ردا على الزيارات المكوكية التي قامت بها أواخر شهر أوت كل من تيريزا ماي و أنجيلا ميركل لعدد من الدول الإفريقية في خطوة دبلوماسية تكتسي طابعا اقتصاديا يهدف بالأساس إلى مقاومة المد الصيني في إفريقيا.
وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ قد استقبل بحفاوة لافتة للأنظار 53 رئيس دولة ورئيس حكومة إفريقية صحبة 1000 مشارك من القارة السوداء اعتبرها الحاضرون كنقيض لهجمات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الدول الإفريقية التي نعتها بنعوت غير لائقة. القمة جاءت تتويجا للزيارات الأربع للرئيس الصيني لإفريقيا في الخمس سنوات الماضية مما يشير إلى التحول الإستراتيجي في العلاقات الصينية الإفريقية. وشارك في القمة أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة الذي اعتبر أنّ «التعاون الصيني الإفريقي أساسي في نجاح إفريقيا وإنه وسيلة هامة في تحسين منوال النمو العالمي و الحوكمة الدولية و تطور سليم للعولمة الإقتصادية».
و أكد الزعيم الصيني في خطابه الافتتاحي على «المصير المشترك» بين الصين وإفريقيا وأضاف قائلا: «نحن نعتمد دائما ممارسة «اللاءات الخمس» في علاقاتنا مع إفريقيا يعنى «لا» للتدخل في بحث البلدان الإفريقية على نهج للنمو يتماشى و أوضاعهم الوطنية، «لا» للتدخل في الأوضاع الداخلية الإفريقية، «لا» لفرض إرادتنا على إفريقيا، «لا» لمساومة دعمنا لإفريقيا بشروط سياسية، «لا» للبحث على منافع سياسية ضيقة في تعاوننا في ميادين الاستثمار و التمويل مع إفريقيا».ووعد باستثمار 60 مليار دولار لفائدة إفريقيا في مشاريع تنموية مختلفة وبمسح ديون البلدان الأكثر فقرا. وكان الرئيس الصيني قد أكد في زيارته لإفريقيا في شهر جويلية على مشاركة القارة السوداء في مشروع «طرق الحرير الجديدة» وفي تشكيل «مجموعة صينية إفريقية» لمقاومة نفوذ البلدان الغربية و مصالحها التي لا تخدم الشعوب الإفريقية.
التغول الصيني
اختارت الصين إفريقيا، في إطار منافستها للبلدان الغربية، مسرحا لمد نفوذها الإستراتيجي منذ عدة سنين. هدفها الأول تمثل في استغلال الطاقة و الأراضي الزراعية من جهة وتصدير منتوجاتها إلى الأسواق الإفريقية من جهة أخرى. مع بداية رئاسة شي جين بينغ تطور «المشروع الإفريقي» لإدراج القارة في طريق الحرير الجديدة التي تؤسس لإرساء مسالك عصرية متطورة للتصدير و الإنتاج (طرق سريعة، شبكات سكك حديد، مطارات، مواني، مناجم، مزارع كبرى) تخدم مباشرة تصنيع الدول الإفريقية التي تختارها الصين و تدعم المصالح الصينية في المقابل.
حسب وكالة «موديز» ، تمكنت الصين من فتح 2500 مؤسسة في افريقية و من تأمين 114 مليار دولار من المبادلات منذ 2016. و حذر صندوق النقد الدولي من تفاقم نسبة المديونية الإفريقية لدى الصين التي وصلت إلى 132 مليار دولار منذ 20 سنة. لكن يبدو أن الصين ماضية بدون رجعة في ربط إفريقيا باقتصادها بأسلوب جديد. عوض منح القروض للدول اقترحت الصين على الدول الإفريقية حزمة من المساهمات: 15 مليار دولار كقروض بدون فائدة، 20 مليار دولار كقروض عادية، 10 مليارات لتكوين صندوق لتمويل مشاريع تنموية و5 مليارات لدعم الصادرات الإفريقية. أما الاستثمارات الصينية المباشرة فلم تتعدّ حسب معطيات البنك الدولي، 4،2 مليار دولار عام 2016.
خدمات و أعمال
هذه الأموال سوف تستخدم في السنوات القادمة ، في إطار استراتيجية شاملة، لزرع شبكة من المواصلات تربط الدول الإفريقية فيما بينها ، مثل سكك الحديد بين مونباسا ونيروبي ، وشبكة الألياف البصرية التي انطلقت من جيبوتي لتكون شبكة اتصالات عملاقة بين جل دول جنوب الصحراء وبلدان البحر الأبيض المتوسط. وهي أكبر شبكة اتصالات سوف تحدث في الأعوام القادمة ثورة رقمية في إفريقيا. وتحرص الصين على بناء «سمعة» إيجابية لدى القادة والشعوب الإفريقية ، بعيدة عن التوجه الإستعماري والإمبريالي الذي اتبعته إلى حد الآن الدول الغربية. أحسن مثال هو ما قامت به الصين في الجزائر من أعمال للقضاء على مشكلة السكن في العاصمة ومشروع بناء أكبر جامع في افريقيا الذي جندت له باي جين 10 آلاف عامل تم نقلهم على متن الطائرة لتحقيق المشروع الرئاسي في موعده المحدد.
لكن هذا البعد لا يخفي رغبة باي جين في تأمين استثماراتها. من ذلك فتح قاعدة عسكرية في جيبوتي تؤمن استثماراتها في إفريقيا و في مسالك طريق الحرير. و إن تتخوف الدول الغربية من المد العسكري الصيني فإنها غير قادرة إلى حد ألآن على منعه. بل أن باقي الدول الغربية، و خاصة فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية، عملت على تدعيم تواجدها العسكري في إفريقيا، لمقاومة الجماعات الإرهابية حسب رأيها، من أجل حماية مصالحها وتحسبا لآي تغيير يمس بها.
إستراتيجيات أوروبية متفرقة
يبقى أن البلدان الأوروبية الفاعلة في إفريقيا لم تجد الصيغة المثلى للتصدي للنفوذ الصيني المتزايد في القارة. سبب ذلك أن كل دولة تبحث على تأمين مصالحها دون تشكيل قوة أوروبية مشتركة يمكن أن تضاهي النفوذ الصيني. وهو ما اعترفت به تريزا ماي الوزيرة الأولى البريطانية في جولتها الأخيرة في نيجيريا و كينيا و جنوب إفريقيا . همها الأول هو تأمين نمو الإقتصاد البريطاني في ظل «البريكسيت» وذلك خشية من الوقوع في أزمة اقتصادية. بالنسبة لبريطانيا إفريقيا هي جزء من امتدادها الإستراتيجي. لكن حجم قوتها المالية لا يقارن بالقوة الصينية الضاربة. فقد أعلنت ماي أنها تخصص 10 مليار جنيه لدعم اتفاقية تجارية مع دول الإتحاد الجمركي لجنوب إفريقيا الذي يضم 5 دول مع الموزمبيق. و وعدت برفع الإستثمارات إلى 8 مليار جنيه دون ذكر ميادين صرفها.
من جهتها قامت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بجولة في السنغال و غانا و نيجيريا لفتح آفاق تعاون جديدة تتمحور حول المصالح الآنية الألمانية، خاصة مقاومة موجات الهجرة نحو أوروبا. و اقترحت المستشارة على الدول الإفريقية إستراتيجية تهدف إلى دعم جهود التنمية من أجل توطين الشباب الإفريقي في محيطه الطبيعي وإعطائه فرص عمل تمنعه من المغامرة والإقدام على الهجرة مقابل إرساء مشروع لمقاومة شبكات المتاجرة بالبشر، بالتعاون مع الدول المصدرة للهجرة.
لكن الخطة الأقرب للتحقيق تبقى تلك التي أعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه أمام السفراء في بداية هذا الشهر و التي وضح فيها أن «إفريقيا ليست فقط مخاطبنا للحديث عن الأزمات التي تمر بها، بل هي أولا حليفنا من أجل خلق التوازنات الكبرى في عالم الغد». وهي في منظوره «الشريك الأول» الذي يمكن من «التأثير على مجريات العالم». و كان الرئيس الفرنسي، الذي زار 11 دولة افريقية في 9 جولات منذ انتخابه، قد غير محتوى إستراتيجيته مع الدخول القوي للصين في الساحة الإفريقية. لكن هل يمكن للدول الأوروبية، التي ليس لها سياسة افريقية موحدة و لا تملك نفس القدرات المالية ، أن تحد من المستقبل الصيني للقارة السوداء؟.