وهم تحت وطأة مخلفات قمة السبعة الكبار التي فتح فيها الرئيس الأمريكي النار على حلفائه مهددا بحرب اقتصادية ضدهم و كذلك تحت مخلفات الاتهامات الموجهة لألمانيا قبل انعقاد القمة. و لو أن الرئيس ترامب كان قد صرح في بداية عام 2017 أن منظمة الأطلسي أصبحت «بغير جدوى» فإنه تراجع عن ذلك مركزا انتقاداته على المساهمات المالية للدول الأعضاء الذين لم يفوا بوعدهم برفع مساهماتهم إلى حدود 2 % من الدخل العام.
و اعتبر رئيس المجلس الأوروبي دونالد داسك أن تصريحات دونالد ترامب «بغيضة» و أن عليه «تقدير حلفائه» مذكرا أن الدول الأعضاء كانت سباقة في مناصرة الولايات المتحدة ابان هجمات 11 سبتمبر و استخدمت لأول مرة في تاريخ المنظمة البند الخامس من ميثاق الحلف الذي يسمح بمساندة عضو إذا ما تعرض لهجوم. و كانت أجواء النقاشات خلال اليوم الأول «حادة» بين ترامب و باقي الأعضاء حيث اعتبر أن الولايات المتحدة «تحمي ألمانيا و فرنسا و كل هذه البلدان». وهو ما اعتبره الحاضرون «إهانة» لهم. لكن الحلف الأطلسي الذي أصبح مؤسسة عريقة لها نفوذ في العالم تمكن من الصمود كمؤسسة في وجه الهجوم الأمريكي.
قضية الميزانية
أهم الإنتقادات الأمريكية تمحورت حول عبء الميزانية. فلقد كرر ترامب أن بلاده تمول 70 % من ميزانية الحلف و أن على الدول الأعضاء الإلتزام برفع مساهماتها لحدود 2 % من الدخل العام. لكن بعض الدول الكبرى مثل فرنسا (1،81 %) وألمانيا (1،24 %) وإيطاليا (1،15 %) و اسبانيا (0،90 %) لم تصل إلى المساهمة المطلوبة. وهو ما عبر عنه ترامب بقوله : «كثير من الدول مدانة لنا بأموال كثيرة منذ سنين». و إن كان ترامب محق في هذا الجانب فإن طريقة معالجة القضية بصورة فذة و غير لائقة في بعض الأحيان أحرجت زعماء أوروبا الذين دخلوا في منطق البحث عن بديل للدرع الواقي الأمريكي.
و لو التزم الجميع بنسبة 2 % ، فإن المانيا و فرنسا دخلتا في مشروع بناء نظام دفاعي أوروبي مستقل سوف يدخل في مدى غير بعيد في منافسة العملاق الأمريكي. فعزم الثنائي الألماني الفرنسي على صنع طائرات حربية و دبابات ومدرعات و أسلحة خفيفة وصواريخ وأنظمة إلكترونية عسكرية متطورة، مستقلة عن نظام الدفاع الأمريكي الذي يضمن سلامة أوروبا الآن، سوف يشكل خسارة اقتصادية للولايات المتحدة في مرحلة أولى ، وفي مرحلة ثانية، منافسة شرسة في سوق السلاح العالمية التي تتزود في غالبيتها من السوق الأمريكية.
الهجوم على ألمانيا
فاجأ الرئيس الأمريكي الجميع بشنه هجوما على ألمانيا متهما إياها بأنها «تحت السيطرة التامة موسكو لآنها سـوف تستهــلك 60 % إلى 79 % من طاقتها من الأنبوب الروسي». و لو أن الأرقام المقدمة غير صحيحة لأن ألمانيا تستورد فقط 37% من احتياجاتها في الطاقة من روسيا، فإن شراسة الهجوم تشير إلى التخوف الأمريكي من «استقلالية» ألمانيا بمساندة فرنسية. وهو ما عبرت عنه المستشارة أنجيلا ميركل في ردها على الإتهامات الأمريكية مؤكدة على «استقلال القرار الألماني» . وهو أول تصريح من نوعه يصدر عن مسؤول سامي ألماني بعد الحرب العالمية الثانية. من المعلوم أن رجوع ألمانيا إلى المجتمع الدولي بعد التجربة النازية «كفلته» الولايات المتحدة الأمريكية بزرعها قواعد عسكرية في جل المناطق الألمانية ، و كذلك الإيطالية، و تجنيد 70 ألف عسكري متواجدين في القواعد الألمانية و تركيز نظم تعاون مع الأمن و المخابرات والأجهزة الحكومية الألمانية.
إرادة «التحرر» من الهيمنة الأمريكية التي عبرت عنها المستشارة الألمانية هو الرد الأوروبي على الغطرسة الأمريكية التي يمارسها دونالد ترامب على حلفائه على الصعيدين الأمني و الاقتصادي. و قد كرر ترامب مرة أخرى ترابط الجانبين إذ انتقد مستوى التبادل بين الولايات المتحدة و أوروبا معتبرا أن الأخيرة تستغل الحماية الأمريكية من أجل الانتفاع من العلاقات التجارية والاقتصادية مع الولايات المتحدة.
رهانات عالقة
الجديد في الأمر اليوم أن منظمة الحلف الأطلسي أصبحت مؤسسة دولية لها حضور في جل أنحاء العالم خاصة بعد حرب الخليج الأولى و انهيار جدار برلين حيث وسعت في رقعة تدخلاتها في يوغسلافيا و البوسنة و الهرسك وكوسوفو وألبانيا. ثم تدخل الحلف في الحرب في أفغانستان و لا يزال و كذلك في الحرب على الإرهاب في سوريا و العراق. و في غياب حلف فرسوفيا المنحل أصبح الحلف الأطلسي حارس النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة.
لكن رهانات جديدة أفرزتها المتغيرات الدولية مثل العبء المالي و توسيع رقعة التدخلات و صعود و تكاثر المنظمات الإرهابية في جل قارات العالم. وهو ما يحتم على المنظمة تطوير ممارساتها و نظم حوكمتها في عالم تعددت فيه الأقطاب الفاعلة عل المستوى العسكري والإقتصادي. و تجد المنظمة في روسيا و شخص فلاديمير بوتين منافسا عويصا في سوريا و العراق و جنوب المتوسط حيث سجلت موسكو تقدما في ربط علاقات مع الدول النامية التي تريد التخلص من الكابوس الأمريكي لما له من أقوال وأفعال تهز ركائز الدبلوماسية الدولية التي اعتادتها دول العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
الحلف الأطلسي اليوم أمام اختبار تاريخي : إما أن يتأقلم مع استقلالية القرار الأوروبي والأقطاب الإقليمية الأخرى أو يتغير ليترك الباب مفتوحا أمام تنظيم دولي جديد يراعي التوازنات الحقيقية العسكرية و الاقتصادية الجديدة.