الناس الشخصيّات.الشخصيّات علامات. إثنان من الحاضرين لبسا الجبّة والكدرون. حطّ واحد كبّوسا أحمر والآخر عمامة بيضاء. بما لبسا، يثبت الرجلان الشخصيّة التونسيّة. يؤكّدان الأصل. أمّا بقية الناس فجاؤوا كما تعوّدوا. دون علامات...
انتهى المحاضر الأوّل وألقيت بعض الأسئلة على عجل، في بعض فوضى. جاء دور المحاضر الثاني وهو الأستاذ محمود الذوّادي وعنوان مداخلته: «الشخصيّة التونسيّة واللغة».أعرف الأستاذ الذوّادي من قبل. كنت نشرت له في جريدة المغرب عديد المقالات. جميع مقالات الأستاذ كتبت في نفس الباب. تتناول نفس الإشكال. تحمل نفس الحجج، نفس البيان... كان الرجل جالسا على كرسيّ وبيده المصدح. هو قصير القامة. نحيف. لا يتحرّك. لا أراه. انطلق بسرعة يبيّن ما للغة من أهمّيّة في بناء الذات وما في العربيّة الفصحى من عظمة ومن إعجاز. ليس في الدنيا لغة تضاهي لغة الضادّ.
هي لغة القرآن. هي لغة التنوّع والثراء. فيها من المفردات ما لا يحصى ومن البيان ما لا تلقاه في أيّ لغة من اللغات. ثم يضيف: «العربيّة هي لغتنا وهي البانيّة لشخصيّتنا.هي القائمة في الأعماق والمحدّدة للذات». كل اخلال بالعربيّة هو إخلال بذواتنا. فيه فصم وانشطار. ثمّ يضيف: ترك التونسيون لغتهم وما فيها من صفاء. تخاطبوا بلغة لقطاء وها هم اليوم في ازدواجيّة بغيضة، مضرّة بالأنا، بالبلاد...كلّ الشعوب أدركت ما للغة الأمّ من أثر بليغ في الفهم، في الخطاب، إلا نحن وقد أهملنا العربيّة منذ الاستقلال... الى غير ذلك من الحجج، من الشعارات، من الكلام المعتاد. ثم يؤكّد المحاضر أنّه حفاظا على العربيّة وحرصا منه على اعتمادها في كلّ ميدان، هو دوما يعمد إلى كتابة صكوكه البنكيّة بلغة الضادّ...
ذاك هو طرح الذوّادي. تقريبا. طرح قديم، قدم الزمان. حسب الأستاذ، العربيّة القحّة هي الخصوصيّة المميّزة للتونسيّين وبها نشؤوا وبفضلها تأسّس فهمهم وبنيت ذواتهم. بقدر الحفاظ عليها واعتبارا لما تحمل من بلاغة وصفاء، ينمو الفرد وتكتمل شخصيّته. بلغته العربيّة، يكون العبد أفضل تقويم وأحسن حال... ذاك تقريبا ما جاء في المحاضرة. دفاع شديد على لغة الضّاد ووقوف مستميت في وجه كلّ مسّ أو شكّ في قدراتها على التبليغ، على الاتّصال. في ما أدركت من محاضرة الأستاذ، كلّ تونسيّ يتخلّى عن العربيّة أو هو يلجأ الى غيرها من اللغات هو ناقص، معتلّ. خارج العربيّة، لا شخصيّة للتونسيّ تقام بل سوف تضطرب عنده الذات. سوف يصيبها إختلال واختبال...
مثل هذا الكلام متداول عند بعض المثقّفين. سمعته عديد المرّات.هو خطاب سهل، معتاد. يلقى عند الدهماء دوما أثرا كثيرا ومساندة. في ما أرى، أصبحت العربيّة كالقضيّة الفلسطينية. كلّ الناس لها تتحمّس. كلّ العباد معها تتعاطف. حسب الذوّادي، يجب العود الى العربيّة واعتمادها اعتمادا كاملا في التدريس، في العمل، في كلّ شأن من شؤون الحياة. أمّا الازدواجية اللغويّة فهي مضرّة بالذات وفيها إفساد للفهم وضرب للإبداع. الى غير ذلك من الكلام...كنت أعتقد أنّ موضوع التعريب قد انتهى. أنّ الناس أدركت، مع الزمان، ما في تعلّم اللغات من ثراء وما في التعدّد من دفع للفكر وتفتّح على الحياة. في ما أرى، لم تنته القضيّة رغم ما كان من تجارب ومن خيبات. في ما أرى، ها نحن نعود الى ما كان...
ما يزال البعض فينا في أوّل الزمان. واقف على الأطلال. مع الذوّادي، رأيت عنترة ابن شدّاد. ها هو يبكي عبلة. يتلمّس الرماد. يشمّ روث البعير وبعر الجمال...منذ الجاهليّة، لم يتغيّر لنا حال. نحن دوما واقفون على الأطلال. نبكي الماضي وما كان في غابر الأيّام. نبكي الرسول والخلفاء. نبكي دمشق والأندلس وبغداد. نبكي السلف وما فات من الزمان. قتلنا السلف.أهلكنا الماضي. لسنا من هذا الزمان. توقّف عند العرب الزمان. نحيا ورؤوسنا جميعا مشدودة الى الوراء...
أنا لا أحبّ الطرح التكرار. ذاك الذي تلقاه في كلّ مكان. يحمل نفس الحجج، نفس البيان. بلا طعم، بلا جمال. أنا أخشى الأنصار، من تعصّب للأحزاب، للعربيّة، للقوميّة، للاشتراكيّة ، للإسلام... في كلّ دفاع بليغ أرى مبالغة. أشمّ تجارة ومصالح. كل هيج وحماسة هو عنديّ إشهار. فيه زور ونفاق. فيه خبز وغايات...
هل العربيّة قادرة اليوم على ترجمة هموم العصر واشكاليّات الحداثة؟ هل هي قادرةعلىاستيعاب العلوم وما كان من تطوّر ومن مخترعات؟ هل من الممكن اعتمادها في البيع، في الشراء، في التعلّم، في البحث، في الطبّ، في الفلاحة، في الصناعة، في الخدمات، في الاعلاميّة، في شتّى مجالات الحياة؟ هل هيّ حقّا تصلح للعيش الآن؟ لا أعتقد. العربيّة اليوم في وهن، في عجز، في تحجّر، في إهمال... أنظر، إن شئت، في ما كان في العربيّة من إصدارات؟ إسأل، إن شئت، كم قرأ العرب جميعا من أوراق؟ العربيّة اليوم لغة الأقلّيّات. لغة الجهلة وضعاف الفكر والحال. أفليست اللغة صورة من أهلها، ترجمان لعيشهم، لفكرهم، لما يأتون من خير ومن فساد؟ اللغة أداة. هي مرآة. كيفما كان الناطقون بها كانت. كيفما كانت كانوا...
العرب اليوم في جهل مبين، في تخلّف، في فوضى عارمة. العربيّة اليوم في وهن بليغ، في تخلّف، في تعثّر بان في البيوت، في الشوارع، في الحوانيت، في الجامعات، في المصحّات...حيث أمشي شرقا وغربا، ألقى عسرا في اعتماد العربيّة. عند كلّ تواصل مع الناس، مع إخوتي، مع صحبي، مع أطفالي، القى مشقّة. في كلّ أمر، في كلّ شأن، في كلّ يوم، في كلّ مكان، لا أجد في العربيّة كلماتي. لم تتطوّر العربيّة. ليس فيها من المفردات ما يفي. في كلّ مرّة، للتعبير عن رأيي، عن حاجياتي، ألتجي الى الفرنسيّة، الى النعوت، الى الاشارات. العربيّة اليوم غير قادرة على التبليغ وهذا نراه صباحا، مساء وفي كلّ الأحداث... أمّا العلوم والبحوث والكتابة والنشر وما يجري في المؤتمرات من علم ومن مداولات، فلا وجود فيها للغة الضادّ.لا شأن للعربيّة في العلوم، في الصناعة، في التجارة، في الأدب، في الفنون، في السياسة. في الحياة. العربيّة ليست من هذا الزمان...
العربيّة ليست لغة كاللّغات. هي عند العرب المسلمين لغة القرآن. بها نصلّي ونصوم ونأتي الدعوات. بها نرجوالفلاح ودخول الجنّات. ما كانت العربيّة لغة الدهماء ولا لغة الفلاحة والمصانع والحياة. هي لغة السماء. تلقاها في الكتاتيب وفي المساجد. تلقاها في الصلوات. لا تجدها في الشوارع. لا يتكلّمها عامّة الناس. هي قدسيّة، مقدّسة. أصلها في السماء. لا يمسّها المدنّسون ولا العامّة.لا يمسّها الا المطهّرون من الناس. هي لغة الأيمّة والفقهاء. للناس العامّة لغتهم. للكهنوت لغتهم.العربيّة هي القرآن. صالحة لكلّ زمان ومكان...
أنا أقول هذا وفي قلبي وجع. أنا أحيا تناقضا. أكتب بالعربيّة وأرجو لما أكتب رواجا. أكتب بلغة الضادّ وأعلم أنّ لغة الضادّ قد انتهت منذ زمان أو هي تمشي الى زوال. ذاك ما أرى. ذاك هو عندي، خلافا للأستاذ الذوّادي، واقع الحال... أرى بعض الوجوه غاضبة. أسمع بعضهم يقول: «أنت من أزلام الغرب. أنت من أيتام فرنسا...»فليقل هؤلاء ما شاؤوا من القول وليسبّوا كما اعتادوا. ذاك ما أعتقد وقد أكون مخطئا في الاعتقاد... في ما أرى، العربيّة اليوم لا تطعم أهلها. لا توفّر خبزا ولا ماء. لا توفّر شغلا ولا وظيفا. لا تضمن بيعا ولا شراء...
(يتبع)