اجل تغيير العقليات وإدخال مبادئ التعدد والاختلاف والحرية وجعلها الركيزة الأساسية لثقافة المواطنة والديمقراطية .
جملة من الملاحظات صغتها بعد هذا الحديث الشيق و الممتع مع الصديق الهاشمي بن فرج . تمكنت من خلال هذا الحديث من العودة إلى بعض آثار هذه التجربة الثقافية في الهجرة ثم لأهيم مع صوت الهادي قلة وهو يردد «بابور زمر خش البحر».