على حساب سيادة الشعوب والحكومات القومية. وتمثل ذلك في صعود الأحزاب ذات النزعة القومية والشعبوية والراديكالية المناهضة للآخر وللمهاجرين في الصف الأول في عديد البلدان الأوروبية خاصة مع تواصل العمليات الإرهابية التي قام بها تنظيم داعش الارهابي في فرنسا و ألمانيا.
و شهدت من جراء ذلك الساحة السياسة الأوروبية تقلبات جعلت القادة الأوروبيين يدخلون في عملية مراجعة للسياسات الأوروبية على ضوء تلك المستجدات. أما على الصعيد الخارجي فإن نجاح أجندة الرئيس الروسي في الملف السوري رافقه تقاعس تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشل في جويلية 2016 التي أربكت التوازنات التقليدية و قربت تركيا من الحلف الروسي الإيراني على حساب النفوذ الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط. مع دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سوف تضطر أوروبا إلى إعادة فرز أوراقها الإستراتيجية للحصول على دور جديد في التوازنات الدولية الجديدة مع تقارب ترامب المعلن من وجهات نظر بوتين و الذي يبشر بإرساء نظام عالمي جديد.
تونس في واجهة الإرهاب
في مناسبتين على الأقل تدخل تونس بقوة في الحياة السياسية الأوروبية عبر عمليتين إرهابيتين الأولى في مدينة «نيس « الفرنسية يوم 14 جويلية و الثانية في مدينة برلين الألمانية يوم 19 ديسمبر قام بهما تونسيان تابعان لتنظيم داعش الإرهابي و خلفا عشرات القتلى والجرحى . أسماء تونسية أخرى شاركت في التحضير لعمليات إرهابية تم القبض عليها وترحيلها إلى تونس في إطار الحرب على الإرهاب رفعت القناع على الأخطبوط الإرهابي العالمي الذي يجند الشباب في أوروبا والعالم العربي لمقاومة الدول الغربية والبلدان العربية التي لا تتبع المبادئ السلفية الراديكالية .
مع تداعيات العمليات الإرهابية لعام 2015 و وصول مئات الآلاف من اللاجئين للتراب الأوروبي، غيرت الهجمات الإرهابية موقف الرأي العام الأوروبي الذي أصبح يميل أكثر فأكثر لأطروحات أحزاب اليمين المتطرف و الأحزاب الشعبوية التي تجعل من الهجرة واللجوء الملفين الأولين المتسببين في مشاكل المجتمعات الأوروبية التي تعاني من البطالة والتدهور الاقتصادي وتراجع المكاسب الاجتماعية. وهو ما جعل بعض الحكومات الأوروبية مثل الحكومة البولونية والحكومة المجرية تتخذ إجراءات صارمة تخالف المبادئ والقيم الأوروبية المؤسسة للإتحاد على أساس احترام حقوق الإنسان. هذا الوضع فتح الباب أمام تجاوزات للنظم الأوروبية وفي مقدمتها احترام اتفاق شنقل .
«البريكست» و خطر انحلال الإتحاد الأوروبي
كان نجاح الإستفتاء حول أوروبا في فصل بريطانيا عن الإتحاد بمثابة الزلزال الذي هز أركان أوروبا وأدخلها في تساؤلات حول مصيرها و في نقاشات حول سبل الإبقاء على الإتحاد مع إدخال تغييرات هيكلية على تسييره و سن نظام سياسي جديد للدول ال27 المنضوية تحت رايته. خروج بريطانيا الفعلي الذي سوف يبدأ في ربيع 2017 يفتح الباب أمام المجهول لما للعلاقة بين الجهتين من ترابط تجسد في 3000 معاهدة وجب التفاوض في شأنها وهي تمس كل أوجه الحياة في أوروبا.
مباشرة بعد الإستفتاء، لم تعد قضية الخروج من الإتحاد، التي تنادي بها كل المنظمات الشعبوية ، من المحرمات. بل شهدت الساحة السياسية صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة والتنظيمات الراديكالية في عديد الإنتخابات في النمسا وألمانيا و إيطاليا و بريطانية. وأخطر سيناريو يهدد الإتحاد الأوروبي يكمن في الإنتخابات التشريعية الإيطالية القادمة التي يمكن أن تسفر عن فوز حزب «الخمس نجوم» بزعامة الكوميدي بيبي غريلو الذي أعلن تحالفه مع حزب رابطة الشمال المتطرف والمعادي لأوروبا وكذلك ما تبقى من حزب «فورسا إيطاليا». كل هذه التنظيمات الإيطالية، التي سطع نجمها في الاستفتاء على الدستور الذي خسره ماتيو رانزي وفي كل استطلاعات الرأي منذ ستة أشهر، تعادي الإتحاد الأوروبي و تخطط لخروج إيطاليا من منطقة اليورو. وهي مخاطر إن حصلت سوف تقضي بدون رجعة على المشروع الأوروبي.وهو ما يمكن أن يكرس انحلال الإتحاد ورجوع الدول القومية بما في ذلك من تداعيات سلبية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والمالية على المستوى الدولي.
النزاع الأوكراني المفتعل
أكدت سنة 2016 إخفاق الأوروبيين في التوصل إلى حل للأزمة الأوكرانية بسبب عدم التزام الحكومة الأوكرانية بتطبيق اتفاق «مينسك» الشيء الذي أحرج العواصم الأوروبية الراعية للاتفاق والتي وجدت نفسها في التسلل أمام صمود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وجه منظمة الحلف الأطلسي وإستراتيجية التوسع تجاه الحدود الروسية التي مارستها بمساندة أوروبية.
تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية في أوكرانيا لن يساعد الدول الأوروبية على فرض حل نهائي ضد المصالح الروسية خاصة أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قررا عدم مساندة الحكومة الأوكرانية في صورة عدم القيام بالإصلاحات الضرورية وبخاصة مقاومة الفساد الذي طال شخصيات بارزة في الحكومات المتعاقبة. مع التحاق تركيا بالتحالف الروسي الإيراني في شأن سوريا الذي طرح جانبا الدور الأوروبي والأمريكي لا يرى المراقبون كيف يمكن لدول الإتحاد الأوروبي أن تسترجع دورا قياديا في الملف الأوكراني. وبدت بعض العواصم في التفكير مجددا في هيكلة الحلف الأطلسي مع نداء الرئيس الأمريكي الجديد إلى إعادة النظر في تمويله.
الخروج من الأزمة الإقتصادية
خروج بريطانيا من الإتحاد أعاد طرح السبل الكفيلة للخروج من الأزمة الإقتصادية التي تطال دول جنوب أوروبا بعكس دول الشمال، وفي مقدمتها ألمانيا، التي سبق ان قامت بإصلاحات جوهرية في إطار إدارة النظام الليبرالي في حين تمسكت فرنسا وإيطاليا واسبانيا و البرتغال بالمكاسب الاجتماعية للطبقات الضعيفة و التي أثقلت كاهل الميزانية العمومية لتلك البلدان. وهو ما يقسم الإتحاد إلى شطرين لا يتفقان على منوال تنموي موحد.
الحلول التجارية ليست بالضرورة الحل الأمثل للخروج من الأزمة. واتضح ذلك في تداعيات الاتفاق حول الملف النووي الإيراني. فبالرغم من رجوع إيران الى الساحة الدولية والتزام الرئيس حسن روحاني خلال زيارته لفرنسا و إيطاليا في بداية السنة بإعادة العلاقات التجارية مع أوروبا و توقيع عديد الاتفاقات منها شراء 100 طائرة من نوع آرباس و معاهدات تخص مجالات الطاقة والإعمار والبنية التحتية والمواصلات، فإن الدول المعنية لم تجد طريقها نحو الخروج من الركود الاقتصادي. وبان ذلك بوضوح مع نجاح الرئيس فرنسوا هولاند في بيع عشرات من الطائرات الحربية الفرنسية من نوع رافال إلى مصر وقطر والهند. ولم تجن فرنسا لم تجن بالضرورة أرباحا مكنتها من تجاوز عقبات البطالة والركود الاقتصادي.
إستقالات في انتظار انتخابات 2017
لم تمض سنة 2016 بدون أن تقضي على طموحات عدد من الزعماء الأوروبيين في الدول الفاعلة في الإتحاد. أولها شخصية دافيد كامرون الذي قدم استقالته عقب فشله في الاستفتاء حول أوروبا وترك مكانه لتيريزا ماي التي سوف تسهر على إدارة خروج بريطانيا الفعلي من الإتحاد الأوروبي. ثم جاء دور رئيس الحكومة الإيطالي ماتيو رانزي الذي فشل في تمرير التحوير الدستوري في الاستفتاء الأخير. استقالة رانزي تفتح بابا خطيرا لصعود التشكيلات المعادية لأوروبا للحكم في إيطاليا. ثالث زعيم يستقيل هو مانويل فالس الوزير الأول الفرنسي الذي قرر، عقب تنحي الرئيس فرنسوا هولاند من المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة، خوض معركة تمثيل اليسار في انتخابات ماي القادم. لا تخفي هذه الاستقالات المشاكل التي تتعرض لها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل جراء إدارتها أزمة اللاجئين والهجمات الإرهابية المتكررة على ألمانيا من قبل بعض الإرهابيين المندسين في صفوف اللاجئين القادمين من سوريا وأفغانستان وباكستان.
بالتزامن مع هذه الاستقالات التي طالت دول مؤسسة للإتحاد الأوروبي والتي يمكن أن تفضي إلى انتقال السلطة العام القادم إلى اليمين المحافظ في فرنسا وايطاليا برزت عديد المؤشرات عن إمكانية تصدر اليمين المتطرف الصفحات الأولى للجرائد السنة القادمة مع الصعود المذهل لبعض التشكيلات في النمسا وهولندا وإيطاليا وفرنسا. فشل ممثل اليمين المتطرف في رئاسة النمسا لا يخفي أنه حصل على قرابة 47 % من الأصوات أمام الرئيس الجديد ألكسندر فان در بيلن. وهو رقم يشير إلى أن أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا أصبحت قادرة بمفردها، وبدون تحالف مع تنظيمات سياسية أخرى، الحصول على أغلبية و الفوز بآراء الناخبين الذين، أكثر من قبل، ينتفضون ضد النخب الحاكمة في أوروبا منذ عقود.