ويلخص هذا الأثر محطات عديدة ضمن مشروع بحثيي امتدّ على أكثر من أربعين سنة، حيث احتوى الكتاب على عدد من البحوث التي نُشِرت سابقا وهي تهتمّ بتاريخ الحركات الشيوعية والنقابية والجمعياتية في تونس زمن الاستعمار الفرنسي (1921-1956). اشتمل الكتاب على تقديم للأستاذ هشام سكيك وتمهيد للمؤلف ومتن في ثلاثة أبواب، ومقال في آخر الكتاب بعنوان «ما بعد التقديم» للسيد الحبيب رمضان وقائمة مفصّلة للمصادر والمراجع. أكّد الأستاذ هشام سكيك على أهميّة إعادة نشر المقالات التي سبق للأستاذ القزدغلي نشرها لما تحتويه من وقائع تاريخية وأحداث نضالية حول الحركة الشيوعية والنشاط النقابي وعدد من الجمعيات مما يتيح الفرصة للباحثين وسائر القرّاء اليوم، إمّا لاستحضارها من جديد أو الاستفادة من محتوياتها. وقد أجاب الكاتب في توطئته عن سؤال طرحه: "لماذا العودة إلى بحوث سبق نشرها؟"، فأوضح أن السبب وراء ذلك يعود إلى تلبيته لرغبات عديدة عبّر عنها طلبة وزملاء باحثون من تونس وخارجها للاطلاع عليها والاستفادة منها في بحوثهم، خاصة وقد العديد من تلك الأعمال أصبحت مبعثرة في بين عدة مجلات نشرت فيها أو نفذت الكتب الجماعية التي صدرت المقالات ضمنها.
جاء الكتاب في ثلاثة أبواب كبرى واحتوى كل باب على فسمين اثنين الأول للبحوث والثاني للوثائق المأخوذة من مصادرمتعددة ومتنوعة. اهتم الباب الباب الأوّل بتاريخ الحركة الشيوعية بتونس فـتناول مظاهر من تطوّر النشاط الشيوعي بالبلاد التونسية غداة بعث النواة الشيوعية الأولى في شهر مارس 1921. وتابع العمل محطات من حركيتها على امتداد الفترة الاستعمارية سواء من الناحية التنظيمية أو السياسية والصعوبات والتي مرت بها وكيف سعت موفقة تارة وفاشلة تارة أخرى في تجاوزها. وتطرّق الكاتب في الباب الثاني إلى الحركة النقابية في تونس، حيث تناول المرحلة التي تلت الانقضاض على تجربة محمد علي النقابية وأسباب فشل إعادة بناء الحركة النقابية بعد محاكمة قادة جامعة عموم العملة التونسية (1925-1928) كما تناول العمل تجربة الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي 1946 / 1956 وهي المنظمة التي كانت موجودة الى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل يتنافسان تارة ويتحدان تارة في الدفاع عن العمال والوطن لكن ظلت السردية السائدة تقوم على نفي الآخر وعدم الاعتراف بوجوده. أمّا الباب الثالث والأخير فقد جاء بعنوان: الجمعيات المدنية ودورها في النضال المعادي للاستعمار الفرنسي، وقد جمع ضمنه الأستاذ حبيب القزدغلي خمس مقالات تعلّقت بالجمعيات التي كانت لها صلة بالحركة الشيوعية، سواء في المستوى العالمي أو في المستوى الوطني، متناولا تاريخ «رابطة النضال ضدّ الإمبريالية والاضطهاد الاستعماري» ودورها في دعم القضية التونسية 1927-1936، و«اللجنة التونسية للسلم والحريّة» (1948-1952) التي جمعت لفترة قصيرة الشيوعيين والدستوريين الذين انسحبوا منها لاختلاف في الرؤية في زمن الحرب الباردة كما تناول في الباب نفسه المسائل المتعلّقة بقضية تحرّر المرأة وهو الموضوع الذي ميّز الفكر السياسي والاجتماعي التونسي وتجلياته المبكرة المتمثلة في كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» للطاهر الحداد، واستمرت مساهمات المرأة التونسي في النضال الاجتماعي والسياسي وأفرزت أسماء لامعة منها المناضلة النسوية والسياسية قلاديس عدّة التي تم أعادة نشر بيوغرافيا خاصة سبق له أن نشرها في المؤلف الجماعي الهام "موسوعة النساء التونسيات".
وقد حرص الأستاذ القزدغلي على إثراء البحوث الواردة في كل باب بعدد من الوثائق المكتوبة والصور الفوتوغرافية المأخوذة من الأرشيف الخاص والعام، والتي يمكن الاستفادة منها في فهم الأحداث، وكذلك الاستناد إليها لمحاولة فهم المواقف التي عبّرت عنها الحركة الشيوعية وطرحتها الحركة النقابية والجمعيات بالارتباط بالتغييرات التي شهدتها الساحتين الوطنية والعالمية غداة الحرب العالمية الأولى وصولا إلى تاريخ حصول البلاد التونسية على استقلالها.
أكد السيد الحبيب رمضان في مقاله "ما بعد التقديم" مضمّن في خاتمة الكتاب على أهمّية ما قام به الأستاذ القزدغلي على مدى سنوات من الجهد والمثابرة في البحث والتمحيص والكتابة عن تاريخ تونس المعاصر في جوانبه الخفيّة والمهمّة والمنسية، إذ اعتبره «مؤرخ عضوي» راهَن على النضال السياسي والتحصيل العلمي في ذات الوقت.
أوجد الأستاذ حبيب القزدغلي خيطا رابطا بين مختلف المقالات الواردة في هذا الكتاب، عبر ما تطرحه جميعها من بحوث حول مواضيع وأحداث وقعت في تونس زمن الاستعمار الفرنسي، سعى فيها الى تجاوز الصياغة التي تمت لتلك المواضيع التاريخية ضمن سردية أحادية وظّفت الماضي من أجل شحذ العزائم لتركيز أسس الدولة الوطنية خلال فترة ما بعد الاستقلال فكلل عملها بنجاح لم يصمد لأنه احتمي بالذاكرة الأحادية وتجنب الخوض بأدوات التاريخ في دراسته للماضي.
ولنا أن نتساءل اليوم وقد مضى قرن من الزمن على انطلاق مختلف التجارب النضالية الحزبية والنقابية والجمعياتية التي تطرق إليها الكتاب واستلهم منها العنوان: تونس المناضلة ، ما هي حصيلة كل هذه التجارب التونسية التي يمكننا استخلاصها سياسيا واجتماعيا وثقافيا لاستثمارها في فهم حاضرنا والاستئناس بها لاستشراف مستقبلنا ؟
فرغم أن الأمر يتعلق ببحوث سعت الى استعادة النسق التاريخي الذي حدثت فيه فأنه لا مفر من التساؤل والبحث أيضا في العلاقة التي دفعت الباحث الى إعادة إصدار مقالاته اليوم في الوضع المعقد الذي تمر به البلاد حيث عاد النقاش والتساؤل عن الحاجة الى الأجسام الوسيطة من أحزاب ونقابات وجمعيات وهل مازال لها دور يمكن لها القيام به ؟ صحيح أن مثل هذه الأحزاب الحركات والتنظيمات بالقياس للزمن التاريخي الطويل تعد حديثة العهد في تاريخنا اذ لم يمر على اعتمادها سوى قرن من الزمن . يتبين قارئ الكتاب أن المؤلف سعى الى اثبات أنه في كل المنعرجات التي مرت بها البلاد ورغم الأزمات التي عاشتها تلك التنظيمات أحزابا ونقابات وجمعيات فأنها ظلت منذ عشرينيات القرن الماضي الأعمدة والعناوين الأساسية التي قام عليها المشروع الوطني التونسي المناهض للاستعمار. لقد كان لتلك الحركات على تنوعها دور في شحذ همم التونسيات والتونسيين وتعبئتهم لمواصلة خوض غمار معركة التحرر الوطني والاجتماعي كما كان لها دور في بعث ركائز دولة الاستقلال وبناء تونس الجديدة رغم الانحرافات التي لا يخلو منها أي عمل بشري ولا يمكن تصحيحه مساره الا بالنقد والحوار الجاد لا بالتخوين والتخويف وكيل التهم . ولا بد من التذكير ما كان لتلك الأجسام من دور أساسي في الدفاع عن المشروع الحضاري العصري الذي أعطي لتونس ملامح عصرية وحداثية تميزها عن غيرها حيث لم يستطع المغامرون والمتطرفون وهواة السياسة والمتاجرون بالهوية المنغلقة اخضاع هذه الأركان الثابتة و ظلت عصية صامدة عصية عليهم رغم الضربات الإرهابية الموجعة التي قاموا بها لتخريب الاقتصاد و تخويف التونسيات والتونسيين. فجاء هذا الكتاب حاملا في ثناياه دعوة لتجاوز مكبلات السرديات المبسطة التي تروي الماضي في شكل بطولات وهمية يتم اعتمادها في الأوقات الصعبة للشحن المغشوش والتعبئة المنتفخة وهو دعوة ليتحمل المؤرخ بجرأة دوره في المجتمع عبر طرح الأسئلة التي يفرضها الحاضر والتي لا مفر من دعوة الجميع للتفكير فيها وفي تعقيداتها باعتماد قراءة متجددة وخلاقة لتجارب الماضي والابتعاد عن النبش والنهش المثير للأحقاد والضغائن واستنهاض كل القوى الحية وفي مقدمتها الأحزاب والنقابات والجمعيات التي مثلت أوتادا رفع عليها عاليا المشروع الوطني التونسي منذ عشرينيات القرن الماضي.