ما يسمى اليوم بشطّ الجريد وكل ما يوجد في هذا البحر أن ذاك كوّن تدريجيّا طبقة جيولوجيّة أستخرج منها الفسفاط.
وإن ذكرت هذه المرحلة لأننّي أريد أن أؤكد على خصوصيات هذه المنطقة التي تعتبر من الأقدم تاريخيا في شمال أفريقيّا.
ورغم ذلك نستمع ونقرأ غالبا أن تونس هي بلد 3000 سنة من الحضارة وتحوّل هذا الرأي الى إيديولوجية وأصبحت الطبقة السياسيّة بدون استثناء تعيد وتكرّر هذا الموقف الإقصائي.
ولا يمكن أن نفهم ما يجري في الحوض المنجمي اليوم دون الأخذ بعين الاعتبار هذا الموقف السلبي والعنصري الذي يعتبر تاريخ تونس ينحصر في 3000 سنة فقط.
وكل ما جاء قبل التاريخ فهو ملغى ولا يندرج في مفهوم الهويّة التاريخيّة والحضاريّة للشعب التونسي، ومن بين انعكاسات هذا الإقصاء تهميش بصفة واعية او غير واعية سكّان الجنوب الغربي وحتى الشماليّ منه ورفض ادماج هؤلاء فيما يسمّى (الهويّة التونسية) وجعلهم خارج المرجعيّة الوطنيّة، وهذا الأمر يفسّر جزئيّا التشكيك الدائم من طرف هؤلاء في نزاهة خطاب السلطة المركزيّة التي جعلت منهم عبيدا لشركة الفسفاط فقط أصبح شباب هذه المنطقة لا يرى أي مستقبل خارج الحوض المنجمي.
أما عن الانعكاس الثاني فقد أصبحت التنمية منحصرة في المخيال الفسفاطي رغم ان هذه المنطقة تمتلك ثروات عديدة والمراجع كثيرة التي تؤكّد على انها تحمل ابعادا تنموية ثابتة جمالية طبيعية متنوعة (فلاحة، صحراء، واحات، جبال وأودية).
كما أدّى هذا الإقصاء الإيديولوجي الى ظهور ثقافة مناهضة للسلطة المركزيّة وهو يمثل ردّا عفويا على الخطاب السياسي الذي نشأ منذ الاستقلال والذي تواصل الى يومنا هذا ويمكننا ذكر على سبيل المثال بعض المؤشرات:
- في مؤتمر الحزب الحرّ الدستوري التونسي سنة 1959 قلّل الحبيب بورقيبة في خطابه من دور الثوّار ضمن الحركة المسلّحة وغيّب دور «الفلاقة» ودور الحركات الشعبيّة التي ناضلت من أجل الاستقلال.
- وبعد محاولة الإنقلاب التي عرفت باسم لزهر الشرايطي وقع اتهّام مباشر لجهة قفصة بكل فئاتها بالتمرّد على السلطة وبدأت تصفية زعماء هذه الجهة سواء كانوا ينتمون الى الحركة النقابيّة أو إلى الحزب الحّر الدستوري ، و تم أيضا تشويه صورة الذين كانوا ضدّ نظرية الانقلاب الى درجة انّه تم من طرف بعض من أقرباء بورقيبة اتهّام احمد التليلي باعتباره كان على علم بإعداد هذا الانقلاب ، و منذ ذلك الوقت اصبح أحمد التليلي مطاردا مراقبا ومحاصرا... و قد تمّ فيما بعد توظيف المحاولة الانقلابية لتأسيس الحزب الواحد الجهوي الساحلي في سنة 1964 .
- لما رفض أبناء الجهة الالتزام بتحويل غابتهم الى أراضي تعاضديّة انفعل النظام واتهمّهم بمعادة الاشتراكيّة الدستورّية وكانت البيروقراطية الاشتراكيّة الدستوريّة غير قادرة على فهم ان الغابة في الواحة تعتبر جزء من العائلة ولا يمكن التفريط فيها كما هو الشأن لبقيّة افرادها.
- وفي أحداث قفصة سنة 1980 كان الرّد من طرف السلطة وعلى لسان السيّد الهادي نويرة ان الحل الأفضل هو القضاء أمنيّا وعسكريّا على مدينة قفصة.
وحتى لا نطيل هذه الأمثلة المؤلمة نقف على تلك التي كانت الانطلاقة الأولى لمناهضة السلطة علنيّا وجماعيّا للمطالبة بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة ألا وهي: احداث الحوض المنجمي سنة 2008 وكانت هذه الأحداث بمثابة انطلاق المسيرة من اجل إطاحة الدكتاتوريّة، ومع الأسف الشديد ان ضحايا هذه الثورة الأولى قد وقع نسيانهم ونسيان هذا الحدث التاريخي الذي قضى على ثقافة الخوف وحدّد نسبيّا خصوصيّات مطالب الثورة «كرامة، حرية وعدالة اجتماعية».
كل هذه الأمثلة تؤكّد على أنّ الشباب في الجهة لا يعيش ظروف البطالة فقط بل يعيش أيضا التهميش والقلق الاجتماعي malaise sociale) ) وذلك من خلال تناسي جذوره التاريخيّة من ناحية و تحويله الى سجين في الحوض المنجمي من ناحية أخرى .
أما الحلول فهي حسب رأييّ:
أولّا الخروج من الخطاب السياسي التاريخّي الإقصائي وكل من يحدثّنا على انّ تونس تأسست حضارتها منذ 3000 سنة فهو مخطئ ومتنّكر الى تاريخ الشعب التونسي في شموليّته.
ثانيا إخراج شباب الحوض المنجمي من سجون الفسفاط وفتح افاق تنمويّة مغايرة تماما للمفهوم التنمّوي التقليدي والاستعماري.
ثالثا إعادة النظر في دور شركة الفسفاط وفي استراتيجيّاتها المستقبلية في الجهة وتنظيم أيّام دراسيّة حول أفاق التنمية البديلة يشارك فيها ممثلّو المؤسسات والمنظّمات الوطنية وممثلون عن شركة الفسفاط والجمعيّات المعنيّة بالأمر ....
أخيرا أذّكر وعلى سبيل المثال: لقد طالبنا منذ أكثر من 30 سنة بإبراز الخصوصيّات الفريدة لهذه الجهة من خلال إنجاز مرّكب متحفي حديث eco-Musée)) يفتح لأبناء الجهة آفاقا رمزيّة وماديّة ويقف ضد العزلة الفكريّة والثقافيّة التي ساهم في بثّها الخطاب السياسي النمطّي التقليدي، ومع الأسف تداولت الحكومات بأنواعها دون أن تستجيب الى هذا المطلب المحورّي الذي يتجاوز جهة قفصة باعتباره منارة لما قبل التاريخ الى اليوم.
ويدّل هذا الرفض من طرف كل الحكومات قبل وبعد الثورة على أن الطبقة السياسيّة في أغلبها لا ترى شيئا آخر في الجنوب الغربي غير الفسفاط.