حادث وحديث في الغشّ العام والمشترك

كلّ إنسان يسعى لخدمة مصالحه. كلّ عاقل يجتهد لتحقيق غاياته. طوال العمر كلّه،

ترى العبد يبذل الجهد ليستأثر، ليغنم. لكسب المنفعة، لدرء المضرّة،. تلك سنّة. هي غريزة لبقاء الانسان حيّا... هذا معلوم ومتعارف. لكن، هل سعي الفرد الى المنفعة هو مطلق. لا حدود فيه ولا ضوابط؟ لا أعتقد. بين الناس، لا تلتقي دوما المصالح. أحيانا كثيرة، هي في تضارب. أحيانا، هي في تصادم. الأنا في الانسان هو الأبقى والأوّل. لا يرى غير سرّته وهمّه الأوّل نفعه.

إذا استبدّت الأنا وسكنت في الفرد أنانيّة مفرطة يكون الغاب. يأكل الناس بعضهم بعضا. يستبدّ القوي. يحطّ الأقوى على الناس والأرض يده العليا. حينها، تفسد الحياة وينكمش المجتمع. تتفكّك الصلات وتضطرب الأواصر... لنحيا معا، يجب الجمع حول قيم مشتركة. حول سنن جاريّة. من أهمّ السنن: الثقة. ما الثقة؟ الثقة هي خيط جامع. هي نحو محدّد للسير، ضابط للمعاملة. هو الفعل حسب المرجع المشترك، دون لفّ ولا مخاذلة. مع الثقة تطمئنّ الأنفس، يحصل بين الناس اعتماد وضمانة. تغدو الحياة بيّنة. فيها أمن. أمّا اذا انعدمت الثقة، ينتصر سوء الظنّ وتنتشر الخديعة وتفسد الطباع ويخرّب المجتمع.

في تونس، أنا دوما في سوء ظنّ، في خشية. أرى المكر في كلّ باب. أحسب الكلّ لي مضمرا. في تونس، سكنني التوجّس. حين أمشي الى السوق، الى الادارة، الى مركز الأمن وأحيانا الى أهلي...، ألقاني منقبض القلب. في شكّ، في ريبة. أرى العاملين والناس على سوء نيّة. لا أصدّق لهم قولا. دوما، أتثبّت. ما يقوله الناس لا أفهم مفرداته. في مفردات الناس أشتمّ مخاتلة. أرى زورا وخدعة. مع التونسيين أصبحت في ريبة دائمة. أرى التحيّل فيهم قائما وفي ما ينطقون كثير من الكذب. أصبحت أخاف الناس. أنا في حيطة دائمة... رغم توجّسي وما أنا فيه من يقظة وحالة طوارئ قصوى، أقع في الفخّ. مرّات عدّة...

في سنة ماضيّة، في قيلولة، كنت عائدا الى بيتي لمّا أوقفني صبيّ في الطريق. حملته معي في سيّارتي. كلّمني وفي عينيه وداعة الصبية. قال انّه يذهب الى عيادة أمّه المريضة في مستشفى الأمراض الصدريّة بأريانة ولا أب له ولا عائل. نظرت في وجهه. أخذتني شفقة. اشتريت للصبيّ ياغرت وماء ليحملها لأمّه. أدخلته الى مطعم شعبيّ هناك. مشيت معه الى المستشفى وفي الباب تركته وأوصيته قائلا: «كلّ يوم جمعة، في نفس الوقت، أعود من نفس الطريق. ان شئت، آخذك معي الى المستشفى». شكرني الصبيّ وقال كلاما مهذّبا... كذلك كان الحال مرّات عدّة. توطّدت العلاقة بيني وبينه. فكّرت. دعوت زوجتي أن نأخذ الصبيّ أيّاما، أن يعيش بيننا حتّى تتعافى أمّه. أن يسكن غرفة ابني محمّد...
في يوم، في سوق أريانة، لقيت الصبيّ ومعه أمّه. سألتها عن حالها وكان لنا حديث موضّح... اكتشفت أنّ الصبيّ كذّاب وما كانت أمّه مريضة وما كان هو بمعوز...

في الصيف المنقضي، اشتريت من جزّار لي معه علاقة قائمة لحم خروف وكان لنا يومها ضيوف. في البيت، قالت السيّدة: «انّ اللحم الذي اشتريت هو لحم ماعز وأنت تعلم أن لا أحد يأكل لحم الماعز». شدّني غضب. عدت في الغد ألوم الجزّار عمّا أتى من غشّ فأجابني وكلّه ثقة ونصح: «في الصيف، يا أستاذ، لحم الماعز أفضل». منذ أسابيع، آكل وحدي لحم الماعز الذي اشتريت...

في راس الجبل، أشتري أحيانا سمكا. دائما من نفس البائع. كنت للبائع أتودّد. أحكي له ما كتبت ويسألني عن حالي وحال ابنيّ. أنا لا أعرف السمك. لا أتبيّن منه شيئا. كلّما اشتريت من عند صاحبي سمكا، ألقاه، مرّة على مرّتين، لا يصلح. مرّة هو قديم، فسد طعمه. مرّة، موريتانيا مصدره. ألوم البائع فيحلف ويقسم بالله وبالأولياء أن سمكه تونسيّ، طريّ، فضيل...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115