كلّ يريد أن يكون له السبق و«نضالاته» هي الأشدّ...
ما من شكّ، هناك في الرقاب فقر وبطالة. ما من شكّ، هناك في تلك البقاع بؤس وعيش ضنك. لكن، هل بالاعتصام تتغيّر الأحوال وتحصل التنميّة؟ هل بالإضرابات يكون الاستثمار ويرتقي الشغل؟ أنا لا أعتقد. لا أحد عاقل في هذه الأرض يعتقد. مع الاضطرابات، لن يحصل استثمار ولا نموّ. في ظلّ الهيج والمرج، لن يحصل تطوّر ولن يحصل أيّ شيء ينفع. مثل هذا، هو تصرّف أعرج. مضرّ... سوف يزيد «اعتصام الحسم» في الرقاب من البطالة وسوف يعمّق الفقر والخصاصة... هذا الفكر الذي أقول متعارف بين الناس وكنت أعدته وغيري مرارا عدّة. لكن الناس، أكثرهم، لا يعي ولا يتبيّن...
قرأت ردود فعل القرّاء على ما كتب صاحبي وجاءت الردود سريعة، فيها شدّة وتوتّر. تعالت الأصوات تندّد بما كان في الرقاب من حيف ومن استغلال ومن انعدام تنميّة. حسب أحدهم، أراضي الرقاب هي في قبضة الصفاقسيّة وهم اليوم يستغلّون وينعمون. الى غير ذلك من الكلام المفتّن. بدوري كتبت ردّا. قلت فيه: «من باع الأراضي (في الرقاب) هم الأهالي». فجاء جواب السيد محمّد العربي زريبي، صاحبي، سريعا، صريحا: «باعها الظلم والتمييز والحرمان من التنميّة». ثمّ انطلقت الردود غاضبة، مندّدة. هذا يدعو الى مزيد التصعيد والثاني يؤكّد «انّ الأرض أرضنا والرقاب رقابنا» وان كره الكارهون وهذه ثالثة تدعو الى «حذف شيحة قحّة من قائمة الأصحاب، لأنّه يوتّر الأعصاب» وهو خارج السرب يغرّد...
في ما أعلم، لم تفتكّ أرض الرقاب قهرا، كما حصل في فلسطين. لم يتملّك الصفاقسيّة أرض الرقاب دون وجه حقّ. باع أهل الرقاب ما ملكوا عن طواعيّة. اشترى الصفاقسية الأرض وفقا للقانون والسوق. أين العيب وأين الظلم وأين التمييز؟ أنا لا أرى شيئا ممّا يقولون. أنا أرى بيعا وشراء بين أناس عاقلين...
ثمّ حصل في تلك الأرض استثمار واجتهد الشارون ودأبوا. ها هي الأرض اليوم تزهر، تعطي ثمارا، ها هي سهول الرقاب جنّات بعدما كانت بورا. طوال عقود، كانت أرض الرقاب بلا حرث، لا تنتج. أهمل أهل الرقاب أراضيهم ولم يحرصوا عليها، باعوها وأكلوا وأنفقوا. ذاك خيارهم وهم أحرار في ما اختاروا من شؤون. لكنّ اليوم وقد أعطت الأرض رزقا وربحا، ظهر الندم وشدّ العباد، بعضهم، غيض. في الرقاب اليوم غضب. في الناس اليوم بغضاء وحسد. بعضهم يدعو الى افتكاك أرض الجدود بالقوّة وان باعها الجدود وقبضوا. بعضهم يدعو الى الاعتصام، الى التصعيد، الى العصيان المدنيّ...
مثل هذه الردّة، هذا الانقلاب في الفعل وفي الفكر، ألقاه لدى العديد من أهلنا وخاصّة في الجنوب. أصبح نكث العهود أمرا متداولا. أصبح التقلّب سمة. كلّ يعتقد أنّه ضحيّة، أنّه محلّ ظلم وحرمان وتعسّف. هذه السلط لم توفه حقّه. همّشته وجهته. في الرقاب وفي غيرها، يعتقد الناس أنّهم مظلومون، محرومون، معذّبون وعوضا أن يتبيّنوا العسر وكيف تجاوزه، تراهم يرتدّون، ينكثون العهد، يصرخون، يعنّفون ويعتصمون...
غدت مثل هذه السلوكيات صناعة منتشرة. الكلّ يعتقد أنّه محلّ غبن وظلم. الكلّ يريد حوز ما «ضاع» من حقوق. هذا يتغيّب، يتقاعس، يفسد، لأنّه مظلوم، لأنّه لم يرتق في الوظيف، لأنّ أجره ضعيف. هذا يغنم، يستولي على ما لا يملك من أرض، من معدّات، من رصيف، لأنّ له عائلة كثيرة العدد ولا أحد في الأرض مدّ له العون. الآخر يسرق، يخطف، يأتي الممنوعات لأنّه في فقر، في جوع. هذا حامل لشهادة عليا وما هي بشهادة، يطلب شغلا في الوظيف والشغل حقّ يضمنه الدستور. ان لم يحصل على شغل قارّ ومحترم سوف يعتصم ويهيج ويقطع الطريق... اليوم، كلّنا الرقاب. كلّنا مظلومون.