عبر منابرها في التجاذبات السياسية وتوظيفها و استغلالها للدعاية لبعض الأحزاب المعنيّة بالاستحقاق الانتخابي واردة ومتاحة .. لذلك كان تمشّي وزارة الشّـؤون الدّينية جريئا وصائبا حين أصدرت بلاغا دعت فيه إلى تحييد المساجد عن التوظيف لأي طرف حزبي أو سياسي. وحين تابعت بكامل اليقظة عبر الإيقاف المؤقّت عن تعاطي الخطة المسجدية لما يناهز الأربعين من الإطارات المسجديّة المترشّحة لهذه الانتخابات حتى تضمن للمساجد حيادها وتنأى بها عن كلّ نشاط لا يتماشى ومهامّها الدّينية..وفي جهة أخرى واصلت الوزارة منذ شهر ديسمبر الماضي تنظيم الندوة العلميّة - الموسومة «المسجد بين الوظيفة والتوظيف». – والعنوان مقصود وهادف متناغم مع متطلبات المرحلة -في مختلف أقاليم البلاد -آخرها توزر يوم 03 مارس الماضي - بتشريك الوعّاظ والواعظات وعدد من الإطارات الدّينيّة وإطارات من الإدارة المركزيّة للوزارة.
جميل هذا التمشّي لأنّ مسألة التوظيف ظاهرة معقّدة والخيط الفاصل بين الوظيفة والتوظيف رقيق جدا ومن ثمّ تكتسي أهمية بالغة لما تمثّله من راهنية ولما تفرزه من انعكاسات متعددة الاتجاهات لا يستهان بها...
• فأي المساجد نحتاج اليوم ؟
لا نحتاج إلى جوامع ومساجد ..
نعم لا نحتاج إلى مساجد تتسلّط عليها محاولات التطويع فتدفعها نحو انكماش دورها تارة أو الزجّ بها في استخدامات رخيصة تقوّض رسالتها وتحطُّ من مكانتها.
نعم لا نحتاج إلى جوامع لا تخضع لعملية نقد ذاتي وموضوعي واستراتيجي استشرافي لأداء الخطاب الديني داخلها ..
نعم لا نحتاج إلى مساجد لا يؤمن روادها ولا أئمتها بتأثير الخطاب الدّيني نفسيا وسلوكيا وإسهامه في بناء شخصية المسلم التونسي اليوم بعد فوضى التشددّ وتسيب التصحّر.
نعم لا نحتاج إلى جوامع لا يتبوّأ فيها خطاب المساجد مقامه ولا يؤدّي دوره بإجادة وريادة حتّى يمسي بذلك محرّكا قادرا على توجيه النّاس نحو الصلاح والإصلاح.
نعم لا نحتاج إلى مساجد تتكاثر وتزركش في أشكالها وتضخّ فيها الأموال الكبرى لتتحوّل إلى سبب الفرقة في المدينة الواحدة ولا إلى فضاء للرياء والتفاخر بعيدا عن الإخلاص وَ قد جَاءَ فِي حَدِيثِ السيدة عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، لَا يُرِيدُ بِهِ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ” رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ولا إلى أبواق
دعاية يتسلّلَ إليها التوظيف عبر تباين مرجعيات الخطباء أحيانا، وعبر إفرازها لخطاب ديني متفاوت من شأنه أن يعسّر عملية التقييم الإجمالي ويعيق الاتّجاه صوب خطاب ديني متقارب..
لا نحتاج إلى جوامع خطباؤها لا تتوفّر فيهم الكفاءة العلمية – حاليا ما يناهز 6 في المائة فقط من أهل الإختصاص - ولا القدرة على الوصل بين الخطب وواقع النّاس ولا يتردّدون في الصدع بالحق مع الإخلاص لله لا لأحزابهم ولا لمذاهبهم الضيّقة ولا يخشون في ذلك لومة لائم فلا يلتمسون رضاء العوام ولا حتّى رضاء الحكّام، وإنّما تكون كلمتهم هي إرضاء الله عزّ
وجلّ، «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» سورة الأحزاب: الآية 39.
لا نحتاج إلى مساجد لا يتسلّح روادها وأئمتها بالعقلانية غير متشبّعين بقيم الاعتدال و مبادئ السماحة ومعالم الوسطية، وفقا لمنهج مرن يعتمد التيسير والتبشير ونبذ الغلو في الدين والتنطّع في العبادات والتشدد في المعاملات...
لا نحتاج إلى جوامع تبتعد عن الإنارة الجّادة وتقع في الإثارة العابثة، كما كان الحال في سنوات ما بعد 2011 حين اعتلى المنابر المتطفّلون والمسيّسون ممن استحوذوا عليها بالغلبة والترهيب، في ظلّ ما عاشته مساجدنا من اختلال عام، وغياب الدولة فتمّ السعي لتوظيف الخطاب الديني بالمساجد لأغراض سياسوية واستخدام المنابر للتهييج والتلهيب والإثارة بدل
التعقّل والتبصير والإنارة، وإرباك الوظيفة بالتوظيف، وتحوّلت إلى أوعية للتكفير والعنف والبذاءة والصراخ والانفلات. وصوتا للفكر المتطرّف، ومصانعا لإعداد الغلاة وتفريخ الإرهابيين . ودورا مشبوها لبذر الفتن واستصدار فتاوى القتل والفساد، وزرع اليأس والقنوط والإحباط في قلوب الشباب، وغرس ثقافة الموت وقتل ما تبقى فيهم من الانتماء لأهلهم
وأوطانهم، مما أفضى إلى ضياع خيرة شبابنا في جهاد موهوم كانت خطابات أئمة الجوامع سببا دافعا لهم –حتّى لا ننسى ما صنعه الخادمي /والمختار الجبالي /ورضا الجوادي/والبشير بن حسن وغير هؤلاء ممن لبسوا اليوم جبّة الاعتدال تخفيّا -.
لا نحتاج إلى مساجد يستثمر فيها في الحجر فقط – كلفة بناء بعض المساجد الجديدة فاقت المليارين- ولا يستثمر في البشر فلا بدّ من العناية المادية والاعتبارية للقائمين على بيوت الله، بعد سنوات طويلة من التهميش و تخديرهم بمقولات من قبيل أن الله اختارهم لخدمة بيوته لنيل الثواب ، فهي كلمة حق أريد بها باطل. فلابدّ من حفظ كرامة القائمين على المساجد فلم تعد المنح الزهيدة تفي بالحاجة بل هي مجلبة للإهانة . فلابدّ من تهيئة الميزانية الملائمة لمزيد مراعاة الإنسان قبل المكان، فالحديث عن المساجد يهتم بالمعمار ولا يهتمّ بالرجال .
لا نحتاج إلى جوامع لا تعكس هموم الناس ويومياتهم ومشاغلهم الواقعية في شتّى الموضوعات الإسلامية ولا تنادي بالإصلاح السياسى والتربوي والاقتصادي والاجتماعي دون الانزلاق في التوظيف والإملاءات أو الانغماس في حماسة عفوية مفضية للتحامل والتشويه ودون الانحدار إلى درك الشعبوية والسذاجة والنفخ في المسائل الهامشية الممجوجة وما يخالطها من رداءة ودون نشر الميولات الخاصة واستدرار تعاطف المصلين واستمالتهم لفصيل بعينه، بتوظيف الخطاب الديني لخدمة برامج حزبية وتنميقها وإضفاء شرعية دينية على هذه الخيارات أو تلك والترويج والدعاية لها والتسبيح بحمدها وتبرير التوجهات السياسية والخضوع لهيمنتها، بل لابدّ من دوام استحضار قوله تعالى:»وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا» الجنّ/ 18 ..
• نحتاج إلى جوامع ومساجد ..
نعم نحتاج إلى جوامع ومساجد جميلة وتتوفّر على الرفاهة دون السماح بإهدار المال العام –ما يقارب 20 مليار كلفة الكهرباء دون نسيان كلفة الماء على المجموعة الوطنية-
نعم نحتاج إلى مساجد تكرم إطاراتها بالحقوق المادية والاجتماعية اللائقة
نعم نحتاج إلى جوامع يكون إطاراتها من خرّيجي المدارس الوطنية للإئمة من ذوي الاختصاص والأهلية العلمية .
نعم نحتاج إلى مساجد تكون عمارتها بِبِنَائِهَا، وَتَنْظِيفِهَا، وَفَرْشِهَا، وَإِنَارَتِهَا، كَمَا تَكُونُ عِمَارَتُهَا: بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ عَلَيْهَا لِحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَتَعَلُّمِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَتَعْلِيمِهَا، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ.
نعم نحتاج إلى مساجد نتعلّم فيها ثوابت القيم وجميل المفاهيم وقويم السلوك..
نتعلّم فيها أنّ للإنسان حرية الفكر واختيار العقيدة، وأنّه لا يُكره أحد على أداء شعائره كما قال الله: «لا إكْرَاهَ فِيْ الدِّينِ قَدْ تَبيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغّيِّ» البقرة: 256.
وأنّه لا يسمح لأحد بأن يتدخّل في عقائد الآخرين أو أن يحاسبهم وكأنّه إله كما قال الله «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ؛ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ» الغاشية: 25-26..نتعلّم فيها أنّ تقييم النّاس بالمحبّة التي في قلوبهم، لا ذلك التقييم بما يلبسون...ونتعلّم فيها رفض الظلم بكل معانيه والإعتداء والعنف بكلّ أشكاله ونتعلّم فيها التعايش والدفاع عن كنائس ومعابد غير المسلمين، كما ندافع عن المساجد. فقد قال تعالى: «ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهُم ببعْضٍ لهُدِّمَتْ صَوامعُ وبيَعٌ وصَلواتٌ وَمَسَاجدُ يُذكَرُ فيها اسمُ اللهِ كثيرًا» الحج: 40.
نريد مساجد وجوامع فيها نعلو بالتواضع ونسمو بالرحمة والمغفرة و تسمو فيها الروح فوق الأحرف والكلمات، ويكون روادها «ربانيين» يراهم الناس ويرون أعمالهم الحسنة وثمرات سلوكهم البنّاء تناغما بين النظري والتطبيقي كما قال تعالى «وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ» آل عمران: 79.
لا نريد ولا نحتاج إلى جوامع ومساجد غير محايدة تنحاز وتوظّف وتفرّق وتكفّر ...بل نريد جوامع ومساجد جامعة لقيم تحترم الفكر والتنوّع والاختلاف وتقدّس الجمال والإبداع وتغذّي الروح والعقل وتبني ثوابت يشترك فيها الجميع ..