والتفرد في عديد المراحل التاريخية التي عرفتها بلادنا فكانت الحركة الوطنية التونسية في بداية القرن العشرين أولى الحركات التي طالبت ببرلمان ودستور تونسيين وتجسدت هذه النظرة للعمل السياسي والدولة المدنية في أعماق الحركة الوطنية حتى أن أهم حزب أطلق على نفسه تسمية الحزب الحر الدستوري عبر تأسيسه على يد الزعيم عبد العزيز الثعالبي وقد بقيت تسمية الحزب الدستوري على الحزب الجديد الذي أسسه مجموعة الشباب حول الزعيم الحبيب بورقيبة إثر مؤتمر قصرهلال سنة 1934 وبقاء هذا الشعار رغم تباين وجهات النظر بين مكونات الحركة الوطنية إنما هو تأكيد على مركزية الدستور ومن خلاله مدنية الدولة عند النخبة الوطنية التونسية.
ونجد هذا التفرد في تجربتنا كذلك إثر الاستقلال من خلال جملة الاصلاحات التي تم تطبيقها ومن أهمها مجلة الأحوال الشخصية والتي أعطت حقوقا غير مسبوقة في البلدان العربية والاسلامية وجاء كذلك تعميم التعليم ومجانيته والذي فسح مجالات كبيرة لظهور نخب جديدة وللرقي الاجتماعي.
ولعل آخر تجربة أو مثال على هذا التفرد هو مآل ثورات الربيع العربي فلئن هوت أغلب هذه الثورات وتحوّلت الى حروب طاحنة أتت على الأخضر واليابس كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن فإن التجربة التونسية وبالرغم من الهزات فقد حافظت على مدنيتها وتمكنت القوى الحداثية والحركات الاسلامية وبالرغم من اختلافاتها الجوهرية من السباحة بين العواصف الجارفة لبناء تجربة ديمقراطية واعدة جعلت بلادنا مثالا يحتذى به وجلبت لنا احترام العالم
هذه بعض الأمثلة القليلة عن تجربة تاريخية هامة وطويلة جعلت بلادنا تتميز عن عديد البلدان العربية والإسلامية الأخرى. وبالرغم من الاختلافات بين النخب التونسية المختلفة وانتماءاتها الإيديولوجية المختلفة فإن أفكار ومبادئ الحرية والمساواة والتمدن والابتعاد عن المغالاة ونبذ العنف هي أفكار جامعة وستشكل أساس وركيزة المخيال والممارسة السياسية في بلادنا.
والسؤال الأساسي والمركزي هو مرد هذا التفرد وهذه الخصوصية في تجربتنا السياسية والفكرية؟ ولئن أكد العديد من المفكرين والمؤرخين على أهمية الدور التاريخي لبعض الشخصيات المؤثرة كأحمد باي وخير الدين والرئيس الحبيب بورقيبة فإن هناك اتفاقا وإجماعا على أن هذه الخصوصية والتفرد يرجعان إلى حركة الإصلاح التي عرفتها بلادنا في القرن التاسع عشر وبداية من 1831 إلا أن هذه الفكرة وإن كانت هامة في بعض الدراسات التاريخية فهي تبقى ضعيفة وضبابية في المخيال الشعبي والذاكرة الجمعية. ولئن حافظ المخيال الشعبي على بعض الشخصيات كعلي بن غذاهم الذي قاد ثورة الفقراء ضد سياسات التفقير للسلطة المركزية فإن عديد الشخصيات الأخرى الهامة قد غابت وتناستها الذاكرة الجمعية بل أن الأهم وهو مركزية هذه الفترة ودورها في تأسيس نخبة سياسية جديدة وخاصة مخيالا سياسيا ونظرة سياسية جديدة قد تناسيناها وغاب أثرها تدريجيا.
وقد عمل معرض «عهد الأمان» الذي تنظمه وزارة الثقافة والمعهد الوطني للتراث مع مؤسسة رامبور على ملء جزء من هذا الفراغ وهذا المعرض الذي انطلق في 27 نوفمبر وسيمتد إلى غاية 27 فيفري القادم في قصر السعيد يغطي الفترة التاريخية الممتدة من 1837 إلى سنة 1881 وهي المرحلة الهامة في تاريخ الحركة الإصلاحية وتشكل في رأيي نقطة انطلاق الخصوصية والتفرد في التجربة السياسية التونسية.
وقد نجح هذا المعرض نجاحا كبيرا في التعريف بهذه الفترة التاريخية وإبراز أهم خصوصياتها والدور الريادي الذي ستلعبه في نحت الشخصية التونسية وبناء مقومات الأمة والدولة في بلادنا وسيساهم هذا المعرض في رأيي في إعادة استيعاب التونسيين لتاريخهم والاهتمام بعناصر ومراحل التأسيس والبدايات للدولة التونسية.
زرت هذا المعرض الأحد الفائت وقضيت وقتا طويلا قبل الدخول إلى قاعات العرض إلى جانب عشرات من التونسيين قدموا لإعادة اكتشاف جزء هام من تاريخهم.
وبدأ المعرض بالتذكير بالإطار التاريخي للحركة الإصلاحية التي ستعرفها بلادنا في بداية القرن التاسع عشر ولئن عرفت أوروبا في هذه الفترة بداية فترة صعودها مع تحرر الفكر بالأنوار ونهاية الأنظمة التقليدية مع الثورات السياسية ونهاية الإقطاع مع بداية النظام الرأسمالي فإن بلادنا ككل البلدان العربية والإسلامية كانت تعيش أحلك فترات تاريخها مع الحروب بين ورثة الدولة الحسينية وما انجر عنها من عدم استقرار سياسي وبؤس اجتماعي وفقر وتأخر اقتصادي إلى جانب هذه الأوضاع السياسية والاجتماعية القاتمة ستعرف بلادنا ظهور وتفشي عديد الامراض والأوبئة وخاصة مرض الطاعون الذي سيساهم بين سنتي 1818 و1820 في القضاء على أعداد كبيرة من السكان.
وفي ظل هذه الأزمات وتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستعرف بلادنا تزايد المطامع الاستعمارية الأوروبية خاصة بعد استعمار الجزائر سنة 1830. في هذا الوضع المزري والقاتم ستشهد بلادنا إحدى أهم الحركات الإصلاحية في تاريخها وستعرف هبة سياسية واقتصادية وفكرية لم تعرفها من قبل وبالرغم من فشل هذه الثورة الإصلاحية وعدم قدرتها على درء الخطر الاستعماري فإنها ستساهم مساهمة فعالة في نحت مستقبل بلادنا وفي التأسيس لمستقبل الدولة التونسية.
وسينجح هذا المعرض في تأكيد نقطة انطلاق الثورة الإصلاحية في بلادنا مع وصول أحمد باي إلى سدة الحكم سنة 1837 ومن خلال عرض العديد من الوثائق التاريخية والصور والملابس وحتى أدوات الطبخ والكتابة وبعض مظاهر الحياة اليومية سينجح هذا المعرض في إعادة تأثيث وإحياء هذه المرحلة الفارقة في تاريخنا والتي ستؤسس للمشروع الحداثي والمجتمعي للدولة المدنية في ربوعنا.
وسيركز هذا المعرض على أربع مسائل أساسية ستشكل في رأيي الركائز الأساسية للمشروع الإصلاحي في بلادنا المسألة الأولى تخص الفكر ويشير المعرض إلى الحركة الفكرية التي ستعرفها بلادنا خلال هذه السنوات والنهضة الثقافية والعلمية والتي ستعمل على الخروج من الفكر البالي والمتحجر السائد بعد قرون من تهميش العقل وسيادة النقل في الفكر العربي الإسلامي وستعمل النخب الفكرية على فتح مجال التجديد الفكري والديني من خلال الانفتاح على العلم وعلى مبادئ الحداثة والأفكار التنويرية التي تعرفها أوروبا في تلك الفترة وستكون لزيارة أحمد باي لفرنسا سنة 1846 تأثير كبير على النخب التونسية التي ستكتشف عمق الفوارق بين بلادنا وعصر الثورات والأنوار في أوروبا.
وستشهد هذه الفترة صدر عديد المؤلفات والكتب المحورية التي ستساهم في إحداث الثورة الفكرية التي ستعرفها بلادنا لعل أهمها كتاب خير الدين «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الصادر سنة 1867 والذي نادى بنهاية الاستبداد وبناء نظام سياسي حديث وأكد خير الدين في هذا الكتاب الذي سيلعب دورا مركزيا للنخب الفكرية التونسية أن الإسلام لا يتعارض مع مبادئ الحرية والعقل وسيدعو فيه إلى إعلاء مبادئ القانون والمساواة.
وسيكون لهذه المبادئ وتأثير الحداثة الأوروبية دور مهم وستساعد على ظهور نخبة تونسية جديدة ستساهم في دفع البرنامج الإصلاحي وظهور المشروع المجتمعي المدني في بلادنا وستلعب المدرسة الصادقية التي سيطلقها خير الدين سنة 1877 دورا أساسيا في تكوين النخب التونسية الجديدة المفعمة بمبادئ الحداثة التي ستشكل في القرن العشرين الحركة الوطنية التونسية.
إلى جانب الفكر يعطي هذا المعرض حيزا كبيرا إلى الركيزة الثانية للثورة الإصلاحية التونسية وهي النصوص التأسيسية للدولة المدنية في بلادنا ويؤكد هذا المعرض على ثلاث نصوص أساسية ساهمت في هذه الثورة النص الأول يخص إلغاء العبودية سنة 1846 النص الثاني هو عهد الأمان والمتكون من 11 فصلا والذي أتى إثر إعدام المواطن باتو سفيز. اليهودي ولئن أتى هذا النص بضغط من القوى الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا فإنه شكل خطوة في اتجاه بناء دولة العدالة والقانون فقد أشار هذا النص بطريقة واضحة وصريحة إلى المساواة بين المواطنين أمام القانون والجباية وحرية المعتقد.
إلا أن النص الأساسي والجوهري في هذه الفترة هو الدستور والذي تمت المصادقة عليه في 23 أفريل 1861 والذي شكل تطورا طبيعيا لكل الإصلاحات التي أتى بها أحمد باي وقد أكد هذا القانون على عديد المبادئ الأساسية للدولة والأنظمة السياسية الحديثة من ضمنها الملكية الدستورية والتفريق بين السلط وإعطاء دور هام وأساسي للسلطة التشريعية إلا أنه سيتم إيقاف العمل به سنة 1864 إثر ثورة علي بن غذاهم إلى جانب الفكر والنصوص التأسيسية يشير هذا المعرض إلى مرتكز ثالث لهذه الثورة الإصلاحية في بلادنا وهي بناء المؤسسات التي ستحمل هذا المشروع وتحتضنه وأولى هذه المؤسسات هي الجيش النظامي العصري سنة 1831 والذي ستأتي إثره المدرسة العسكرية بباردو سنة 1840 والتي ستلعب دورا كبيرا في تكوين كوادر الجيش النظامي وقياداته..
ويشير المعرض إلى بناء عديد المؤسسات الأخرى كدار السكة سنة 1847 والذي سيلعب دور البنك المركزي وستعمل على صك العملة ومراقبة النظام المالي.
المسألة الرابعة والأخيرة سيقف عليها هذا المعرض هي جيوستراتيجية وتخص علاقتنا بالآخر فقد عرفت هذه الفترة محاولات كبيرة من النظام الحسيني للاستقلال عن الدولة العثمانية وهيمنة الباب العالي والاقتراب من الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا وقد جاءت زيارة أحمد باي إلى فرنسا خطوة هامة في هذا الاتجاه.
لقد نجح هذا المعرض نجاحا هاما في إبراز أهم ركائز ومقومات المشروع الحداثي التونسي إلا أنه أشار في نفس الوقت إلى مكامن وأسباب سقوطه وفشله فقد أكد أن هذه الإصلاحات على أهميتها لم تنجح في بناء دولة حديثة ومستقلة فقد عرفت بلادنا في تلك الفترة أزمة اقتصادية خانقة نتيجة تصاعد مصاريف البايات الاستعراضية وإنفاقها في بناء وتشييد القصور ولمواجهة هذه المصاريف فقد أثقلت الحكومات كاهل المواطنين وبصفة خاصة الفلاحين الفقراء بالضرائب مما نتج عنه انتفاضات كبيرة كالتي قادها علي بن غذاهم.
إلا أن حدة الأزمة الاقتصادية لم تمنع البايات من المواصلة في نفقاتهم العالية مما نتج عنه إفلاس البلاد وإقرار اللجنة المالية العالمية المتكونة من أبرز دائني بلادنا وهم فرنسا وبريطانيا وإيطاليا بوضع يدها على المالية العمومية لبلادنا وتواصل هذا التدهور الاقتصادي سيؤدي إلى إفلاس الدولة وفشل المشروع الإصلاحي التونسي مع دخول الاستعمار إلى بلادنا وإمضاء الصادق باي على معاهدة باردو في 12 ماي 1881 والتي ستنهي استقلال بلادنا وتؤذن بانتصاب الحماية والاستعمار الفرنسي.
إن هذا المعرض وهذه التجربة رائدة وأساسية في بلادنا على عديد المستويات أولا شكل هذا المعرض حدثا ثقافيا هاما ولعله الأهم بعد الثورة من حيث العمل والأعداد والسينوقرافيا مستوى النجاح الثاني يخص في رأيي تأكيده على مرحلة أساسية ومفصلية في تاريخنا وهي فترة الإصلاحات الكبرى التي ستكون وراء خصوصية وتفرد التجربة السياسية في بلادنا وظهور المشروع المجتمعي للدولة المدنية الحديثة وهذه الفترة تم تغييبها ولم تحظ بالأهمية الكافية وهذا المعرض ساهم مساهمة فعالة في إحيائها وإعادة اكتشافها ومساهمتها الأساسية في ركائز المشروع المجتمعي في بلادنا حول ثالوث المدينة والعدالة والمساواة وبذلك يكون لعب دورا كبيرا في إعادة إحياء المخيال الجمعي والذاكرة الجماعية في بلادنا وهنا نود أن نقترح أن يكون هذا المعرض دائما ولن يقتصر على المدة الزمنية التي تمت الإشارة إليها وهذه دعوة إلى المشرفين على المعرض إلى جعله دائما ليساهم في استيعاب الأجيال القادمة لمكونات شخصيتنا وتفردها مقارنة ببلدان أخرى.
ونجاح هذا المعرض يكمن كذلك في رأيي كونه أهم تجربة تشاركية بين القطاع الخاص والقطاع العام في الميدان الثقافي لقد أكدت في عديد المنابر أن أزمة المالية العمومية ستقلص اعتمادات الدولة في عديد الميادين ومن ضمنها الميدان الثقافي ولا بد من تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في الميدان الثقافي لتشجيع الإبداع والأنشطة الثقافية في بلادنا وقد شاهدت في نهاية المعرض الفلم الذي تم إخراجه والذي يغطي فترة إعداد هذه التظاهرة الضخمة وقد ّأشار هذا الفيلم إلى الحالة الرثة التي كان عليها قصر السعيد وكل الوثائق والرسوم التي تم عرضها وأنا أعتقد راسخا أنه لولا التمويل السخي الذي وفرته مؤسسة رامبور فإننا لم نكن سنشاهد معرضا بهذه القيمة.
إلا أنه وبالرغم من أّهمية وقيمة هذا المعرض الفنية والسياسية والتاريخية فإنه لا بد من الإشارة إلى أربع نقائص أساسية الأولى تقنية وكنا نتمنى ولئن كانت تتطلب بعض المصاريف الإضافية تجهيز تساجيل صوتية وتمكين الزائرين منها لمتابعة المعرض بدون الرجوع إلى مرافق.
المسألة الثانية هي سياسية وتهم نهاية المعرض حيث تشير آخر فقرة إلى أن فشل هذه التجربة لم ينه الحركة الإصلاحية بل ستواصلها أجيال جديدة كنت أود أن يشير المعرض بوضوح إلى أن هذه الحركة الإصلاحية الثانية سيقودها جيل جديد من الحركة الوطنية ونذكر على الأقل بعض أسماء هؤلاء القادة كالزعيم الحبيب بورقيبة والطاهر صفر وفرحات حشاد وغيرهم وهنا أدعو وزارة الثقافة إلى جانب بعض المستثمرين الخواص إلى التفكير في معرض آخر يهم تجربة الحركة الوطنية وبناء الدولة الوطنية بإنجازاتها الهامة وكذلك بالوقوف على انحرافاتها في مسألة الحريات وهكذا نكون بهذين المعرضين قد قدمنا للتونسيين أهم الحلقات التاريخية التي ساهمت في نحت هويتنا السياسية وتجديد تجربتنا التاريخية وخصوصياتها كما تفردها.
النقيصة الثالثة في هذا المعرض تهم قراءة وتفسير فشل التجربة الإصلاحية في بلادنا وهنا تشير هذه القراءة إلى أن الدستور كان وراء هذا الفشل والحال أن المصاريف الضخمة التي قام بها البايات في مجالات غير إنتاجية أثقلت كاهل البلاد بالديون وكانت بالتالي وراء سقوط هذه التجربة الأولى في التحول السياسي والاقتصادي.
النقيصة الرابعة تخص إمضاء معاهدة باردو ودخول الاستعمار وهنا لم يشر المعرض إلى صمود الأهالي أمام الهجمة الاستعمارية فعديد المدن كالكاف وصفاقس التي صمدت قرابة الستة أشهر وسوسة وأغلب المدن لم تستسلم لهذه المعاهدة بل رفعت السلاح في وجه المستعمر وصمدت صمودا بطوليا والمعرض يترك الانطباع أن استسلام النخب وإمضاء المعاهدة نتج عنه استسلام الشعب والبلاد لإرادة المستعمر بل العكس هو الذي حصل إذ صمدت المدن أمام تواطؤ النخب.
ولكن وبالرغم من هذه النقائص فإنني أعتبر هذا المعرض تجربة ناجحة وأدعو كل التونسيين لزيارته لاكتشاف هذه اللحظة المفصلية والتأسيسية لتجربتنا السياسية كما أدعو مجددا لجعل هذا المعرض قارا ولإعداد معارض أخرى قارة حول الحلقتين الأساسيتين في تجربتنا السياسية وهما لحظة الدولة الوطنية ولحظة شرارة الثورة.