نور الفلسفة وبؤس الأيديولوجيا

مخطئ من يعتقد انه يمتلك الحقيقة، مهما كانت مرجعيته الأيديولوجية أو مسلماته الدينية،

فما نعرفه ونتداوله مع حولنا هو حقيقتنا نحن، التي لا تتجاوز احيانا ما رسخ لدينا من افكار واجتهادات واوهام أو قواعد اخلاقية وتشريعات وقوانين تعلمناها من محيطنا الخاص والعام ، والتي كثيرا ما نحاول ان ندافع عنها باستماته وعناد، على اساس انها «حقيقة سرمدية» لا تقبل الشك ولا الريبة ،دون ادنى تنسيب او تواضع يستوجبه شغف التعلم، فاكبر عدو للمعرفة، كما يقول عالم الفيزياء ستيفن هاوكنغ ، ليس الجهل وانما «وهم المعرفة «، وهو وهمٌ لا يساعدنا على التفكير وتقييم حدود قدراتنا الذهنية وادراك اننا نعرف اقل بكثير مما نعتقد ، وان الحقيقة اكثر تعقيدا مما نتوهم والبحث فيها يستدعي جهدا فكريا وتواضعا معرفيا حتى نتمكن من الخروج من ظلال اوهامنا الى مسار طويل نحو اكتشافها ، ذاك ما يراه ، مثلا ،افلاطون في «امثولة الكهف» التي تحيل الى اهمية الخروج من ظلمة «حقائقنا» ومعتقداتنا التي تربينا عليها ومن التقاليد التي الفناها ونزع قيود مرجعيات ساذجة وسطحية كبلت عقولنا واجسادنا ، حتى تعودنا على حمل اثقالها واستسلمنا اليها دون مساءلة، خروج يضئ لنا شمس الحقيقة المبهرة فيصدم اعيننا نورها الساطع الى حين نألفه، وهذا يتطلب ارادة حقيقية للمعرفة ورغبة في التمرد على الفهم الحسي ومسافة عقلانية من افكارنا التقليدية واستعدادا ذهنيا للبحث ، لان «لا أحد سيصبّ الحقيقة في عقلك، انها شيء عليك ان تكتشفه بنفسك» حسب تعبير ناعوم تشومسكي ، و الرغبة في اكتشافها معاناة فكرية ممتعة ومجزية ...لان سعادة البحث فيها اهم من نتائجها.

ايقاظ العقول من سباتها:

تلك هي مهمة الفلسفة التي توقظ عقولنا الكسلى من سباتها وخمولها، عقول استسلمت لأفكار مسبقة دون تمحيص أو تعلقت بموروث ديني وثقافي طغت عليه الخرافة والاسطورة أو واقع سياسي واجتماعي خضعنا لقوانينه الجائرة دون مساءلة. والفلسفة ليست ترفا فكريا ولا هي عالم مُثل متعالي ومنقطع تماما عن الحياة، بل هي نمط عيش واداة تفكير تدفع الى اجتراح الحقيقة من جدران الواقع وهي اهتمام بموقع الذات، التي لا تكتمل الا من خلال صراع «ثنائية الاخضاع والتحرر»، كما يراها ميشال فوكو... وكل القيم التي اتت بها الحداثة حول «المواطنة والمساواة والقانون جاءت عن طريق الفلسفة»، اذ ان مفهوم الحق، عند الفلاسفة وخاصة لدى فلاسفة التنوير هو الذي مهد لقيم تدخل في الحق الطبيعي للإنسان، مثل الحرية التي أصبحت قيمة حيوية ومحركا أساسيا لكبرى الثورات التاريخية...

فلسفة حقوق الانسان:

ورغم ان مفاهيم حقوق الانسان لم تكن وليدة عصر الحداثة، اذ لها شذرات مرجعية تعود الى بدايات الفلسفة اليونانية وكذلك الى ارهاصات دينية مستنيرة، الا ان فلسلفة الحداثة هي التي أعطت ذاك الزخم العقلاني والمشروعية الأخلاقية لمفاهيم ظلت لزمن طويل رهينة رؤى ميتافيزيقية متعالية.

ولان الفكر المستنير وحده غير كاف لتحقيق ابعاد الانسان المتعددة واستعادة ارادته التي انتزعها من كل الأوهام عبر بحث طويل ومضني ، وذلك بعد ان سوّى الانسان علاقته مع الدين ، باعتبار ان هذا الأخير اصبح مسألة شخصية تخضع للإرادة الحرة للفرد و لا تستحق وساطة بينه وبين الله ، كان واجبا ، كذلك، ان يحسم هذا الفرد ، سلميا حينا وبالعنف أحيانا أخرى، صراعه مع السلطة الحاكمة التي تتردد في ربط قوانينها المجحفة بمتطلبات حقوقه، وكان لابد لصاحب السلطة ان يقتنع بان لم يعد له الحق في مقايضة سلطته المطلقة بالأمن والحياة «للرعية»، فانتزعت الفلسفة الحق في الحرية وافتكت كل الحقوق الأخرى التي تحدد من تغوّل الحكومات وتوسع فضاء حقوق الفرد ....ولان الفلسفة ليست مفاهيم جامدة ، بل صيرورة تتطور بتطور الفكر ، فان المفاهيم التي جاءت بها فلسفة الحداثة حول مركزية الانسان وفردانيته وحقوقه ظلت دائما خاضعة للتأمل والمراجعة والتفكيك والنقد والاضافة ، سواء في علاقة بالسلطة او بالملكية او في العقود الأخيرة ، في علاقة الانسان بمحيطه، حيث لم يعد هو سيّد الطبيعة يستغلها كما يشاء .

حين تموت الفلسفة:

اما الأيديولوجيا، سواء كانت مرجعيتها دينية او علمانية، فهي عكس الفلسفة، تبدأ ، عادة ،حين يتوقف الاشخاص عن التفكير والبحث ويقدمون قناعتهم على أساس اطلاقي، و«القناعات»، يقول، الفيلسوف الألماني، نيتشة «اشد خطورة على الحقيقة من الأكاذيب» وبينما تهدف الفلسفة الى البحث عن الحقيقة عبر الشك والتفكيك والبناء والمنطق ، تهدف الأيديولوجيا الى تغيير العالم بناء على أفكار مكتسبة ولكنها ثابتة و»حقائق» لا تقبل الدحض، اذ اخطر ما في الأيديولوجيا انها تتحول ، في اوج طغيانها ،من نسق فكري و قيم فردية ، الى أداة تكبيل للعقل ورؤية مجتزئة لحياتنا ومحيطنا، فتصبح ، حسب تعبير الكاتب المغربي عبدالله العروي، «نظاما فكريا يحجب الواقع» حيث لا يرى «المؤدلج» العالم الا من خلال ثقب بابها المغلق ، حينها تتحول من نظرية واجتهاد فكري الى حقيقة ثابتة،لا تقبل المراجعة وهي في حالة اشتباك دائم مع من حولها.

يقول احد الفلاسفة عن الفرق بين الأيديولوجيا والفلسفة: «اذا رأيت الناس يتناقشون بهدوء ، فتلك هي الفلسفة ، التي تربت على حوارات وجدل سقراط ،اما اذا رأيتهم يتشاجرون فتلك هي الإيديولوجيا... فحين يصير الحوار رفضا متبادلا ، فاعلم ان الفلسفة قد ماتت واخذت الأيديولوجيا مكانها.»

عقيدة الحقد:

سنة 1937، كتب المفكر الهولندي مينو تيربراك ((Mennou Ter Braak مقالا مرجعيا حول النازية الصاعدة آنذاك تحت عنوان «الاشتراكية القومية كعقيدة حقد» وهي دراسة حول الحقد الأيديولوجي الذي تبشر به النازية، مبرزا المخاطر الأخلاقية التي تصاحب كل فكر عقائدي يبشر بالمساواة وينطق باسم عامة الشعب، بغاية الوصول الى السلطة ، فهو قادر على شحن الجماهير بالكراهية والحقد على كل رأي مخالف ، خاصة زمن الازمات الاجتماعية. ولكن ماذا لو تمكن هؤلاء الذين يعتقدون انهم يمتلكون الحقيقة كاملة من الحكم ، مثلما حصل مع ادولف هتلر؟ يقول تير براك : «اذا مسك هؤلاء الحمقى بالسلطة فانهم يتحولون الى طغاة» ويتحول توابعهم الى عبيد.

حاول تيربراك ، سنة 1937 ، ان يقنع اشباه المثقفين وعامة الناس بخطورة ما سمي آنذاك ب»جاذبية النازية» ولكنه فشل ، لذا أصيب باكتئاب شديد وانتحر سنة 1940...اما تحاليله الثاقبة فظلت راهنيتها حيّة كلما برزت الأيديولوجيات الشعبوية، لتنصب نفسها وصية على الديمقراطية وعلى الشعوب.

هكذا ندرك ان امثولة افلاطون، المشار اليها في بداية المقال، لا يجب ان تحيل فقط الى نقد ما الفناه من معتقدات وافكار جُبلنا عليها، بل وكذلك على ما رسخ في اذهاننا من ايديولوجيات مطبقة، تدعي انها تمتلك كامل الحقيقة ولا تقبل بهامش الشك وتدفع ، أحيانا،الى الاقصاء والعنف. واعتقد ان جزءا من أزمتنا الراهنة نحن اننا دخلنا عالم الأيديولوجيا المسيّج دون مناعة فلسفية ولا حتى رؤية سياسية متعقلة.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115