بفضل تضحيات أجيال متعاقبة من التونسيين. و لكن و رغم هذه المدة الطويلة فلا تزال بلادنا بعيدة عن تحقيق ما يتطلع له التونسيون بما عبر عنه مرارا الزعيم بورقيبة باللحاق بركب الأمم المتحضرة.
فعلى المستوى الإقتصادي لا تزال بلادنا من البلدان الأكثر تخلفا في منطقتنا و لم تتمكن بعد من الإقلاع الإقتصادي الذي كان أحد أهداف مؤسسي الدولة الوطنية.
أما على المستوى السياسي و بعد 50 سنة من نظام ديكتاتوري ساد في تونس منذ الإستقلال مكنت ثورة 14 جانفي 2011 من إشاعة الحريات العامة و الفردية على غرار المجتمعات المتحضرة و الإنطلاق في انتقال ديمقراطي واعد. و للأسف بدأ هذا الأمل يندثر شيئا فشيئا لتدخل بلادنا انتقالا عكسيا نحو الإستبداد و الحكم الفردي.
و حسب عديد المفكرين فإن النخب les élites في كل مجتمع تؤدي دورا هاما في تقدم الشعوب أو تخلفها. فعلى عكس كارل ماركس الذي اعتبر أن الطبقة العاملة تتوصل إلى الوعي بنفسها انطلاقا من ظروفها الإقتصادية تحت النظام الرأسمالي فإن فلاديمير لينين ابتدع نظرية "الوعي يأتي للطبقة العاملة من الخارج" أي من مجموعة من المثقفين الثوريين و ليس حصريا عن طريق تجربتها الخاصة. لذلك شدد في مؤلفه "ما العمل" على ضرورة تشكيل حزب ثوري تتمل مهمته في توعية العمال بضرورة الثورة. من ناحيته اعتبر أنطونيو غرامشي صاحب نظرية الهيمنة الثقافية l’hégémonie culturelle أن للنخب نفوذا على المجتمع عبر الايديولوجيا التي تنشرها في المدرسة و الكنيسة و وسائل الإعلام و الإنتاج الفكري بصورة عامة.
لذلك نعتبر أن للنخب التونسية سواء في الحكم أو خارجه مسؤولية كبيرة في تخلف بلادنا بعد 70 سنة من الإستقلال كما تلقى عليها مسؤوليات جوهرية في النهوض به في المستقبل.
الإستبداد بالسلطة إلى أخر رمق :موروث عربي؟؟؟
من أبرز مظاهر التخلف لدى النخب التونسية هوالتكالب على السلطة و الإستحواذ عليها إلى أخر رمق و إرساء نظام استبدادي يقمع الحريات و يتصدى لكل المنافسين و المعارضين. فلمدة نصف قرن لم تشهد تونس سوى رئيسين تمسكا بالسلطة حتى أخر رمق و أسسوا ديكتاتوريات تسببت في تخلف البلاد لسنوات. ثم رحل كلاهما في ظروف مأساوية تاركين البلاد تتخبط في أزمات اقتصادية و اجتماعية عميقة.
فهل هو طبيعة كامنة في البشر أم أنه موروث ثقافي من تاريخنا منذ وفاة الرسول حيث قتل جميع الخلفاء ثم الفتنة الكبرى و الصراع الدموي على الحكم الذي تواصل لقرون عديدة و لم ينته إلا بالإستعمار الأجنبي.
و لأن نفس الوسائل ستؤدي عموما إلى نفس النتائج فإن إعادة إنتاج نظام استبدادي و ما ينتج عنه من صراع على السلطة غير مؤطر بانتخابات ديمقراطية سوف يلقي ببلادنا مجددا في طريق التقهقر و التخلف.
النزعات اللاديمقراطية و الإستبدادية لدى النخب التونسية
من أسباب ترسيخ الإستبداد في بلادنا عبر السنين هو أن أقساما هامة من النخب التونسية سواء في أجهزة الدولة أو بين النخب السياسية أو الجامعية أو الإعلامية و غيرها كانت خلال نصف قرن تساند الديكتاتورية و تبرر لها و تنبطح أمامها.
لا شك أن جزءا من النخب التي تبرر ضرب الحريات و تساند الإستبداد تفعل ذلك من أجل تحقيق مصالح و منافع و غنائم لها و للمقربين منها و هي نخب انتهازية ساهمت خلال تاريخ تونس في استمرار مظاهر الإستبداد و التخلف في بلادنا. و لكن هنالك أيضا نخب تونسية لا تؤمن لا بضرورة الحريات و لا بالديمقراطية و تعتبر أن قمع الحريات و استئصال التيارات الفكرية و السياسية و الإستبداد هي الطريقة الأمثل لتسيير المجتمعات. و هذه التوجهات اللاديمقراطية تخترق جميع العائلات السياسية و الفكرية من يساريين و قوميين و دستورين و تخترق أيضا النخب في الإدارة و أجهزة الدولة و النخب الجامعية و الإعلامية و غيرها. و ذلك نتيجة انغلاق أيديوولوجيي أو بتأثير تاريخنا العربي الإسلامي حيث سيطر الإستبداد و الظلامية لقرون طويلة في بلداننا و أصبح من الصعب التخلص من هذا الإرث الثقيل.
و لا يمكن أن تتقدم مجتمعاتنا إلا عندما تصبح الحريات و الديمقراطية قاسما مشتركا لكل النخب و لسائر المواطنين
استشراء الإنتهازية و النفعية و الفساد في صفوف النخب
يشكل الإستبداد و الديكتاتورية الأرضية الملائمة لإنتشار أكثر الصفات فضاعة لدى الإنسان : الخوف و الفردانية الإنتهازية و الفساد. فأجزاء هامة من النخب انتهازية لا تهمها سوى مصالحها. فتسعى للتقرب و التزلف للحكام مهما كانت توجهاتهم من أجل قضاء مصالحهم و تحقيق مكاسب لهم و لذويهم. فالسلطة في مخيالنا التاريخي ارتبطت بالغنيمة و لا تعني خدمة الشأن العام بقدر ما تعني قضاء المصالح الخاصة.
و بدون تخلص النخب من عقلية الغنيمة و القطع مع الإنتهازية فلن نتقدم إلى الأمام
في عيد الإستقلال : إما النهوض بمجتمعنا و الإ فهو الانهيار الجماعي
من يتوهم بأن الخلاص في الحل الفردي فهو واهم. إذ يخيل للذين يساندون الإستبداد أنهم سيكونون في منأى عن مساوئه و هذا خطأ جسيم. فالدور أت على الجميع.
كما يخيل للذين حققوا بعض المنافع الشخصية من تقربهم للسلطة أنهم بمنأى عن الهشاشة الإقتصادية و انهم محميين من سوء الضروف التي تخيم على المجتمع فهم مخطئون. فمهما كانت المكاسب أو الثروة أو الحصانة فإنه و مادام وضع المجتمع غير صحي و غير سوي فإن كل مكاسبه مهددة. ففي الدول الفاشلة و المجتمعات المتخلفة ليس هناك معنى للرفاهية الفردية في المنزل أو العمل. فخارجها سيصطدم بكل صعوبات المجتمع و أزماته سواء على صعيده الشخصي أو العائلي..
إن الحل لمجتمعنا هو في ترك الحلول الفردية و السعي للخلاص الجماعي و ذلك بالتخلص من المعوقات التي تعيق تطور مجتمعنا سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. فليس مكتوبا على بلادنا أن تبقى دولة متخلفة و فاشلة في حين يتقدم غيرنا بخطى عملاقة. فلا يمكن أن يعيش التونسيون بين حيرة الهجرة إلى بلدان الشمال أو تحمل وضع داخلي لا يطاق. فهذا يعني الإنهيار للجميع مهما كانت مواقعهم.
و في هذا المسار تلقى على النخب في تونس مسؤولية النهوض بالبلاد مع ما يتطلبه من تضحيات أسوة بجيل الإستقلال الذي دفع التضحيات من أجل التحرر الوطني.
و من يكرم الشهداء يتبع خطاهم.