الحكاية وأرض الحكاية (ملاحظات مبوّبة حول فصول كتاب «بورقيبة مؤرخا» لفتحي لسير)

في البحث عن قراءة معافاة لتاريخ الحركة والوطنية

 

تخير المؤلف وضمن فصل ختامي أفرده لما نعته بما «يفرض نفسه [كذا] من الإضافات والإضاءات والإيضاحات»، تسيج حديثه حول اسهامات بقية زعماء حزب الدستور المعاصرين لبورقيبة في كتابة التاريخ، مركزا على ما حبّره علي البلهوان (نحن أمة، وتونس الثائرة) والحبيب ثامر وآخرون (هذه تونس)، منتهيا إلى أنه حتى وإن وُضعت هده الآثار الجماعية المنشأ (الرشيد إدريس، والجلولي فارس، والمنجي سليم وغيرهم) في سياق تراجعت خلاله صورة الزعيم، فإن ذلك لم يحل دون تبوؤه عن جدارة موقعا محوريا في قيادة الحزب الدستوري وإدارة معركة التحرّر من ربقة الاستعمار، بحيث لم يخرج زمام القيادة من يده مطلقا.

كما دارت تلك الاضافات حول إعراض بورقيبة ونظامه عن اعتماد أي نوع من أنواع الضغط أو الاكراه تجاه المؤرخين حتى ينخرطوا في المصادقة على روايته الخاصة لتاريخ الحركة الوطنية، وهو مجال معرفي ملغّم فضل أولئك التريث في تفكيك عناصره، معتبرين (رؤوف حمزة) أن كتابة محصلة بالمسافة لما أنجزته الحركة الوطنية التونسية مهمة مناطة بعهدة المؤرخين الجامعيين التونسيين، وذلك على الرغم من اللغط الذي عقب نشر عز الدين قلوز المدير العام للمكتبة الوطني خلال نهاية سبعينات القرن الماضي، ما وسم بـ «وصية بورقيبة» المؤلفة سنة 1975 والتي أحجم هذا الأخير عن نشرها مدة ثلاث عشريات كاملة، وذلك لأسباب موضوعية وأخرى مغرقة في الذاتية لا تخلو من مطامح شخصية ضيقة. وتلك «وثيقة» بدت لفتحي لسير -وهو على أتم صواب - غير موثوقة الهوية اتصل جنسها الأدبي بمشروع كتاب منسوب لبورقيبة في تاريخ الحركة الوطنية لم يكتب له استيفاء تقميش.

ولعل ما انتاب الزعيم/ الرئيس من يأس بخصوص إمكانية النهوض بتلك المهمة، هو ما دفعه إلى القبول بنصيحة صديقه المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان بخصوص احداث برنامج وطني للبحث في كتابة تاريخ الحركة الوطنية وتشكيل لجنة من المؤرخين الباحثين للتفكير في أنجع السبل لكتابة ما نعته نفس المؤرخ بكثير من التوفيق والبلاغة بـ «التاريخ المتقاسم» للفترة الاستعمارية، وربط ذلك بالتقييم الإشهادي لمختلف تخصّصات وفروع الجامعة/ الجامعات التونسية.

وفي المحصلة يمكننا الاطمئنان إلى القيمة الرفيعة للجهد التركيبي الالمعي والاستثنائي الذي بذله فتحي لسير في صياغة مختلف فصول كتابه، حتى وإن لم ير المؤلف من حاجة إلى البت في طبيعة العلاقات المعقّدة التي ربطت ولا تزال الرواية الوطنية بالنضج السياسي للنُخب. فقد أخفى مشروع الاستقلال من وجهة نظرنا ونظر غيرنا أيضا فجوة عميقة بين الدولة التي شيدتها نُخب تشيّع معظم فاعليها النافذين لقيم الحداثة الغربية، والمجتمع الذي لم يصادق بالكامل على توجهاتها. لذلك كانت الدولة ولا تزال موضع صراع رغم تعدّد إخفاقاتها. بحيث يتيه المتأمل في مثل هذه المسألة في مفارقات غريبة نظرا للعلاقة المقلوبة التي حكمت انتاج الفكر السياسي، فضلا عن هاجس الترميق الذي طبع التوجّهات الثقافية للدولة الوطنية بوصفها مشروعا سياسيا وفكريا حاول المزج بين التقليد والتحديث، مع ثبوت تورّطها في تشغيل آليات المخاتلة السياسية.

وهو ما قامت الباحثة الفرنسية في مجال العلوم السياسية «بياتريس هوبو Beatrice Hibou « وضمن مقالها: «الإصلاحية أو الرواية السياسية الكبرى لتونس المعاصرة.» بتفكيك مدلوله بعناية، منتهية إلى أن نزوع دول الاستقلال باتجاه توظيف مبادئ «التقليد الإصلاحي» مسألة ليس من المجدي في شيء إنكارها. بحيث غالبا ما عكست الإحالة على مدلول الإصلاح كثيرا من الغموض، الشيء الذي مكّن من استنباط صلة وثيقة بين الإرث الإصلاحي للقرن التاسع عشر والتوجّهات التي دافعت عنها دولة الاستقلال. لذلك خضعت الرواية الإصلاحية للتبسيط وابتسار مضمون الوقائع التاريخية والخلط بين المنجز وأشكال التعبير عنه، أو بين التمثلات والوقائع، مع ذهول تام عن السياقات التاريخية والصراعات التي جدّت بين الفئات الاجتماعية ذات المصالح المتباينة، وحضور نوازع توظيف مفضوحة، وتعتيم مقصود على السياقات التاريخية لمختلف الحركات السياسية والثقافية التي عرفها تاريخ تونس المعاصر.

فقد تضمن النزوع إلى الترميق الأدبي للرواية الإصلاحية التونسية ادعاء توفّر تجربة الإصلاح السياسي على نفس تحرّري ديمقراطي، الشيء الذي فصلها عن جذورها التوفيقية العروبية والإسلامية، وإخراجها عن توجهاتها الوطنية الثورية، وتكييفها بغرض خدمة مصالح الزعيم والحزب. كما عكس الخطاب المعادي للحضور الاستعماري الفرنسي سواء لدى الداعين إلى سنّ القوانين التشاركية أو إلى الرابطة الإسلامية لدى الوطنيين الشبان، كما لدى المصلحين التقليدين، نفسا سياسيا إصلاحيا اعتبر حركة الإصلاح التي عرفها النصف الثاني من القرن التاسع عشر خطوة متقدّمة باتجاه تكريس الديمقراطية، والحال أن تنظيم الدولة وأساليب اشتغالها لم يتم توجيههما مطلقا وجهة سياسية ديمقراطية، لأن التمثيلية لم يكن من المُمكن تصوّرها في حق غير المحسوبين على نُخب السلطة.

واتصل التلفيق أيضا بالتأكيد على أن تونس قد عاينت أول دستور ليبرالي في العالم العربي، وهو توجه انطلق منذ أواسط عشرينات القرن الماضي في تلازم مع الحاجيات الاستراتيجية والتكتيكية لحزب الدستور (بشقيه القديم والجديد)، ذاك الذي عتّم عمدا على حقيقة تنوّع التجارب الإصلاحية وتعدّد التيارات الفكرية وصراع التوجهات السياسية بين مختلف مُصلحيّ القرن التاسع عشر، فضلا عن الاعتراف بحقيقة التأثير الذي سلطته الدولة العثمانية وحضور ضغوط أجنبية أوروبية أجبرت حكّام «إيالة تونس» على تحرير بنود عهد الأمان.

والمربك بهذا الصدد أن التعتيم على البعد الديني للحركة الإصلاحية التونسية قد استند على استراتيجية فسخت بالكامل حضور اختلافات أو تناقضات بين ممثلي تلك التصوّرات فكرا وممارسة، بحيث اتسمت تصرّفات الزعيم بورقيبة تجاه منافسيه السياسيين بإفراط في القسوة وعدم التسامح. كما تم الحرص على إعادة كتابة السياق التاريخي للمواجهة الحاصلة تاريخيا بين الدستوريين الجدد والقدامى من زاوية الاعتبار بجدارة الأخيرين بالانتساب إلى الحداثة، مع تجريد التيارين اليوسفي والعروبي من كل شرعية نضالية وطنية، تغذية للإيديولوجية الاصلاحية للدولة الناشئة.

ومع حلول سبعينات القرن الماضي تم تكييف الرواية التاريخية الإصلاحية تزامنا مع أفول المشاعر القومية وتراجع الأيديولوجية الوطنية. فحلّت بذلك التمثّلات المتخيّلة للإصلاح محل تلك المتّصلة بالقراءة الوطنية، ورُدّ الاعتبار لعدد من الأبعاد التي حاولت الدولة الوطنية تفادي الخوض فيها أو إرجائه، على غرار الاعتراف بالمشاعر الدينية. وتلازم ذلك مع انقطاع الفكر التحرّري الثوري المتكئ على الفكر السياسي الغربي والمنفتح على أبواب المستقبل، ذاك الذي اعتقد أصحابه أن التقدّم والنماء أمران ممكنان يندسّان عميقا ضمن الممارسة السياسية ويعتملان في فكر القائمين على السلطة والممانعين ضدها أيضا.

بيد أن عوامل التهرئة الناتجة عن تعدد الأزمات السياسية التي طالت المجتمع هي التي فرضت إعادة الاعتبار للبعد الديني ضمن معجم الخطاب السياسي، بصرف النظر عن مضمون التحوّلات الفارقة التي عرفتها الساحة الدولية، وتفاقم التوظيف السياسي، بحيث تم التعويل على مروية «التقليد الإصلاحي» تجاوزا لتراجع الشرعيات الحاكمة. ولم يبق غير الانخراط في قراءة مشوبة بكثير من الترميق، توسّلت بالأمد الطويل حتى تمنح رجالات الدولة جرعة حديدة من الشرعية وتدوير محصلتها بإدراجها تمويها ضمن سياق التوجهات التي قادت زعماء الإصلاح السياسي. غير أن حدث الثورة قد انفتح خلال سنوات الانتقال الديمقراطي تونسيا على حقيقة تنوّع القراءات، بل وتضاربها المحيّر. لذلك فإن معاودة اشتغال المؤرخين بهدوء على إشكالية «التقليد الإصلاحي» (جماعي (2021)، مساءلة الانتماء من منظور المباحث التاريخية التونسية)، وتوضيح تباعد التصوّرات حول مدلوله، دون سقوط في تحريف الاستعارة الجمعية المتصلة بالحكاية الجمعية أو تعويذتها، هو ما يشكّل مرحلة ضروريّة في مسار فهم ماضي تونس القريب الذي علق بحاضرها رافضا الذهاب في حال سبيله، مُصِرًّا على الاندساس في سمك الحاضر بجميع تعقيداته وتشعّباته

انتهى

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115