إعداد تقرير حول الحرّيات الفرديّة والمساواة وعيّن الفريق المكلف بإعداده وحدّد له الوجهة والأهداف، كان يعرف ما يريد: ثورة تشريعيّة وثقافيّة واجتماعيّة ثانية بعد الثّورة التي شهدتها تونس عند إصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة. المفاهيم التي استخدمها الباجي قائد السبسي في خطاب تكليف اللّجنة المدعوّة لصياغته وهي إصلاح النّظام القانوني في المجالين بالاستناد إلى الدّستور وكذلك إلى «المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان والتوجّهات المعاصرة في مجال الحرّيات والمساواة» كانت تشي بوجود تفكير في إحداث تغيير أساسي يطال كلاّ من الأسرة وعلاقة الفرد بالجماعة وبالتالي الأرضية الثقافية التي يقوم عليها المجتمع التونسي.
كان المشكل الأساسي المطروح على الطرف المبادر هو كيفية التعاطي مع وجود مرجعيتين: مدنية ودينيّة في الدستور. كما كان من الصعب استنتاج شيء واضح مما قاله قائد السبسي عن إيجاد الصيغ التي لا تتعارض مع الدين ولا الدستور، وذلك في ظلّ التجاذبات حول تأويل الدستور وما عبّر عنه بعض الحداثيّين من عدم اطمئنان لما توصلت إليه التوافقات في هذا الشأن. ثم جاء خطاب الرئيس في 13 أوت 2018 مبرزا الفصل الثاني من الدستور على حساب الفصل الأول ومكرسا ما جاء بالتقرير من أن الفصل الأول وصفي فقط عندما يتحدث عن علاقة الإسلام بالدولة التونسية في حين أن الفصل الثاني حُكمي ومُلزم عندما يتحدث عن مدنية الدولة. وعلى كل حال فقد أدت هذه التطورات إلى اندلاع
معارك إيديولوجية كثيرا ما تحولت إلى خطابات وصم وتشهير متبادل عمّقت من جديد الهوة بين الإسلاميين والعلمانيين وبين المحافظين والحداثيين. طائفيّة إيديولوجية تطفو من جديد لتجعل أغلب المتدخلين سواء على المنابر الإعلامية أو على صفحات التواصل الاجتماعي يلوحون بالفزّاعات المألوفة ويتمرّسون وراء أفكار مسبقة وقناعات جاهزة بشأن المسائل المطروحة، والحال أن تونس في حاجة إلى عقلانية نخبها وكفاءة أهل الخبرة منها لمعالجة القضايا التي يطرحها التقرير وهي قضايا مصيرية تتعلق بمعالم مجتمع المستقبل وتركيبته الثقافية والاجتماعية ومن المفروض أن يكون القرار السياسي والتوجه التشريعي فيها ثمرة حوار وطني معمّق وحائزا على مقبولية اجتماعية. كل هذا يتطلب مواصلة
النقاش والالتزام بأن يكون النّقد فيه بنّاء ومعتدلا في التعبير، والتحليل مبنيا على معطيات ميدانية وحجج عقلانية، وهو ما نحاول الإسهام فيه بما توفر لنا من التجربة السياسية وما حصّلناه من مكتسبات علم اجتماع الدين وعلم اجتماع العائلة.
نعترف بأن قراءة تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة وما أثاره من ردود فعل متضاربة، وكذلك ما أثارته تحاليل نشرناها بالتزامن مع صدوره من تفاعلات تجعلنا في موقف حرج. فالملاحظات النقدية التي أبديناها بخصوص هذه المبادرة فهمها بعض الأصدقاء وخاصة بعض الأخوات كتنكّر لمُثُل المساواة والتحرر التي ناضلنا معا من أجلها طيلة عقود بل اعتبرها البعض بمثابة خدمة مجانيّة للإسلاميين. ويهمنا أن نوضح هنا أننا لم نكتب ولا نكتب بهدف مهاجمة قوى حداثية نعتبر أنفسنا منتمين إليها ولا لكي يفرح النهضاويون ويضمّون رأينا إلى مكتسباتهم، وكلّ متتبع لكتاباتنا يعرف أننا لا نتردّد، وكلّ في نقد الإسلاميّين. بيد أنّنا نتمسك بحقنا في فهم الحداثة الفكرية والسياسية في ضوء تجربتنا المتعددة الروافد
ومن منظور نقدي وليس ضمن مسلمات وقوالب إيديولوجية جاهزة كنّا تباينّا معها باستمرار منذ صدور كتابنا عن الحركة الإسلامية التونسية في منتصف الثمانينات والذي وسّعنا فيه القول من خلال تحليل الظاهرة إلى نقد موقف اليسار إزاء الموروث الديني.
ضمن هذا الإطار نقترح قراءتنا هذه للتقرير حول الحريات الفردية والمساواة حيث لا يتعلق الشأن بمبادئ عامة لا يمكن لأيّ تونسي مُستنير إلاّ أن يقاسمها وإنما بوثيقة صدرت في إطار مبادرة محدّدة وتطرح مشروعا محددا يكرس رؤية طرف رئيسي في الساحة السياسية والفكرية لا تّجاه إصلاح التشريعات التونسية ذات الصلة. هذا النص يقدم مبررات وشرح أسباب مقترحاته عبر قراءة مقاصدية للإسلام وتحليل سوسيولوجي للتّحوّلات المجتمعيّة واتجاهها، ونقد للقوانين التونسية المتعلقة بالمسائل المطروحة.
تطرق النص إلى كل من نجاحات المرأة والمظاهر السلبية لواقعها اليومي وكذلك إلى ثغرات عدّة في التشريعات التونسية، وقدّم قراءة مقاصدية أرادها أن تكون جريئة وهو أمر يستحق التنويه. بيد أننا وبالتأني في قراءة مضامينه ألفيناه نصّا يفتقد إلى هاجس التقريب والتوفيق بين المرجعيات القيمية الموروثة وتلك الوافدة من الغرب بحيث تحتل هذه الأخيرة كل الساحة التبريرية تقريبا، محوّلة الخطاب المقاصدي إلى مجرد زينة أو قناع، كما يستحيل فيه التحليل السوسيولوجي الموعود إلى قراءة إيديولوجية واختزالية لواقع مركب ومتعدّد الأبعاد وصولا إلى جعل المعايير «الكونية» مسطرةً نقيس بها علاقاتنا ببعضنا وبباقي الإنسانية. فلنوضح حيثيات دعوانا هذه.
قراءة مقاصدية أم قطيعة مع الموروث الديني؟
يقدم تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة نفسه كحلقة جديدة ضمن مسيرة إصلاحيّة عرفتها تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر وكحصيلة لمقاربة مقاصدية متحررة من الرؤى المحافظة للفقهاء وجريئة في الاجتهاد وتجسيدا لهاجس التجديد في الشريعة الإسلامية. يعتبر التقرير أن كلا من الحرية والمساواة يمثلان مقصدين أصليين وأساسيين من مقاصد الإسلام، كما يضيف أن جربة المعتقد واختيار الدين مدخل في غاية الأهمية لهذه القراءة المقاصدية وأنّ القرآن يؤكد على وجود مساواة جوهرية بين الرجال والنساء والواجب اليوم هو تكريس هذا المبدأ بشكل يتناغم مع السياق المعاصر. بل يذهب التقرير إلى المطالبة بمزيد من الاجتهاد والجرأة في الرأي والتشريع في مرحلتنا الحديثة حتى «لا يتواصل التعارض بين المقصد من جهة والتشريع والثقافة والممارسة من جهة أخرى»، والملاحظ أنّ التقرير يكتفي من جملة مقاصد الدين الإسلامي بالمبدأين المذكورين مع إضافة مبدأ العدل.
نحن إذن أمام تقرير مقاصد بعضها لم يتناوله القدماء بالمرة كالحرية وبعضها كان هامشيا في منظومتهم كالمساواة، كما أننا إزاء سكوتٍ لا يمكن أن يحدث من باب الصدفة عن عديد المقاصد التي أكد عليها الموروث الديني. وكل هذا يجعلنا أمام إشكالات كبيرة تهم طبيعة المقاربة المقاصدية عموما وأهدافها والإمكانات التي تفتحها والصعوبات التي تصطدم بها، وكذلك مبررات اختيار التقرير للمدرسة المقاصدية والإصلاحية التونسية دون غيرها ثم اقتصاره على جزء فقط من المقاصد التي تطرقت إليها وهو القيم الثلاث المذكورة أعلاه، كما تهمّ الآفاق التي تفتحها والمحاذير التي تنطوي عليها قراءة جريئة ومتحررة للموروث الديني كتلك التي يقترحها لا يسمح لنا المجال بإيفاء كل هذه التساؤلات حقّها، ولذلك سنكتفي بتوضيحات وملاحظات نعتبرها أساسيّة.
تشكل المقاصد اختراعا رائعًا بوصفها جزءًا من البناء الديني الذي أقامه المسلمون وأنتجوا به الحديث والتفسير وعلم الكلام والتصوف والفقه فروعا وأصولا. وقد جاءت مقولة المقاصد في محاولة لزحزحة التكلس الذي أصاب الفقه الذي بقي أسير الأصول التقليدية وخاصة منها الإجماع والقياس الشافعي وما أدّيا إليه من تقديس للسلف ومعالجات تجزيئية والتصاق بالنص. من هنا طرح أسلوب جديد في الاجتهاد قوامه استخراج الغايات الكبرى للرسالة المحمدية حتى يتم التعاطي في ضوئها مع التغير المستمر لمعطيات الواقع وتطوير الشريعة. هي إن شئنا حيلة أو إستراتيجية لضمان استمرار الأصل وهو يواجه التحولات الاجتماعية والحضارية ولهذا الغرض اعتمد المقاصديون مبدأ عاما وجامعا بينهم وهو ربط المقاصد بالمصالح وتحديدا تلك المعتبرة في نظر الدين أو الشرع، كما اقترنت مقولة المقصد بحقل مفاهيمي مداره الإصلاح والصّلاح أو كما يقولون جلب المصالح ودرء المفاسد. وهذا لم يَحلْ دون انفتاح البناء المقاصدي وقبوله للاختلاف سواء في المنهج والنظرية أو في تعيين المقاصد ذاتها أو في ترتيبها حسب الأهميّة.
لم يتم تثمير مقولة المقاصد عند ظهورها منذ ابن القيم والطوفي ثم الشاطبي: فالتراجع الحضاري ووضع الانحطاط حال دون ذلك وتعيّن انتظار صدمة الحداثة والاحتكاك بالغرب الاستعماري واكتشاف حجم تأخر العالم الإسلامي لإحياء ذلك الاختراع وتفعيله من قبل رجالات الإصلاح ومن ضمنهم التونسيون. ولا يمكن في هذا الإطار تجاهل مجهود محمد الطاهر بن عاشور الذي اقترح إنشاء علم للمقاصد يعوض علم أصول الفقه التقليدي. كما كان يتطلع إلى توحيد المقاصد ليتبين صعوبة ذلك في ضوء الاختلافات في تحديد ما هو مصلحة، الأمر الذي جعله يقترح مفهوم الاجتهاد الجماعي. لكن هذا المجهود النظري لم يجد ما يوازيه على صعيد التطبيق، حيث بقيت كتابات ابن عاشور وفتاويه حبيسة المسائل والرّؤى التقليدية، ما جعله يستعيد المقولات والأحكام القديمة حول العبيد وأهل الذمة وما إليها وكأنها مؤسسات طبيعية ودائمة. وبسبب هذا الذهول عن تحولات العالم والمجتمع التونسي ذاته، وهو ما كان يشاركه فيه أغلب علماء الزيتونة، لم يشكل ابن عاشور قدوة للباحثين عن معالجة مقاصدية حديثة. ولهذا السبب أيضا وجد واضعو التقرير ضالتهم في مساهمة المصلح خير الدين والجماعة الزيتونية المستنيرة التي دعمته ووفرت له المظلّة المقاصدية. وقد أبرز خير الدين في كتابه «أقوم المسالك» مقصد الحرية بوجهيها السياسي وخصوصا المدني أو الشخصي والذي شمل في نظره فكرة المساواة، إلا أن ذلك تم ضمن رؤية متكاملة تتعاضد وتترابط فيها قيمتا الحرية والمساواة بقيم العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
على أن اللجنة لم تقف عند مساهمة خير الدين ولا حتى عند الإصلاحات البورقيبية التي اعتبرتها نموذجا يحتذى، بل اعتبرت أن الكثير مازال مطلوبا للتكيف سواء مع التحولات التي عرفها المجتمع التونسي منذ مجلة الأحوال الشخصية أو مع ما يجري في الساحة الدولية على صعيد حقوق الإنسان والحريات. بل أنّ التقرير طالب بالإسراع في إصلاح
القوانين أو تغييرها وبالجرأة في طرح ومعالجة المسائل. وفي رأينا فإن المقاربة المقاصدية تسمح ليس فقط بإبراز قيمتي الحرية والمساواة وإنما كذلك بتقديم اقتراحات تشريعية لمزيد التمكين للمرأة ودعم مكانتها في الأسرة والمجتمع وإيجاد صيغة للربط بين مبدأي العدل والمساواة في تحديد حقوقها وواجباتها كامرأة وزوجة وكأمّ، وتحديد حقوق وواجبات الرجل والزوج والأب. كما تُتيح المقاربة المقاصدية تدقيق وتقنين ما نصّ عليه الدستور في مجال الحريات العامة والفردية. بيْد أنّ البناء «المقاصدي» الذي ذهبت إليه اللجنة يطرح أكثر من سؤال ويمكن أن يثير أكثر من اعتراض. فهل أن المقاربة المقاصدية لها إطار لا تتجاوزه هو تعاليم الدين الإسلامي في عمومها أم أنها مفتوحة على كل الممكنات؟ ما العمل عندما يتعيّن فهم وتأويل المقصود بكل من المصالح والمفاسد، علما ان تغير السياقات الإجماعية والثقافية من شأنه تعديل مضمون هذه المفاهيم؟ وهل ثمّة هيئة مخولة لتعريفها ومن يعطيها شرعية تحديد المقاصد والمصالح والمفاسد؟ ثم هل تحتفظ القراءة المقاصدية بمصداقيتها وبمقبوليتها إذا قامت على انتقاء ما يحبذه داعية الإصلاح من قيم وتعاليم وترك ما لا يلائم مشروعه كما فعلت لجنة تقرير الحريات الفردية والمساواة عندما أفردت بالاهتمام قيم الحرية والمساواة والعدل وتخلت عن الباقي؟ وأخيرا ما هو الفرق في هذه الحالة بين الأديان والمنظومات الفكرية والإيديولوجية الوضعية؟
ثمّة إذن مشكلة مصداقيّة عندما يدعي التقرير اعتماد مقاربة مقاصدية لغايات وتعاليم الدين الإسلامي ثم يذهب به هاجس التجديد والجرأة إلى تجاهل قيم محورية نشط حولها رجال الدين والناس الخيّرون كما شكّلت موضوع نزاع بين الحكام ورعاياهم طيلة ما يربو عن أربعة عشر قرنا. لكن مشكل المصداقية لا ينحصر في مدى انسجام ما جاء به التقرير مع
مصدر الإلهام والمقاصد بل يتجاوزه إلى مدى التزامه بما يدّعيه من اعتماد المقاربة المقاصدية عندما ينتقل من التمهيد وتقديم المبررات إلى اقتراح العلاج. فهل يبقى عند ذلك شيء من مقاصد الشريعة؟
تحوّلات وضع المرأة وقضية المساواة: سوسيولوجية كسيحة وقراءة أحاديّة الجانب
لن نتوقف كثيرًا عند مَا ادّعاه التقرير من اعتماد منهج تشاركي واستشارة للخبراء والجامعيّين في علم الاجتماع والدين والقانون، وهو ادعاء مثير للسخرية ويزيد إساءة لمصداقية اللجنة وعملها. الواقع انها اكتفت في الجانب السوسيولوجي، على الأقل، باستنساخ تقارير أُنجزت في إطار نشاط مركز البحوث والتوثيق والإعلام حول المرأة (كريديف) وما يهمنا في كل الأحوال هو التشخيص الذي تحملت اللجنة مسؤوليّة تقديمه كتحليل سوسيولوجي للتحولات التي عرفها المجتمع التونسي وعرفتها بالخصوص العائلة والمرأة منذ الاستقلال.
يعتبر التقرير مدعوما بالإحصائيات أن التحاق المرأة بسوق الشغل وضع حدا لوضع كان فيه الزوج/الأب هو المسؤول الوحيد عن تسيير العائلة والتصرف في مواردها، وأنّ التمدرس المكثف للبنات انتهى إلى ارتفاع نسب النجاح في صفوف الإناث مقارنة بالذكور وارتفاع نسب الطالبات في التعليم العالي مقارنة بالطلبة، كما حصل تحول عميق في دور النساء في توفير موارد العائلة. ورغم هذا التغير الكبير في الأدوار يلاحظ التقرير وجود «اختلال عميق وخطير في توزيع الثروة وتباين في التمكين الاقتصادي والمالي بين الجنسين» داعيا «لإرساء قوانين جديدة تساعد النساء على الاندماج بصورة عادلة» (كذا !).
بقطع النظر عن أخطاء الكتابة، وعمّا رافق المعطيات المرقّمة والتي هي في حكم المعروفة من مبالغات في وصف النواقص والتي توحي بان وضع المرأة قد تدهور خلافا لما يعرفه الجميع، فإن التقرير يقدم تحليلا غير مطابق للواقع عندما يتحدث إلى جانب الموقع المركزي للعائلة النووية اليوم عن «اضمحلال العائلة الموسعة» وتراجع مكانة المجموعة (والصحيح الجماعة) مقابل احتلال الفرد «مكانة جوهرية في المجتمع». نحن هنا إزاء وصف وتحليل بعيدين عن الواقع خاصة ونحن نعلم أن العائلات التي تبدو بصدد التفكك وهي تغادر الأرياف والقرى تتشكل من جديد بالمدن ضمن عائلات موسعة من نمط جديد لمجابهة مصاعب السكن والحياة والتضامن في الملمّات، وبالتالي أن الأطر والقيم الجماعوية مازالت حية وليست في عداد الماضي. وعليه فالوظيفة الوحيدة لهذا الخطاب الذي يرتدي حُلّة علم الاجتماع هي التمهيد والتبرير لما يليه من مقترحات تشريعية مدارها حقوق الفرد وحرياته والدافع إليها النهاية المزعومة للمجتمع الجماعوي وتعويضه بمجتمع الأفراد!
ولكن المشكل في حقيقة الأمر أكبر من هذا. ولنفترض جدلا أن كل ما تقدم صحيح ومطابق للواقع فماذا يُفترض أن ينجر عنه؟
لا حاجة لمتابعة التقرير في تذبذبه بين المصادرة بأن مشاركة المرأة في الإنفاق تستدعي بصورة آلية تسويتها مع الرجل في الإرث، على اعتبار أن توزيع الثروة مسألة اقتصادية اجتماعية بحتة، من جهة، والاضطرار إلى استدعاء المقاربة الدينية المقاصدية من جهة ثانية، بما يعني أن الموضوع يتجاوز البنيات والعلاقات المادية إلى الذهنيات وإلى الثقافة وإلى الدين، أي بالتحديد ما أهمله التحليل «السوسيولوجي» الذي قامت عليه المقترحات التشريعية ! إن أهم ما كان ينبغي لهذا البعد السوسيولوجي أن يبرزه فيما يتجاوز «البُنيات» هو «التمثلات» الاجتماعية والتي تلعب الدور الحاسم في مثل هذه الوضعية لأنها هي المعبّر عن الواقع التونسي الحي. فماذا لو توجه السؤال إلى المجتمع التونسي بمكونيه الرجالي والنسائي، وخاصة لهذا الأخير بوصفه المنتفع المُفترض من التسوية في الإرث؟
كنّا أوردنا في مقال سابق معطيات مسحين ميدانيين أجرتهما مؤسسة للبحوث الاجتماعية التطبيقية وشارك صاحب هذا المقال في وضع أسئلتهما وتحليل نتائجهما، وقد بيّنت أنّ أغلبية الثلثين تقريبا تعارض المساواة في الإرث أو على الأقل لا تطرحها. من يتصور أن الاقتصاد يحدّد كل شيء أو ان مشاركة المرأة في الإنفاق أو حصولها على شهادات سيقودها حتما إلى المطالبة بـ «حقها» في الميراث لا بدّ أن تصيبه الخيبة والصدمة عندما يعلم أن أكثر من نصف النساء يشاركن في الموقف الذي ذكرنا. كل هذا يشير إلى وجود انقسام عمودي وأفقي في صلب المجتمع التونسي حول الموضوع ويوجّه تنبيها إلى كل من يتصدى لهذه المسألة بضرورة اعتبار البعد الثقافي، وأكثر من ذلك، أنّ التركيبة الثقافية للمجتمع التونسي متأثرة لا محالة وعلى نطاق واسع بالتنشئة التي وضعت أسسها نخب الدولة الوطنية بقيادة الحبيب بورقيبة ولكنها ليست مطابقة لما أرادته وخطّطت له، كما أن المرأة التونسية تحررت على أكثر من صعيد واكتسبت ثقة كبيرة في نفسها وصارت تنافس الرجل بل تبزّه في أكثر من نشاط، ولكنها بدورها ليست نسخة مطابقة لما أرادته لها السياسات النسوية الحداثوية. ولهذا فالمطلوب فهم دواعي ودلالات مواقفهنّ بدل الاستغراب أو الإنكار. هنا سنكون في قلب الديناميات الثقافية وقضايا الهوية والانتماء الديني أو الحضاري ممّا لم يعبأ به التقرير وواضعوه. وفضلا عن ذلك فهذا تيار مجتمعي يعبر عن قسم مهم من التونسيين والتونسيات فهل يؤخذُ موقفه بعين الاعتبار ويعامل بمعايير حقوق الإنسان
والمنظمات الدوليّة التي يتخذ منها التقرير حكمًا في نزاعات التأويل وسلطة ملزمة لنا؟
يتبع