رئيس التحرير لعدد المغرب يوم الأحد الماضي، عن «برلمان المهازل» و«جمهورية القبائل» و«التوافق المغشوش»، تفاعلا لا رد أو تعقيب فيه، إنما محاولة لإثراء النقاش العام حول «مصطلحات مفاتيح» و«مفاهيم مفصلية وحاسمة" تكاد تتردد على ألسنة غالبية النخب الفكرية والسياسية والإعلامية، في سبيلها إلى تحليل هذا المشهد المحير في تقلبه وتعقده كلما تصورنا إنه في طريقه إلى الانسياب والعودة إلى المسارات الطبيعية.
فديمقراطيتنا الناشئة وكأنها مولودة قبل أوانها بشهرين أو ثلاثة، اضطررنا إلى وضعها في الحاضنة التابعة لقسم العناية المركزة، على نحو يصعب معه التكهن إن كانت ستكتب لها الحياة، أم أنها ستختنق وتلفظ أنفسها، ومن مر بتجربة جنين ولد قبل أوانه سداسيا أو سباعيا يعرف معاناة الأولياء، فاليوم يمر عليهم بطول سنة، كلما لاحت في أفق الوليد بشائر، إلا وفاجأهم بانتكاسة جراء جرثومة صغيرة تسربت من ممرضة متهاونة، أو حتى تلوث في هواء الغرفة، أو فيروسا معديا انتقل من وليد مجاور، فهذه المرحلة الانتقالية التي هي من منظور التاريخ قصيرة مهما طالت، طويلة جدا على أهلها والمعنيين بنجاحها، خصوصا في ظل وجود أقارب لا يتمنون للمولود العافية، لأنهم يودون لو بقيت الأم عاقرا حتى لا تحرج العاقرات من العائلة، أو حتى يشمت الحساد في المرأة الغريبة.
ما جرى في البرلمان يوم السبت الماضي، صورة مما يمكن أن يصبح مشهدا متكررا يتمناه البعض لتونس التي استعصت إلى حد الآن على العودة إلى سربها، بتجديد «الديكتاتورية» أو معانقة «الفوضى»، فعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي ينقسم فيها التونسيون إلى معسكرين كل يتمترس وراء خندقه مخونا الآخر، إلا أن الاعتقاد الذي ساد ولو للحظة وعند البعض، إننا في سبيلنا إلى تجاوز صراع «العقيدة» إلى صراع «البرامج»، وإننا لن نعود إلى تقسيم التونسيين إلى جماعة «الثورة» وجماعة «الثورة المضادة» بالنظر إلى طبيعة الثورة التونسية الخاصة و«الأسس الإصلاحية» التي استندت إليها، مما جنبنا كثيرا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، فما يحاك للوطن اليوم خطير، ومن يظن إنه سيربح المعركة ويسحق الآخر مخطئ تماما، ولئن تبين لنا إن «التوافق السابق» مغشوش، فيجب أن لا نعمل على تعويضه بـ«اللاتوافق»، بل بتوافق جديد يقوم على قواعد واتفاقات واضحة وصحيحة وملزمة للأطراف جميعا.
علينا جميعا أن نحذر اللعب بالنار، خصوصا ونحن مقبلون على استحقاق انتخابي حاسم، ولا أرى من العقل أن نحول ما يفترض أن يكون عرسا وطنيا ومحطة تعزز الانتقال الديمقراطي، إلى مجزرة الغاية منها التشفي والإقصاء، فلا أحد في الديمقراطية يمكن أن ينتصر إلى الأبد، والمنهزمون اليوم في الانتخابات قد يكونون غدا عجينة المشاريع السياسية القادمة، ومن يفكر في إعادة عقارب الوطن إلى الوراء مخطئ أيضا، من قبيل هؤلاء الذين يحلمون بإعادة إنتاج أنظمة ديكتاتورية قوامها حل الأحزاب والتمكين بالقوة الأمنية لفئة فكرية أو سياسية دون أخرى، أو هؤلاء الذين يروجون لخطابات فاشية متطرفة قوامها التبشير بحلول سهلة لمشاكلنا العويصة.
إن أحد أهم المعوقات التي تعترض سبيل ديمقراطيتنا الناشئة، هو هذا الفارق الزمني بين التحول السياسي، الدستوري والقانوني، والتحول الثقافي، التحول على مستوى العقل السياسي الذي عادة ما يحتاج جهدا أكبر ووقتا أطول، وبعبارة أخرى فقد كان بمقدورنا بناء نظام ديمقراطي من الناحية الدستورية والقانونية والمؤسساتية في ظرف لم يتجاوز بضع سنوات، بينما ظل العقل السياسي المتحكم في سلوكنا، الحزبي والبرلماني والحكومي والمؤسساتي، هو العقل السياسي العربي بمحدداته الكلاسيكية المعروفة «العقيدة» و«القبيلة» و«الغنيمة»، مثلما نلاحظ في تجلياته يوميا، فكيف نغير محددات عقلنا السياسي القديم، حتى يسود عقل سياسي جديد يتفق مع احتياجات نظامنا الديمقراطي الوليد، ذلك جهد عظيم يجب أن يبذل وليس من
ضمان لبذله إلا أن تحضر «الحكمة» في مكان «المصلحة الآنية الضيقة»، ويغلب الإحساس بالمسؤولية على التهور والسلوكيات العبثية، وتتضامن «الجودة» من مختلف التيارات والمدارس في مواجهة «الرداءة» القديمة والجديدة التي تحسن عادة التحالف فيما بينها.
ها نحن في مواجهة خمس عقبات كبرى، فكيف ستجتازها ديمقراطيتنا بسلام دون أن يكسر عنقها، من قبل «المغامر» أو «المغامرين» أو «المقامرين» وما أكثرهم. كيف لنا أن نصنع «التنمية المتعثرة»، ونعالج «الحكومة المتعثرة»، ونداوي «الأحزاب الناقصة»، ونراجع «النقابة المستعلية»، ونقنع «البرجوازية المحافظة»، خصوصا في ظل أجواء تهيمن عليها إكراهات «الحملة الانتخابية»، وحروب «الخلافة المستعجلة»، وضرورات «الإصلاحات المستوجبة».
لقد كان «التوافق» الذي كرهه «البعض» ضرورة لا مناص منها عند «البعض» الذي تحمس له، ففي مستواه الأعلى كان ضروريا لأنه هو –أي التوافق- من أنهى «باردو» بسلام، وهو من مهد الأرضية للحوار الوطني، وهو من سهل كتابة الدستور، وهو من قاد إلى انتخابات 2014، وهو من أرسى دعائم الجمهورية الثانية، وهو من أضفى على التجربة التونسية التميز والمصداقية، وهو من منح الشعب التونسي أهم جائزة تقديرية دولية، وفي مستواه الأدنى هو من ضمن تشكل الحكومة الأولى والحكومة الثانية، وهو من ساعد على تشريع ما يقارب الثلاثمائة قانون جديد، وهو من تسبب في استكمال بعض الهيئات والمؤسسات الدستورية رغم النقائص المسجلة، فهل من بديل مقنع وعملي لهذه السيرة..من يملك البديل الذي يضمن الحفاظ على مكتسبات المرحلة وتفادي النقائص الظاهرة، كما يضمن للديمقراطية الاستمرارية فنحن بأمس الحاجة لتدخله العاجل رجاءا.
ليست هذه المرة الأولى التي يمنحنا فيها القدر فرصة إحداث القطيعة المطلوبة مع «براديغم» الطاعة، ومراجعة تراثنا السلطاني الاستبدادي، وتحديث نظامنا السياسي، وإنجاز مشروعنا الحضاري الوطني، ولكن سيرتنا في التجربتين الماضيتين كانت مخيبة للآمال. كان فيها كثير من «الإطلاقية» على حساب «النسبية»، وكان فيها الكثير من الصلف والغرور على حساب التواضع المطلوب، وكانت فيها الكثير من قلة الثقة والمؤامرة والمكيدة والمصالح الفئوية والأنانية على حساب المرجعية الأخلاقية والسيرة العقلانية والمصالح العليا للوطن والأمة، فلماذا يصر بعضنا على تكرار أخطاء التجارب السالفة لندرك النتائج ذاتها، ولماذا لم يتعلم بعضنا من الحداثة إلا الغرور والاستعلاء، ولم يتعلم بعضنا من الدين إلا ما أريكم إلا ما أرى..لنجرب التفكير من موقع «الوطن» لا موقع «الحزب»، أليس الوطن أولا؟
خالد شوكات