تحت عنوان «الوعد الصادق»، على اسرائيل ليلة 14 افريل 2024 ردا على استهداف القنصلية الايرانية في دمشق الذي ادى الى تصفية بعض القيادات العسكرية العليا الكثير من الجدل . وقد اعتبر الكثيرون أن هذا الهجوم استعراضي تم بالتنسيق مع القوى العظمى وبالتالي لا يمكن تصنيفه في خانة المقاومة لإسرائيل.وتشير هذه التحاليل الى ان هذا الهجوم لم يحقق ايا من اهدافه حيث وقع اعتراض كل المسيرات والصواريخ وإسقاطها قبل وصولها الى الاراضي المحتلة .
في المقابل رحب موقف ثان بهذا الهجوم واعتبره تدعيما لشق المقاومة للاحتلال والذي تحملت حركة حماس وخاصة الشعب الفلسطيني ثقله منذ 7 اكتوبر. وقد ساهمت قوى اخرى ولو بصفة محدودة في هذا الجهد مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن .
لكن صف المقاومة لم يعرف تدخل الدول وخاصة ايران التي اعلنت عن استراتيجية ضبط النفس رغم الضربات التي تلقتها قياداتها العسكرية في سوريا ولبنان.وقد ترك هذا الوضع المجال واسعا للقوى والدول العربية الاخرى التي راهنت على التفاوض والديبلوماسية لوقف الحرب والعدوان على غزة والمرور الى المفاوضات السياسية لتحقيق المطالب الوطنية للشعب الفلسطيني. ولم يتمكن هذا التمشي من تحقيق النتائج المطلوبة امام غطرسة وتعنت الحكومة الاسرائيلية وقادتها . وبالتالي يرى هذا الجانب ان خروج ايران من تحفظها ودخولها في المواجهة العسكرية المباشرة من شانه ان يقوي الضغط على اسرائيل ويدفعها الى قبول الواقع الذي فرضته المقاومة على الارض .
وقد تواصل الجدل بين الموقفين بين رافض الى حد التهكم على الموقف الايراني وداعمين ومساندين له في الفضاء العام في اغلب البلدان العربية. ولا يختلف اثنان في ان هذا الهجوم قد فتح مرحلة جديدة على المستوى الاستراتيجي في المنطقة.ولعل اهم سمة وخاصية لهذه المرحلة الجديدة هي بداية نشأة توازن اقليمي جديد من شانه ان يعدل الانخرام والاختلال الذي عرفته المنطقة منذ حرب الخليج والذي ترك المجال واسعا لإسرائيل لفرض رؤاها وخياراتها السياسية على كل البلدان العربية وصياغة نظام اقليمي احادي طيلة السنوات الاخيرة .
هذا التطور الذي تعرفه المنطقة ليس منفصلا عن التطورات والتحولات الكبرى التي يشهدها عالم ما بعد الهيمنة الامريكية الاحادية والذي تواصل لعقدين من الزمن منذ سقوط جدار برلين سنة 1989 وانهيار المنظومة الاشتراكية الى حدود الازمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009.وكانت هذه الازمات وراء عالم جديد متعدد الاقطاب سمح بظهور قوى اقليمية في عديد المناطق من العالم ساهمت في اعادة صياغة التوازنات الاستراتيجية الكبرى للعالم الجديد.ومن هذه القوى الاقليمية في المنطقة العربية، و التي كان لها تاثير، يمكن ان نشير الى مصر والسعودية وتركيا وإيران .وجاء الهجوم الايراني ليلة 14 اكتوبر ليؤكد هذه التطورات ودخول المنطقة في مرحلة جديدة من التوازنات الاستراتيجية التي ستؤثر مستقبلا على التطورات السياسية الاقليمية.
• في عناصر القوة للقوى الصاعدة
فتحت مرحلة انشطار العولمة وبداية عالم متعدد الاقطاب المجال لظهور وبروز قوى اقليمية جديدة. في رأيي يتطلب بروز القوة الاقليمية ستة شروط او عناصر اساسية.
يهم العنصر الاول الزخم السكاني لهذه الدول وقدرتها على تعبئته في ظل التحديات الاقليمية والسياسية.ويخص العنصر الثاني المجال السياسي وقوة الدولة وصلابة مؤسساتها ومدى قدرتها على توحيد مواطنيها وعقلنتها في صياغة السياسات والاختيارات الكبرى . اما العنصر الثالث فهو عسكري ويهم قدرة الدول على الردع في ظل المخاطر الكبرى. ويعود العنصر الرابع الى المجال الاقتصادي والمالي وقدرة الدول على تعبئة الموارد الضرورية خاصة من الداخل وفي بعض الاحيان من الخارج لتحقيق برامجها وسياساتها الداخلية والإقليمية. اما العنصر الخامس فيهم قدرة هذه الدول على بناء مشروعية اقليمية تمكنها من بناء تحالفات مع دول الجوار. اما العنصر السادس والأخير فيهم قوة وصلابة تحالفات القوى الاقليمية على المستوى العالمي مع اقطاب اخرى توفر لها الدعم الضروري وشيئا من الحماية في صورة مواجهتها لأقطاب عالمية اخرى .
تشكل هذه العناصر اساس القوى الإقليمية وقاعدة جذورها ومشاركتها في ضبط التصورات والتوازنات الاقليمية الكبرى . ورغم انها ضرورية الا ان بعض القوى تمكنت من البروز في غياب او ضعف احد العناصر مما يتطلب توفير ومساهمة اكبر لعناصر اخرى .وقد عرفت المنطقة ظهور قوى اقليمية ساهمت في بناء توازنات استراتيجية أو أفولها مع تراجع هذه القوى .
• تطور التوازنات الاقليمية وأفولها في المنطقة
منذ قرار التقسيم سنة 1948 وظهور دولة اسرائيل عرفت المنطقة ظهور بعض القوى الاقليمية التي قادت المواجهة وساهمت في ظهور توازنات اقليمية .وقد شكلت مصر اول قوة اقليمية في المنطقة وقد تدعم هذا الدور اثر ثورة الضباط الاحرار في 23 يوليو 1952 لتصبح القضية الفلسطينية القضية الام للقومية العربية.
وقد تمكنت مصر من جمع العديد من عناصر القوة التي من ضمنها تكوين جيش حديث وقوة عسكرية بدعم من حليفها الاتحاد السوفياتي .كما مكن البرنامج الاقتصادي من تحديث الهياكل الاقتصادية البالية وبناء برنامج صناعي في مختلف الانشطة الصناعية ومن ضمنها الصناعات الثقيلة.كما ساهم برنامج الاصلاح الزراعي في تحسين ظروف عيش الفلاحين وتعزيز الانتاجية والإنتاج الفلاحي.
على المستوى السياسي نجحت الثورة والضباط الاحرار في حشد دعم سياسي جماهيري واسع لمشروع التحرر الوطني .ونجحت مصر في تعبئة عدد كبير من البلدان العربية مثل سوريا وليبيا والسودان وراء برنامج التحرر والوحدة القومية العربية. وكان للتحالف الاستراتيجي مع الاتحاد السوفايتي انعكاساته على بروز وتدعيم الموقع القوي لمصر.
وقد ساهمت جملة هذه العناصر في بروز مصر كقوة اقليمية وفي ظهور توازن استراتيجي اقليمي في المنطقة ساهم في ايقاف مطامع اسرائيل والدول الكبرى .
ولئن اضعفت هزيمة 1967 مكانة مصر والتوازن الاقليمي الذي فرضته الا ان هذا الوضع لم ينقرض تماما وقد ساهمت حرب 1973 وأسطورة العبور التي حققها الجيش المصري في عودة التوازن الاقليمي وتقوية عوده إلا ان زيادة السادات لإسرائيل في نوفمبر 1977 وإمضائها لاتفاقيات السلام المنفرد قادت الى تراجع الدور المصري في المعادلة الاستراتيجية الاقليمية .
في المقابل سنشهد تصاعد دور العراق كقوة اقليمية بعد وصول صدام حسين الى السلطة في جويلية 1979.وقد نجح العراق في فترة قصيرة في جمع عناصر مهمة مكنته من البروز كقوة اقليمية عسكرية واقتصادية ومالية وديبلوماسية. وسيلعب العراق دورا اساسيا في دعم النظام العربي ضد المطامع الخارجية وستشكل الحرب العراقية الايرانية محطة مهمة في هذا التمشي لكبح جماح الثورة الايرانية ومحاولتها السيطرة على بعض الجزر وعلى بحر العرب. لكن حربي الخليج الثانية والثالثة وسقوط بغداد والنظام البعثي سنة 2003 شكلتا نقطة انعطاف كبرى في التوازنات الاستراتيجية الكبرى على المستوى الاقليمي .
منذ هذه اللحظة شهد التوازن الاقليمي انخراما كبيرا لصالح اسرائيل التي سعت الى الدخول في اتفاقيات سلام مع عدد كبير من الدول العربية والتي كانت آخرها اتفاقية ابراهام التي سهرت على تطبيقها ادارة الرئيس بايدن. وقد اصبح التطبيع والسلام في هذا الواقع الاقليمي الجديد بديلا عن الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. لكن الحرب في غزة منذ 7 اكتوبر وصمود القوى المقاومة نسفتا هذا التوافق واعادتا القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني الى الواجهة .
• نحو توازن اقليمي جديد
كانت لانطلاق المقاومة وصمودها في غزة امام آلة الحرب الاسرائيلية رغم قوة وهمجية العدوان انعكاسات سياسية لا فقط في الداخل الفلسطيني بل كذلك على التوازنات الاقليمية .كما أضاف الهجوم الايراني ليلة 14 افريل محطة جديدة في التطورات والافرازات الاولى لظهور نظام وتوازن اقليمي جديد. ورغم الاختلافات في تقييم هذا الهجوم، لابد من الاشارة الى بعض العناصر المهمة التي تشكل بدايات اولية لبروز هذا البناء الاستراتيجي الجديد في مواجهة الانخرام الذي نعيشه مدة عقدين من الزمن .
يهم العنصر الاول الجوانب السياسية لهذا الهجوم والذي حافظ على بعد محدود لتفادي جر المنطقة الى حرب شاملة قد تقود العالم الى مواجهة عالمية جديدة .وقد اكد المسؤولون الايرانيون ان هذا الهجوم لا يحمل اهدافا عسكرية. وقد قامت السفارة الايرانية لدى الامم المتحدة بالإعلان عن نهايته وفي نفس الوقت الاستعداد للرد في صورة التصعيد من الجانب الاسرائيلي. وقد وصلت هذه الرسالة الى القوى العظمى ومجموعة السبع الكبار وعلى رأسها الولايات المتحدة والتي دفعت بكل ثقلها للضغط على الجانب الاسرائيلي لتفادي الرد والمواجهة .
اما العنصر الثاني فيعود لاستعمال الجانب الايراني للقانون الدولي حيث تم التأكيد على ان هذا الهجوم يدخل في خانة الحق المشروع الذي يضمنه الفصل 51 من ميثاق الامم المتحدة. ويهم العنصر الثالث المسائل العسكرية والمواجهة المباشرة مع اسرائيل التي تلقت لأول مرة منذ حرب 1973 هجوما عسكريا مباشرا على اراضيها من قبل دولة اخرى . ورغم من محدودية هذه الضربة الا انها احتاجت الى تدخل ودعم من قوى كبرى مما يثبت هشاشة التفوق العسكري لهذا الكيان في المنطقة والذي كان لفترة قصيرة احد عناصر الهيمنة واختلال التوازن الاقليمي.
أما العنصر الرابع فيهم القدرة العسكرية الايرانية والتي نجحت الدولة في بنائها رغم حالة الحصار. فقد اشارت عديد التقارير الدولية الى ان ايران تمكنت في السنوات الاخيرة من بناء قوة كبيرة في عديد الصناعات العسكرية وخاصة في ميدان المسيرات. وقد اثبت هذا الهجوم صحة هذه التحاليل.
كما شكلت الحرب في غزة وصمود المقاومة والهجوم الايراني في انعطافات كبيرة ستقود الى تشكل توازنات اقليمية جديدة في الوطن العربي . لكن هذه التوازنات الجديدة تبقى هشة لعديد الاسباب . أول هذه الاسباب ان ايران القوة الاقليمية الجديدة تعرف عديد الخلافات والصراعات مع البلدان العربية.ولئن ساهمت المصالحة التاريخية بين العربية السعودية وإيران بوساطة صينية في ربيع 2023 في التقليص من حدة هذه الخلافات الا ان الدور الاقليمي لإيران سيتأثر بتطور العلاقات الايرانية العربية في السنوات القادمة.كما تشكل الازمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها ايران جراء الحصار والوضع السياسي الداخلي عاملين مهمين من شانهما ان يحدا من عناصر القوة لديها.
ستكون الحرب والعدوان على غزة وراء بروز اسئلة مستقبلية كبرى . واحد هذه الاسئلة يهم بروز توازن اقليمي جديد سيقود الى فرض الحقوق والوطنية للشعب الفلسطيني كركيزة ومدخل للسلام والاستقرار في المنطقة